عيَّنت الصين “شيه فنج” نائب وزير الخارجية السابق سفيراً جديداً لقيادة بعثتها الدبلوماسية في الولايات المتحدة الأمريكية؛ وذلك خلفاً للسفير السابق “تشين جانج” الذي غادر منصبه في ديسمبر عام 2022 لتولي حقيبة وزارة الخارجية في الحكومة الصينية الجديدة. ويتزامن تعيين “شيه فنج” في منصب كبير دبلوماسيي بكين في واشنطن، مع وصول العلاقات الأمريكية–الصينية إلى مرحلة غير مسبوقة من التصعيد؛ وذلك عقب زيارة رئيسة مجلس النواب السابقة “نانسي بيلوسي” إلى تايوان العام الماضي، ولقاء رئيس مجلس النواب الحالي “كيفن مكارثي” رئيسة تايوان “تساي إنج ون” في الولايات المتحدة؛ هذا ناهيك عن واقعة منطاد التجسس الأمريكي، التي أدت إلى إلغاء وزير الخارجية “أنتوني بلينكن” زيارته المقررة سابقاً إلى الصين، واتخاذ كل من الصين والولايات المتحدة المزيد من الإجراءات العدائية ضد الأخرى في المجالين التجاري والتكنولوجي.
دلالات رئيسية
ظل منصب سفير بكين في الولايات المتحدة شاغراً لمدة ثلاثة شهور، وهي أطول فترة يبقى فيها المنصب فارغاً منذ تطبيع العلاقات بين الصين والولايات المتحدة في 1979، وهو ما يعكس حالة التوتر التي هيمنت على العلاقات الأمريكية الصينية. وقد كان من المتوقع على نطاق واسع أن يقع اختيار الحكومة الصينية على “شيه فنج” لتمثيلها في واشنطن؛ وذلك نتيجة لتصاعد الدور الدبلوماسي الذي قام بها خلال السنوات والأشهر الأخيرة في ملف العلاقة بين الولايات المتحدة والصين؛ هذا بالإضافة إلى تماشي خبراته وسلوكه المهني مع رؤية القيادة السياسية العليا الصينية في الوقت الحالي. وفي هذا الصدد، يمكن القول إن اختيار السفير الصيني الجديد إلى واشنطن يرتبط بعدد من الدلالات المتمثلة فيما يلي:
1– امتلاك معرفة جيدة بالولايات المتحدة الأمريكية: ولد “شيه فنج” (59 عاماً) بمقاطعة جيانجسو الثرية القائمة في شرق الصين. وعلى رغم من دراسته الهندسة، قرر في النهاية الالتحاق بالعمل في السلك الدبلوماسي الصيني. انخرط “فنج” لأول مرة في ملف العلاقات الصينية الأمريكية، عندما تم تكليفه بالعمل في مكتب وزارة الخارجية لشؤون أمريكا الشمالية وأوقيانوسيا خلال عام 1993، وقد ظل في منصبه هذا لمدة سبع سنوات، ليتم تعيينه مستشاراً سياسيّاً فيما بعد في السفارة الصينية بواشنطن عام 2000. انتهى به الأمر متحدثاً رسميّاً باسم الوحدة الصحفية للسفارة في عام 2003، إلا أنه قد تم استدعاؤه ومطالبته في العام ذات بالعودة إلى العمل في صفوف وزارة الخارجية الصينية في بكين؛ حيث واصل العمل لصالح مكتب وزارة الخارجية لشؤون أمريكا الشمالية وأوقيانوسيا.
وبحلول عام 2008، تم تعيينه مستشاراً للوزارة بالسفارة الصينية في واشنطن، ثم عاد “فنج” إلى بكين مرة أخرى خلال عام 2010، ليشغل منصب المدير العام لإدارة شؤون أمريكا الشمالية وأوقيانوسيا. وفي 2014، تم تعينه سفيراً للصين إلى إندونيسيا، وبانتهاء تمثيله لبكين في إندونيسيا تم تسميته مفوضاً لوزارة الخارجية الصينية في هونج كونج، وقد قام على إدارة عملية سن قانون الأمن القومي الجديد في الإٍقليم والاضطرابات اللاحقة له خلال 2019. وبحلول عام 2021، أنهى “فنج” خدمته في هونج كونج، ليتولى عقب ذلك منصب نائب وزير الخارجية. وأشارت جريدة جنوب الصين الصباحية، في أحد تقاريرها الصحفية، إلى أنه قد تم إسناد مهمة إدارة ملف العلاقات الأمريكية–الصينية إلى “فنج” بصورة كاملة منذ تعيينه في منصب نائب وزير الخارجية الصيني.
2– إدارة بعض القضايا الخلافية بين بكين وواشنطن: يؤكد المحللون والمتتبعون لتاريخ “فنج” الدبلوماسي برجماتيته وقدرته على تحقيق أهداف ورغبات القيادة الصينية العليا بدبلوماسية عالية وبدون إثارة للجدل، وهي الصفة التي يفضل الرئيس الصيني “شي” وجودها لدى رجال دولتها؛ فعلى سبيل المثال، عقد “فنج” خلال الأشهر الأربع عشرة الماضية، نحو اثنين وعشرين لقاءً مع السفير الأمريكي إلى بكين “نيكولاس بيرنز”، بما في ذلك لقاء أغسطس 2022، الذي استدعت خلاله بكين السفير الأمريكي؛ للتعبير عن احتجاج الحكومة الصينية الرسمي على الزيارة التي أجرتها رئيسة مجلس النواب الأمريكي السابقة “نانسي بيلوسي” إلى تايوان.
وعلى الرغم من حساسية الموضوعات محل الطرح والمناقشة، فإن السفير الأمريكي قد أكد أنه يُكِنُّ احتراماً كبيراً لـ”فنج”، ويؤمن بقدرته على تعزيز قنوات الحوار بين واشنطن وبكين. ويمتلك “فنج” أيضاً سجلّاً حافلاً وفعالاً في إدارة عدد من الملفات واللقاءات المثيرة للجدل فيما بين بكين ومسؤولي الحكومة الأمريكية؛ فقد قام “فنج” باستقبال ومرافقة وفد من المسؤولين الرفيعي المستوى ممثلين لعدد من دول الأمريكتين؛ لتفقد إقليم شينجيانج خلال مايو 2021. وقد أقدمت بكين على هذه الخطوة لنفي جميع المزاعم والاتهامات الغربية بشأن رعاية الدولة الصينية حملة ممنهجة للإبادة الجماعية في منطقة شينجيانج الصينية، ضد أقلية الإيجور.
كما التقى “فنج” نائبة وزير الخارجية الأمريكية “ويندي شيرمان” خلال زيارتها إلى الصين؛ لمناقشة عدد من القضايا الخلافية بين الدولتين، وعلى رأسها قضية “منج وانزو” ابنة الرئيس التنفيذي لشركة “هواوي”، التي كانت قيد الإقامة الجبرية والاحتجاز في كندا، تمهيداً لتسليمها للولايات المتحدة، التي وجهت لها عدداً من الاتهامات ذات الطبيعة الجنائية. علاوةً على ذلك، كان “فنج” ضمن الوفد الصيني الذي نجح في تنسيق وعقد لقاء ثنائي بين الرئيس الصيني “شي” والرئيس الأمريكي “بايدن”؛ وذلك على هامش مشاركتهما في قمة مجموعة الدول العشرين التي انعقدت في بالي بإندونيسيا خلال نوفمبر 2022.
3– الجمع بين دبلوماسية الذئب المحارب والمهادنة: برزت عدد من الأسماء اللامعة في السلك الدبلوماسي الصيني باعتبارهم منافسين ومرشحين محتملين لشغل أحد أكثر المناصب أهميةً في وزارة الخارجية الصينية في الوقت الحالي. وقد كان”تشنج تسيجانج” السفير الصيني لدى المملكة المتحدة، من هؤلاء المرشحين، إلا أن “فنج” نجح في تخطي هؤلاء المنافسين وبفارق واضح. ويعود ذلك إلى خبرة “فنج” الدبلوماسية المرتبطة بالولايات المتحدة، ناهيك عن تنوع خبراته في الخدمة الخارجية؛ حيث لا تتوقف عند العمل مع السياسيين المدنيين الأمريكيين، بل تمتد لتشمل أيضاً العمل مع ضباط رفيعي المستوى في الخدمة الخارجية الأمريكية، كما أشرف على أداء أبرز الوظائف السياسية والثقافية التي تقوم بها السفارة الصينية في واشنطن خلال فترة توليه منصب مستشار السفارة في الفترة من 2008–2010.
وعلى الرغم من هذه البرجماتية، فإنه لا يتوانى في توجيه الانتقادات العلنية للقيادات الأمريكية في حالة الحاجة لذلك؛ وذلك في تماهٍ تامٍّ مع دبلوماسية الذئاب المحاربة التي عمد الدبلوماسيون الصينيون إلى تبنيها خلال السنوات الماضية؛ للرد على أي انتقادات خارجية للحكومة الصينية؛ فعلى سبيل المثال، قام “فنج” بانتقاد السياسة التي اتبعتها واشنطن في التعاطي مع قضية هونج كونج خلال عام 2019، وصرح قائلاً: “لقد تواطأ السياسيون الأمريكيون ذوو الصلة علناً مع المعارضة والمتطرفين العنيفين في هونج كونج، وحاولوا استخدام هونج كونج ورقةً لابتزاز الحكومة والشعب الصينيين”.
4– تبني خطاب يدعو إلى التهدئة ويشدد على ضرورة التعاون: في تصريحات صرح بها للصحفيين عند وصوله إلى الولايات المتحدة، أشار “فنج” إلى هدفين سيسعى إلى العمل على تحقيقهما خلال فترة قيادته البعثة الدبلوماسية الصينية في واشنطن. وقد أوضح ماهية هذين الهدفين من خلال القول: “بصفتي ممثلاً للشعب الصيني، جئت إلى هنا لحماية مصالح الصين، وتعزيز علاقات بكين وواشنطن لتعزيز التعاون بين البلدين”، وأضاف: “آمل أن تعمل الولايات المتحدة مع الصين لزيادة الحوار وإدارة الخلافات؛ حتى تعود علاقتنا إلى المسار الصحيح؛ حيث إن العلاقات الصينية الأمريكية تؤثر على رفاهية الشعبين، وعلى مستقبل العالم”.
كما أعرب عن أمله أن يتحرك الجانب الأمريكي في الاتجاه نفسه مع الصين، واتخاذ إجراءات ملموسة لتحقيق التفاهمات المشتركة الهامة بين الرئيس “شي جين بينج”، والرئيس الأمريكي “جو بايدن”، واستكشاف الطريقة الصحيحة لتوافق الطرفين في العصر الجديد. وقد أقدمت نائبة وزير الخارجية الأمريكي “فيكتوريا نولاند” على استقبال السفير”فنج” في مكتبها يوم 23 مايو، وأكدت سعي واشنطن الدؤوب لتحقيق الهدفين ذاتهما.
5– استئناف الحوار المباشر بين المسؤولين الأمريكيين والصينيين: سلطت عدد من المنابر الإعلامية الأمريكية الضوء على استمرار رفض بكين الموافقة على عقد محادثات بين وزير الدفاع الصيني ونظيره الأمريكي على هامش منتدى شانجريلا للحوار الأمني في سنغافورا، الذي من المقرر عقده خلال يونيو القادم؛ وذلك بفعل فرض واشنطن عقوبات على شخص رئيس الدفاع؛ هذا بجانب عدم عقد أي اتصال بين الرئيس “شي” ونظيره الأمريكي “بايدن” منذ حادثة منطاد التجسس، إلا أن اللقاءات الرسمية بين مسؤولي الحكومتين قد عادت للانتعاش مرة أخرى خلال الأسبوعين الأخيرين؛ فقد التقى مستشار الأمن القومي الأمريكي “جاك سوليفان” وعضو الحزب الشيوعي “وانج يي” المسؤول عن ملف العلاقات الخارجية في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني في فيينا يوم 11 مايو.
وفي سياق ذي صلة، أشارت تقارير إلى اقتراب عقد اجتماع بين وزير التجارة الصيني وكبار مسؤولي وزارة التجارة الأمريكية في الولايات المتحدة خلال الأسابيع المقبلة. وبدوره قام السفير الصيني الجديد في واشنطن بعقد لقاء مع وزير الخارجية الأمريكي السابق والخبير الأمريكي البارز في العلاقات الدولية “هنري كسينجر”؛ لتهنئته بعيد مولده المئة في السادس والعشرين من مايو، وهي خطوة تظهر انفتاح الصين على طرق جميع الأبواب الدبلوماسية الممكنة بهدف تهدئة حدة التنافس المتصاعد بين الدولتين.
التحديات والفرص
أعربت وزارة الخارجية الصينية عن أملها أن يقدم الجانب الأمريكي الدعم والتسهيل للسفير الصيني الجديد لدى الولايات المتحدة؛ لأداء مهامه لدى وصوله إلى واشنطن. ومن جهته، رحب سفير الولايات المتحدة لدى بكين “نيكولاس برنز”، بخبر تسمية “فنج” سفيراً صينيّاً جديداً لدى واشنطن، وأكد أنه قد أقام على شرفه مأدبة عشاء، وتابع تصريحاته عبر منصة “تويتر” بالقول: “أتطلع إلى التعاون معه في منصبه الجديد”. وعلى الرغم من بروز رغبة لدى الطرفين في أن يلعب السفير الصيني الجديد في واشنطن دوراً إيجابيّاً في ملف العلاقات الصينية الأمريكية، فإن الواقع يفرض عليه عدداً من التحديات.
وفي هذا الصدد، يبدو أن محركات الخلاف ما زالت قائمة وتتضاعف بصورة متواترة؛ فمن ناحية، تستمر كل من الصين والولايات المتحدة في تبني سياسات تعزز حالة الحرب بين الطرفين في المجال التكنولوجي، كما تستمر التقارير الاستخباراتية الأمريكية في توجيه المزيد من اتهامات التجسس إلى الحكومة الصينية؛ فقد أكدت “مجموعة الأعين الخمسة” أن بكين قد دشنت ضربة سيبرانية موسعة ضد العديد من الأجهزة والشركات الأمريكية، وقد تمكنت من خلال هذه الضربة من جمع كم كبير من المعلومات عن مختلف القطاعات والأجهزة الأمريكية، وهو الأمر الذي سارعت وزارة الخارجية الصينية إلى رفضه واستنكاره.
خلاصة القول: يمكن أن يساهم السفير الصيني الجديد في واشنطن، بصفته دبلوماسيّاً متمرساً على معرفة جيدة بصانعي السياسة الأمريكيين، في تعزيز عملية التواصل والحوار بين البلدين. بالإضافة إلى ذلك، فإن هناك بالفعل فرصة مفتوحة للحوار البنَّاء بين بكين وواشنطن؛ حيث خرجت المحادثات الأخيرة بين مستشار الأمن القومي الأمريكي “جاك سوليفان” وكبير الدبلوماسيين الصينيين “وانج يي” بتصريحات إيجابية لم تظهر على الساحة السياسية الأمريكية–الصينية منذ سنوات. ويُعَد تعيين “فنج” إشارة قوية على أن بكين منفتحة حقاً على التعاون في عدد من القضايا الخلافية فيما بين البلدين، إلا أن اقتراب الانتخابات الأمريكية، وتوقع استخدام الساسة الأمريكيين قضية العلاقة مع الصين لتعزيز حظوظهم في هذا السباق، ورفض الصين تقديم أي تنازلات لواشنطن في الملف التجاري والتكنولوجي والأمني؛ كل ذلك قد يساهم في تعقيد الموقف، وينهي أي آمال لاقتراب الانفراجة في العلاقة بين الطرفين.