• اخر تحديث : 2024-05-03 21:39
news-details
قراءات

أبعاد تصاعد التحركات البريطانية على الساحة الدولية


شهدت أروقة الحكم في المملكة المتحدة تحولات عدة خلال الأشهر الماضية؛ وذلك مع تغير رأس السلطة في البلاد بوفاة الملكة إليزابيث الثانية في سبتمبر 2022 وتتويج الملك تشارلز الثالث ملكاً للبلاد، فضلاً عن التغيرات المتتالية في شخص رئيس الوزراء وصولاً إلى تولي “ريشي سوناك” هذا المنصب في أكتوبر 2022؛ الأمر الذي ربما يكون قد أربك عملية صنع قرارات السياسة الخارجية البريطانية التي كان عليها في الوقت ذاته التعاطي مع عدد من الملفات المتشابكة والحساسة، كإدارة العلاقات مع القارة الأوروبية عقب البريكست، والتدخل الروسي في أوكرانيا، وإعادة ترسيم مكانة لندن بصفتها فاعلاً دوليّاً بصفة عامة.

وقد عمدت لندن إلى بلورة الملامح العامة لسياستها الخارجية والأمنية عبر إصدار ما عرفت بـ”المراجعة المتكاملة لأمن بريطانيا ودفاعها وتنميتها وسياستها الخارجية” للمرة الأولى منذ عامين فقط على يد رئيس الوزراء الأسبق بوريس جونسون، بيد أنه في ظل المتغيرات المتلاحقة قدم سوناك في مارس الماضي 2023 تحديثاً لمراجعة السياسة الخارجية والدفاعية، مبرراً ذلك بأنه لم يكن من الممكن في 2021 توقع وتيرة التغيير الجيوسياسي ومدى تأثيره على بريطانيا. وربما يمكن من خلال هذه الوثيقة متابعة تحركات لندن على الساحة الدولية خلال الأشهر الأخيرة والخروج ببعض الاستخلاصات حول أهم ملامح ودوافع السياسة الخارجية للندن.

مظاهر التحرك

انتظمت تحركات السياسة الخارجية البريطانية خلال الآونة الأخيرة في عدد من المسارات، لعل أهمها:

1- استمرار الارتباط بالمجال الأوروبي: حيث سعى سوناك إلى تأكيد أن أمن وازدهار منطقة الأورو-أطلسي سيظلان على رأس أولوياته، وأنه ملتزم بإصلاح الجسور المحروقة بين لندن والقارة العجوز. وقد تمت ترجمة هذا الالتزام في صور عدة، أهمها الجولة التي قام بها الملك تشارلز وزوجته (قبيل تتويجه) بالقارة الأوروبية، في شهر مارس الماضي، باعتبارها نوعاً من إظهار الالتزام تجاه القارة، وإن اقتصرت الجولة فعلياً على زيارة ألمانيا؛ حيث ألغيت زيارته إلى فرنسا بسبب الاضطرابات التي تشهدها بسبب قوانين المعاشات والتقاعد. كما قام سوناك في مارس الماضي بعقد قمة مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون هي الأولى بين البلدين منذ عام 2018، ركزت على تعزيز العلاقات العسكرية بين البلدين.

وتجدر الإشارة إلى أن لندن انتهزت الفرصة التي أوجدتها الحرب في أوكرانيا لإجراء محادثات منتظمة مع شركائها الأوروبيين عبر “المجموعة السياسية الأوروبية”، وهي منصة جديدة تضم 44 دولة أوروبية لمناقشة التعاون السياسي في المجالات ذات الاهتمام المشترك، كما تعتزم لندن استضافة إحدى فعاليات هذه المجموعة العام المقبل.

2- معالجة التحديات المتعلقة بأيرلندا الشمالية مع أوروبا: تمكن سوناك من الاتفاق على إطار عمل وندسور مع رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين في 27 فبراير 2023 لمعالجة التحديات المتعلقة بأيرلندا الشمالية بشكل نهائي بعد البريكست؛ حيث تيسر القواعد الجديدة نقل البضائع من بريطانيا إلى أيرلندا الشمالية مع وضع ضمانات لمنع دخول هذه السلع السوق الموحدة للاتحاد الأوروبي.

3- تكثيف الدعم العسكري لأوكرانيا: فقد حرصت لندن على أن تكون الداعم الأوروبي الأول لأوكرانيا، فحلت ثانياً (بعد واشنطن) في تقديم المساعدات العسكرية لكييف، وتعهدت بمبلغ 2.3 مليار جنيه إسترليني العام الماضي والمبلغ نفسه لعام 2023، كما توسعت في توفير الأسلحة المضادة للدبابات وأنظمة إطلاق الصواريخ البعيدة المدى وغيرها، وأجرت برنامج التدريب على ساحة المعركة لـ10000 جندي أوكراني خلال 120 يوماً، واستضافت مؤتمرات المانحين، ولعبت دوراً فعالاً في التنسيق بين المانحين والمتطلبات العسكرية لأوكرانيا.

وفي شهر مايو الماضي بدأت بريطانيا تحركات مكثفة من أجل تزويد أوكرانيا بطائرات مقاتلة؛ إذ كشفت لندن عن مساعٍ مشتركة مع هولندا من أجل تأسيس تحالف دولي لمساعدة أوكرانيا في الحصول على طائرات “إف 16” وكذلك تدريب الطيارين الأوكرانيين على قيادة هذه الطائرات.

4- الحفاظ على التحالف مع واشنطن: إذ حرصت لندن مؤخراً على تكرار التأكيد البروتوكولي والرمزي لمحورية علاقتها بالولايات المتحدة، كما حرصت على إبراز جهودها لتكريس التحالف بين البلدين، وهو ما تجلى في تكرر زيارات سوناك إلى الولايات المتحدة؛ حيث أعلنت رئاسة الوزراء البريطانية أن سوناك يعتزم العمل على إقامة علاقات “وثيقة وصريحة” مع الرئيس جو بايدن، كما أوضحت في بيان رسمي أنه “في السنوات الأخيرة لم يجر أي رئيس وزراء بريطاني اتصالات مستمرة على هذا النحو مع رئيس الولايات المتحدة”.

ومن الجدير بالملاحظة أن سوناك التقى الرئيس الأمريكي 4 مرات خلال أربعة أشهر، وآخرها الزيارة التي قام بها إلى واشنطن خلال الفترة 7-8 يونيو 2023، وهي الزيارة التي شهدت توقيع الدولتين على “إعلان الأطلسي” الذي يضع معايير جديدة للتعاون الاقتصادي بين البلدين، بحسب صحيفة الشرق الأوسط، ويخفف من بعض المشكلات التي تسبب فيها قانون بادين لخفض التضخم وأزال بعض الحواجز التي عرقلت استيراد بريطانيا بعض المعادن المهمة في صناعة السيارات الكهربائية. ويسمح الإعلان للشركات البريطانية بالحصول على إعانات ضريبية أمريكية جديدة.

وفي السياق ذاته، حرص “سوناك” على المشاركة في فعاليات عدة لإحياء قوة علاقة البلدين، كمقابلة قادة الأعمال الأمريكيين بمناسبة انعقاد “بيزنس راوند تيبل”، وهو تجمع سنوي للرؤساء التنفيذيين لكبرى الشركات الأمريكية، وحضور مباراة بيسبول لواشنطن ناشونالز حول موضوع الصداقة بين البلدين، وهي المباراة التي أضحت حدثاً سنوياً في واشنطن يشمل عروضاً عسكرية وأداءً للنشيد الوطني للبلدين.

5- تطوير الحضور في منطقة الهندوباسيفيك: إذ أكدت لندن في وثيقة المراجعة رؤيتها لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ باعتبارها “ركيزة دائمة” لسياستها على المستوى الدولي، كما دأبت لندن على تمتين علاقاتها بالفاعلين الأساسيين في هذه المنطقة في مختلف المجالات؛ فعلى سبيل المثال، تم توقيع اتفاقية هيروشيما مع اليابان في 18 مايو 2023، التي تهدف إلى تعزيز التعاون الثنائي في مجالات الدفاع والتكنولوجيا، على أساس اتفاقية الوصول المتبادل بين لندن وطوكيو، الموقعة في يناير 2023.

وتتضمن اتفاقية هيروشيما تدريبات عسكرية مشتركة، ستشمل إعادة الانتشار المستقبلية لمجموعة حاملات الطائرات البريطانية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. وفي اليوم السابق لإعلان اتفاق هيروشيما، أعلن سوناك أنه سينشر حاملة طائرات هجومية بالمحيطين الهندي والهادئ عام 2025، بتعاون فني مع الشركات اليابانية الخاصة مثل هيتاشي المحدودة وفوجيتسو.

وقبل هذه الاتفاقية، وفي عام2021، تم توقيع اتفاقية “أوكوس” أو الاتفاقية البريطانية-الأمريكية لتزويد أستراليا بغواصات تعمل بالطاقة النووية، ومن المتوقع أن تؤدي تلك الشراكة إلى خلق آلاف الوظائف في قطاع بناء السفن والغواصات البريطانية. وسوف تستخدم بريطانيا أيضاً غواصات “إس إس إن أوكوس” الجديدة، وستكون قيد العمل وتحت تصرف البحرية الملكية بحلول أواخر عام 2030. وستصنع الغواصات البريطانية الجديدة بواسطة أنظمة “بي إيه اي” في مدينتي بارو إن فورنيس وكمبريا، بمشاركة الولايات المتحدة، بينما ستصنع الغواصات الأسترالية باستخدام بعض المكونات التي تم تصنيعها في بريطانيا، وستدخل الخدمة أوائل عام 2040. وبوجه عام، يبدو أن هذه التحركات جزء من سياسات بريطانيا لمواجهة النفوذ الصيني في الهندوباسيفيك.

محددات رئيسية

يمكن القول إن التحركات البريطانية على الساحة الدولية خلال الفترة الأخيرة جاءت مدفوعة بعدد من المحددات الرئيسية، لعل أهمها:

1- ترسيخ الدور الأمني في المعادلة الأوروبية: إذ بدا أن التدخل الروسي في أوكرانيا في فبراير 2022 وتبعاته شكل فرصة جيدة للسياسة الخارجية البريطانية في هذا السياق؛ حيث يسمح لها بإظهار الريادة الأخلاقية للندن في الإطار الأوروبي. وقد وظفت وثيقة مراجعة السياسة الخارجية والدفاعية البريطانية لعام 2023 التدخل الروسي في أوكرانيا لتأكيد التزامها الأمني تجاه أوروبا؛ إذ أشارت المراجعة إلى أن الهدف البريطاني هو “احتواء وتحدي قدرة روسيا العازمة على تقويض أمن كل من المملكة المتحدة و(المنطقة) الأوروبية-الأطلسية والنظام الدولي”.

ويمكن تفسير تمسك سوناك بالإنجاز في الملف الأوكراني في ضوء حقيقة أنه ملف توافقي بين مختلف القوى السياسية البريطانية بما في ذلك اليمين الشعبوي، وكذلك الرأي العام، فضلاً عن أن الدور الذي تلعبه بريطانيا في هذا السياق سيؤثر إيجاباً على علاقاتها بوسط وشرق أوروبا في المستقبل.

2- احتواء تحديات ملف المهاجرين غير الشرعيين: حيث كانت تلك الرغبة سبباً في قيام سوناك بعقد أول قمة مع الرئيس الفرنسي منذ عام 2018؛ إذ ركزت تلك القمة أساساً على تكثيف الجهود لمنع المهاجرين من عبور المانش. وفي هذا السياق، وافقت بريطانيا على دفع مبلغ 541 مليون يورو لفرنسا، لمدة ثلاث سنوات لإقامة مركز للمهاجرين ومركز قيادة مشترك وتعزيز الدوريات واستخدام طائرات بدون طيار.

3- تعزيز مكانة بريطانيا على الساحة الدولية: تعاني تحركات لندن على الساحة الخارجية منذ دخول اتفاق البريكست حيز التنفيذ في مطلع 2021 من ارتباك في تحديد مكانتها بصفتها فاعلاً دولياً؛ فبعد انفصالها عن الاتحاد الأوروبي اعتبر البعض أن على بريطانيا أن تعيد تقديم نفسها للمجتمع الدولي باعتبارها قوى عالمية تتجاوز نطاق أوروبا، فيما رأى آخرون أنه لا يمكن لبريطانيا التخلي عن انتمائها الأوروبي-الأطلسي، لا سيما في ظل ما سيرتبه ذلك من أعباء على الداخل البريطاني المثقل أصلاً بالمشكلات؛ فعندما قدم جونسون المراجعة المتكاملة عام 2021 تحدث عن تموضع المملكة المتحدة بعيداً عن منطقة الأورو-أطلسي وإقامة “بريطانيا العالمية”، وهو ما رفضه كثيرون.

ولعل هذا ما يفسر حرص الحكومة البريطانية الحالية على أن تؤكد في وثيقة المراجعة محورية أمن أوروبا وأمن منطقة المحيطين الهادئ والهندي واستقرار المجتمع الدولي بالنسبة إلى لندن. وفي هذا السياق أيضاً تتبدى حاجة بريطانيا الملحة لتقوية التحالف الأنجلو-أمريكي بما يدعم موقفها بوصفها شريكاً في موقع القوى الكبرى؛ حيث يمكن تلمس قناعة لندن بأنه -وبغض النظر عن الحزب الحاكم أو رئيسه- ستظل واشنطن هي أهم علاقة ثنائية منفردة لبريطانيا.

4- الحصول على مكاسب اقتصادية تعوض تداعيات بريكست: ربما كانت تلك الحاجة دافعاً أساسياً لتحركات السياسة الخارجية البريطانية، لا سيما فيما يخص جهود التوصل إلى إطار عمل وندسور الخاص بالتجارة عبر أيرلندا، وهو ما يعتبره المراقبون نجاحاً لسوناك بالنظر إلى أن السلع والخدمات التي تبيعها بريطانيا لأيرلندا وحدها تصل إلى 6.5%من إجمالي صادراتها.

بل يمكن القول إن الدافع الاقتصادي يشكل أحد المحددات الرئيسية للموقف البريطاني الداعم لأوكرانيا عقب التدخل العسكري الروسي؛ إذ سيسمح هذا الدور للندن بلعب دور كبير في عملية إعادة إعمار أوكرانيا عقب انتهاء هذه الأزمة، وهو ما سيشكل دفعة للاقتصاد البريطاني المثقل بتبعات الانسحاب من المشروع الأوروبي.

5- انعكاس توازنات القوى داخل حزب المحافظين: وهي التوازنات التي يبدو أن تأثيرها الأكبر يتضح فيما يخص موقف لندن إزاء الصين؛ ففي أول خطاب له عن السياسة الخارجية للبلاد في 2022 وصف سوناك العلاقات الاقتصادية لبلاده مع الصين بأنها كانت “ساذجة”. مؤكداً انتهاء ما يسمى “العصر الذهبي” للعلاقات مع الصين، وهو الموقف الذي يمكن تفسيره في ضوء الضغوط التي واجهها سوناك من أعضاء البرلمان المحافظين، الذين لا يشغلون مناصب في الحكومة، في اتجاه اتخاذ موقف أكثر حسماً من الصين.

بيد أن وثيقة مراجعة السياسة البريطانية لعام 2023 بدت أكثر ميلاً للتوازن مقارنة بتصريحات سوناك السابقة؛ فعلى الرغم من أن الوثيقة أشارت إلى أن الحزب الشيوعي الصيني يسعى بشكل متزايد إلى “تشكيل نظام دولي متمركز حول الصين ومناسب لنظامه الاستبدادي”، فضلاً عن وصف “الشراكة العميقة” بين بكين وموسكو بـ”المثيرة للقلق”. فإنها ألمحت في الوقت ذاته إلى أنها ستعمل مع الصين على “المستوى الثنائي وفي المنتديات الدولية”، وأن الهدف من ذلك “ترك مجال لعلاقات مفتوحة وبناءة ويمكن التنبؤ بها”، كما شددت على “وجوب تسوية قضية تايوان سلمياً عبر الحوار”، وأنها “تعارض أي تغيير أحادي الجانب في الوضع الراهن وفي بحر الصين الشرقي والجنوبي”.

خلاصة القول أن السياق الأوروبي والدولي شكل عاملاً محفزاً لتسارع التحركات البريطانية على الساحة العالمية؛ إذ عملت لندن على إعادة اكتشاف نفوذها الدولي في ظل هيمنة حلم عودة “بريطانيا العالمية” على عدد من دوائر صنع القرار في لندن. ولا يمكن إغفال أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي مثل دافعاً إضافياً للندن من أجل البحث عن حضور عالمي أكبر يخدم المصالح السياسية والاقتصادية البريطانية.