على الرغم من مرور أشهر على تشكيل الحكومة الإسرائيلية، وعلى الرغم من التأييد الأمريكي الكبير لإسرائيل على كل المستويات، وعلى كافة الجبهات، بالرغم ممّا يُقال عن تحفظات أمريكية على جملة قضايا داخلية إسرائيلية، بما في ذلك العودة الاستيطانية إلى مستوطنة "حومش" وشرعنتها، على الرغم من كل ذلك؛ لا زالت أبواب البيت الأبيض مغلقة في وجه نتنياهو بقرار علني من بايدن أطلقه عبر تصريح في مارس الماضي، مشترطًا حينذاك دعوة نتنياهو للبيت الأبيض بتأكيد التراجع عن التشريعات القضائية.
في إسرائيل يُظهرون انزعاجًا كبيرًا من إصرار بايدن على عدم استقبال نتنياهو، رغم الضغوط الكبيرة التي يُمارسها اللوبي الصهيوني داخل أمريكا، ويعتبرون ذلك مسًا بمكانة إسرائيل ورسالة ضمنية للعواصم الغربية، هذا الموقف بات أكثر حساسية في إسرائيل في هذه الفترة بالذات، الفترة التي يُبدي فيها نتنياهو رغبة بالتراجع الجزئي على الأقل فيما يتعلق بالتشريعات القضائية، والأكثر إقلاقًا هو ما يعتقده الإسرائيليون من أن إدارة البيت الأبيض تمضي قدمًا وبسرية كبيرة في محاولة العودة إلى المفاوضات الأمريكية - الإيرانية، وهناك من يتحدث عن تقدم ما في المفاوضات.
القلق الإسرائيلي الكبير من إحجام البيت الأبيض عن استقبال نتنياهو والتقدم على مسار التفاوض مع إيران، بعيدًا عن التأثيرات والضغوط الإسرائيلية؛ جعل البعض في إسرائيل يذهب بعيدًا في تفسير أسباب إصرار بايدن على عدم استقبال نتنياهو، وأن السبب الحقيقي هو عدم منح نتنياهو منصة داخل أمريكا وداخل البيت الأبيض للتأثير على مجريات التفاوض الأمريكي - الإيراني، وأن ربط الأمريكان لمنع استقبال نتنياهو بأمر التشريعات القضائية ليس إلا للتغطية على السبب الحقيقي.
وبتقديرنا، فإن مثل هذه القراءة الإسرائيلية - إذا ما كانت صحيحة - عن أسباب الإحجام عن استقبال نتنياهو وعن التقدم على مسار المفاوضات الأمريكية مع إيران، إضافة إلى أسباب أخرى مثل تعزيز الردع، ما يفسر التهديدات الإسرائيلية العلنية والرسمية لإيران ولحزب الله، والتي تترافق مع مناورة كبيرة على مدار أسبوعيْن، وقد ترافقت التهديدات مع مجموعة كبيرة من البيانات والتقديرات الأمنية الإسرائيلية عن تقدم إيراني على مسار إنتاج القنبلة النووية.
ويأتي في هذا السياق أيضًا ما نُشر عن الحادثة الغامضة لغرق ضابط من ضباط "الموساد" مع عدد من أفراد المخابرات الإيطالية في بحيرة في إيطاليا، وقد ذكرت صحيفة "رببليكا دولا سيرا" الإيطالية تفاصيل مقتضبة وكأنها نص إسرائيلي سرّب للصحيفة، حيث أعلنت الصحيفة أن ضباط "الموساد" مع ضباط من المخابرات الإيطالية كانوا على متن سفينة للاحتفال بنهاية نجاح عملية معقدة في شمال إيطاليا استهدفت إفشال مخططات إيرانية للحصول على وسائل وأدوات مطلوبة للتقدم في مسار مشروعهم النووي.
من جهة، إسرائيل، كما دومًا، تسعى إلى شيطنة إيران وشيطنة توجهاتها، سواء على المستوى النووي أو على مستوى دعم ما تسميه بالإرهاب وعدم الاستقرار في المنطقة، وذلك للضغط على أمريكا وإحراجها ومنعها من التقدم على المسار الإيراني، لإظهار إيران باعتبارها لا زالت تخرق الشروط الغربية وأنها تتلاعب بهم وتخدعهم.
كما أن التهديدات المنسقة والكبيرة لها أيضًا، من جملة أغراض أخرى، هدف الضغط على أمريكا لإرباك الحسابات الأمريكية؛ بأن إسرائيل قد تشن هجومًا ما دون أن تتلقى ضوءًا أخضر أمريكيًا، وتفاجأها بتدهور غير محسوب أمريكيًا، وفي هذه الحالة قد تضطر أمريكا للاذعان واستقبال نتنياهو أو تعليق المفاوضات مع إيران.
إسرائيل التي تهدد هي نفسها التي تسارع لتبريد الأجواء والتقليل من جدية تهديداتها، لكنها من جهة أخرى أيضًا تطلق العنان لتهديدات غير رسمية تربط بين دعم إيران وإسهامها فيما يتعرض له سكان المستوطنات في جنوب فلسطين من خوف وغياب للأمن، وبين ضرورة أن تدفع طهران الثمن، وإن كان عبر طرف ثالث من القوى السنية أو بعض القوى المُعادية لإيران، والتي تتموضع بالقرب من الحدود الإيرانية.
الصحفي الكبير في القناة 12 امنون ابراموفيتش يستبعد جدية التهديدات الإسرائيلية لإيران ولحزب الله، استنادًا إلى أولويات السياسات الإسرائيلية. وحسب قوله، الهجوم على إيران سيُترجم ذلك أولًا في الميزانية التي كانت أولويتها إرضاء الحريديم والمستوطنين، وتكون أولويته تعزيز العلاقة مع الداعم الأهم، وهي أمريكا. وبحسب ابراموفيتش، فإن كل سياسات الحكومة الحالية هي سياسات أقوال، تعمل على استفزاز أمريكا، من بين ذلك الإصرار على العودة لمستوطنة "حومش" التي عارضتها وانتقدتها أمريكا، وتصريحات تعظم استقلالية إسرائيل وعدم تبعيتها لأمريكا.
مع كل ذلك، تبقى التهديدات الإسرائيلية، سواء تجاه حزب الله أو قطاع غزة أو إيران أو الساحة السورية، أمرًا لابدّ من أخذه على محمل الجدية.