تجد موجة الاحتجاجات التي تجتاح شوارع إسرائيل منذ أكثر من ثلاثين أسبوعا تفسيرا لها في تفشي شعور جمعي بالتهديد وحالة من عدم اليقين والثبات واقتراب النهاية، عبر عنها المفكر الشهير يوفال نوح هراري في خطابه أمام المتظاهرين في تل أبيب في الثامن من تموز 2023 حيث اعتبر أن هذه المجموعة المتطرفة والظلامية ستحول إسرائيل "إلى أكبر دولة معادية للسامية في العالم" وأن وجود هذه المجموعة التي تجمع بين تأييد "الاحتلال وكراهية النساء والعنصرية والتطرف القومي والعداء للمثليين" سينتج "منظومة ديكتاتورية" لا يمكن التعايش معها.
إن المخاوف العميقة على ما يوصف بأنه "مصير الديمقراطية والتعددية واستقلال القضاء ونمط الحياة الليبرالي" في إسرائيل، لا ينبع من مشاريع القوانين "وخطة إصلاح القضاء" المحافظة التي يطرحها الائتلاف، بحد ذاتها، بل أيضا بسبب حالة الهلع وعدم الثقة والشعور بعدم الأمان، التي باتت تتحسسها قطاعات واسعة من الرأي العام والنخب الإسرائيلية التقليدية، جراء تفكك الدولة وتراجع مكانتها عالميا وانهيار الاقتصاد وانقطاع الصلة مع يهود العالم، بسبب تركيبة وسلوك أعضاء الحكومة الإسرائيلية التي تصنف حتى من قبل أقرب حلفاء إسرائيل، وهو الرئيس الأميركي جو بايدن، على "أنها الأكثر تطرفا في تاريخ حكومات إسرائيل"، كونها تضم أشخاصاً من نخب مختلفة، بدون ماض عسكري أو صلة بالنخب الاقتصادية والسياسية والأمنية التقليدية، أشخاص ينتمون إلى قطاعات اجتماعية وسياسية وأيديولوجية أنتجت غلاة المتطرفين قوميا والمتزمتين دينيا ممن ينتمون إلى مجموعات منعزلة نشأت في المستوطنات وتكونت أيديولوجيا في المدارس الدينية المغلقة والمتعصبة، أو على أيدي حاخامات عنصريين، وكانت حتى وقت قريب مضى هدفا لأجهزة الأمن وأصبح أفرادها اليوم يتحكمون في سياساتها والتعيينات فيها، ويتذمرون من أدائها وأولوياتها وبطء تجاوبها مع الروح الجديدة التي تهب من أعلى عليها، في نوع من تصفية الحسابات القديمة معها.
يقيم الآن على رأس الهرم التنفيذي والتشريعي في إسرائيل أشخاص كوّنوا جلّ سيرتهم الذاتية وصنعوا تاريخهم في التلال والبؤر الاستيطانية التي انتزعوها من سكانها الفلسطينيين بشكل فردي، أو في أروقة المحاكم وغرف التوقيف في مواجهة تهم بالإرهاب والتخريب وتبني خطاب الكراهية والترويج للعنف، أو في الصدام مع الشرطة وإشعال الحرائق في بؤر الاحتكاك الحساسة وإثارة الحروب مع الفلسطينيين.
ماضي هذه الفئة التي باتت تمسك بمفاصل حيوية واستراتيجية في الدولة، وتحتل حيزاً لا يستهان به في الإعلام، وتجد لها جمهورا مشبعا بالكراهية تجاه الآخر، ويتملكها حقد على مؤسسات الدولة والنخب التي أرستها وتحكمت بها وقادتها منذ إنشاء الدولة حتى الآن، يطفو كالظل الثقيل عند طرح أي مشروع قانون أو تعيين جديد في إسرائيل، وهو ظل يوحي بعدم المسؤولية، والتطرف الأعمى، والتهور والعدائية.
في هذه المقالة ومن خلال استعراض سيرة جزء من الوزراء وأعضاء الكنيست ممن ينتمون إلى اليمين المتطرف، نقدم تفسيرا غير ملحوظ بما يكفي، لخلفية حالة التشنج بين المعسكرين والخطاب الهستيري الذي يتبناه قادة المعارضة في الشارع على مستقبل "الديمقراطية الإسرائيلية"، ومؤسساتها التي ضمنت وجودها حتى الآن وتعتبر ركائز لاستمراريتها مثل القضاء والجيش والصناعات المتطورة (الهاي تيك) وعلاقاتها الحميمة مع الولايات المتحدة وحلفاء إسرائيل الغربيين.
قائمة الكوابيس والأحلام
بعد أربع جولات انتخابية متتالية، وحكومة تغيير أقصت بنيامين نتنياهو عن الحكم مدة عام، أدرك هذا الأخير أن توحيد قوائم اليمين المتطرف في قائمة انتخابية واحدة هو المدخل الوحيد الذي سيمكنه من العودة إلى رئاسة الحكومة، لذا مارس ضغوطا هائلة على قادة اليمين المتطرف من أجل خوض الانتخابات في قائمة واحدة هي قائمة الصهيونية الدينية وعوتسما يهوديت.
شكلت هذه القائمة مثلث أحلام بالنسبة لنتنياهو كونها تضمن له عدم ضياع أي صوت من أصوات اليمين، وأيضا بسبب تماهيه الأيديولوجي مع مكوناتها، والأهم من ذلك، لا مبالاتها وعدم اعتراضها على تمرير قوانين يحتاجها نتنياهو للافلات من شبح السجن الذي يلاحقه في محاكمته التي لا يزال يخضع لها بتهم فساد.
كان من المنطقي أن تشكل هذه القائمة كابوساً حقيقياً للأحزاب المعتدلة ويمين الوسط، للأسباب نفسها، وبسبب أفكارها الظلامية وعدائها للقيم العلمانية وعدم ثقتها بالقضاء واستخفافها بالتوصيات الأمنية وخطرها على العلاقات الخارجية والصلة مع يهود العالم وكونها تتغذى وتغذي جمهورها على خطاب منغلق وشعبوي ومتطرف قوميا ودينيا (يأتي الخطر على الفلسطينيين ومستقبل الصراع والعلاقة مع فلسطينيي الداخل في أسفل السلم).
حققت القائمة التي ترأسها بتسلئيل سموتريتش، صاحب الدعوة إلى حسم الصراع، إلى جانب إيتمار بن غفير المُدان بالإرهاب، وبالشراكة مع آفي ماعوز، زعيم حزب نوعام المعادي للاختلاط والمحارب الأبرز للمثليين، نجاحا باهرا في الانتخابات وحصلت على 14 مقعدا لتصبح هي المفصل الأساس وحجر الزاوية في تحديد سياسة الحكومة وأولوياتها، وتعيد تبييض هوامش اليمين وتضعهم في صدارة المشهد.
بتسلئيل سموتريتش
يحفل سجل بتسلئيل سموتريتش بالتصريحات المتطرفة والعنصرية التي يتماهى فيها مع الإرهاب اليهودي وأعمال العنف التي تقوم بها عصابات المستوطنين المتطرفين مثل "شبيبة التلال" و"تدفيع الثمن".
سموتريتش ترعرع في المستوطنات وفضل تعلم التوراة على الخدمة في الجيش، الذي التحق به في سن متأخرة وخدم فيه مدة 16 شهرا فقط (كان عمره 28 عاما وأب لثلاثة اطفال).
مواقف سموتريتش وتصريحاته العنصرية كثيرة ولكن ربما أبرزها اعتباره في العام 2015 أن إحراق ثلاثة من عائلة دوابشة حتى الموت من قبل مستوطنين يهود "لا يعد عملا إرهابيا" وأن الإرهاب هو "العنف الذي يوجه إلى اليهود من قبل العرب فقط"، وفق ما نشرته صحيفة "هآرتس" بتاريخ 10 أيلول 2015، وهي تصريحات تكررت عند قيام ميليشيات من المستوطنين بإحراق عشرات المنازل والمركبات والمحال التجارية في قرية حوارة التي دعا إلى "محوها".
لا تقتصر التصريحات والمواقف العنصرية على العرب فقط، ورفضه اختلاط النساء اليهوديات والعربيات عند الولادة في المشفى نفسه "لأن العربيات يلدن ويربين إرهابيين"، بل طاولت أيضا تبرير اعتداء مستوطنين على أفراد من الجيش في يتسهار، كما أنه في صيف 2005 في ظل أجواء التوتر الداخلية عشية تنفيذ خطة رئيس الحكومة أريئيل شارون للانفصال عن غزة، ضبط جهاز الأمن العام- "الشاباك"- 700 ليتر من الوقود معدة لإحراق بنية تحتية بهدف تعطيل خطة الانفصال والتشويش على برنامج الحكومة. وأعلن "الشاباك" في حينه أنه اعتقل خمسة مستوطنين متطرفين، أبرزهم هو سموتريتش، الذي سجن على خلفية القضية عدة أسابيع من دون أن تتم إدانته. وقد ادعى سموتريتش أن اعتقاله جاء لمنعه من تنظيم مظاهرة ضخمة تطالب بعدم تنفيذ خطة الانفصال، بينما يقول رئيس قسم التحقيقات في "الشاباك" إسحق إيلان إنه "كان يخطط لإحراق سيارات على الطريق العام" وتعريض حياة الكثيرين للخطر.
عوضا عن زنازين التحقيق يجلس اليوم بتسلئيل سموتريتش على كرسي واحدة من أهم الوزارات في إسرائيل، وهي وزارة المالية، ويغدق على المستوطنات والمؤسسات الدينية الأموال، بالاضافة إلى شغله منصب وزير مسؤول عن الإدارة المدنية في وزارة الدفاع، في لحظة سياسية هي الأخطر بسبب ضعف نتنياهو السياسي وانقسام الشارع الإسرائيلي حول الحكومة وخططها في إضعاف القضاء، وحاجته إلى سموتريتش وأحزاب اليمين الأخرى، وهو ما يجعل تأثيره وقدرته على تنفيذ "خطة الحسم" وتطبيق أفكاره المحافظة خطراً ملموساً.
تضم قائمة سموتريتش في الكنيست والحكومة الوزيرة أوريت ستروك التي تشغل منصب وزيرة الاستيطان والمهمات الوطنية، والمعروفة بمواقفها العنصرية والعدائية تجاه الفلسطينيين ودفاعها عن المستوطنين المتورطين في قضايا إرهاب ضد العرب من خلال تشكيلها "منظمة حقوق الإنسان" في الضفة المحتلة وهي تتشارك مع زعيم حزبها في رؤيته لحسم الصراع لصالح المستوطنين وتأييدها لمخطط الضم وتصريحاتها التي وصفت فيها قادة أجهزة الأمن (رئيس هيئة الأركان ومفوض الشرطة العام ورئيس "الشاباك") بأنهم عصابة مثل "عصابة فاغنر" المرتزقة الروسية بسبب إدانتهم الجماعية لأعمال الحرق والتخريب التي قام بها المستوطنون في بلدة ترمسعيا في أعقاب عملية قتل فيها أربعة مستوطنين قرب مستوطنة عيلي شمال الضفة الغربية. وإلى جانب ستروك تضم قائمة سموتريتش عراب خطة إصلاح القضاء ورئيس لجنة التشريع في الكنيست سيمحا روتمان الذي نشأ وترعرع في المدينة الدينية بني براك ولا يخفي مواقفه الداعية إلى تأسيس دولة يهودية وفق تعاليم التوراة.
إيتمار بن غفير
بسبب ماضيه العنيف وتورطه في الإرهاب وسلوكه الاستفزازي وأفكاره العنصرية المتطرفة، تجنب بنيامين نتنياهو الظهور برفقة بن غفير في حملته الانتخابية، كما أنه تعهد أن لا يشغل منصب وزير في حال نجاحه في الانتخابات وتمكنه من تشكيل حكومة، ليكون هذا واحدا من الوعود الكثيرة التي نكث بها نتنياهو.
بن غفير هو وجه معروف في وسائل الإعلام الإسرائيلية ولدى أجهزة الأمن والشرطة منذ طفولته، فقد التحق بحركة كاخ العنصرية المحظورة وهو في سن السادسة عشرة وتتلمذ في جلسة دينية أسسها الحاخام العنصري مئير كهانا.
لم يخدم بن غفير في الجيش بسبب مواقفه العنصرية وانتمائه لجماعة محظورة (كاخ) التي خرج من بين صفوفها أيضاً منفذ مجزرة الحرم الإبراهيمي التي قتل فيها المتطرف باروخ غولدشتاين 29 مصليا في أثناء تأديتهم لصلاة الفجر في منتصف شهر رمضان من العام 1994 وهي المجزرة التي أيدها بن غفير وعلق صورة منفذها في صالون بيته في مستوطنة كريات أربع، كما قدمت ضده 46 لائحة اتهام أدين في ثمان منها في قضايا عنف واعتداءات وإرهاب وتحريض على العنصرية والدعوة إلى إعادة بناء الهيكل الثالث.
أبرز شركاء بن غفير في الحكومة والكنيست إسحق فيسرلوف، المعروف بشاطه ضد تواجد العمال الأفارقة وتربيته الدينية المحافظة، إلى جانب ألموغ كوهين الذي بادر إلى تأسيس ميليشيا عسكرية من المتطوعين خريجي الجيش وأجهزة الأمن في الجنوب تحت اسم "برئيل حداريا شمولي" الضابط الذي قتل في 2021 على الحدود مع قطاع غزة، بهدف مساعدة الشرطة في محاربة الجريمة وحماية الإسرائيليين من العرب والبدو في بئر السبع والنقب، إلى جانب تسفيكا فوغل، وهو العضو الوحيد الذي لديه خلفية عسكرية (عميد متقاعد) وقد شغل مركزاً مهماً في حركة (الأمنيين) اليمينية التي تضم ضباطا كبارا متقاعدين وكانت دعت إلى ضم غور الأردن إلى إسرائيل، وهو صاحب دعوة اعتقال رؤساء المعارضة بسبب موجة الاحتجاجات الأخيرة.
العنصر الأكثر تأثيرا على قرارات بن غفير من خارج الكنيست هو رئيس منظمة "لهافا" العنصرية بنتسي غوبشتاين، وهي المنظمة العنيفة التي تحارب الاختلاط بين اليهود وغير اليهود، والذي بقي خارج الكنيست بسبب منع المحكمة له من الترشح بسبب مواقفه العنصرية.
بنتسي غوبشتاين يعد أحد الأشخاص الذين يسمح لهم بن غفير بالتدخل في قرارات الشرطة وآليات عملها، إلى جانب مستشاره المقرب ورئيس ديوانه حمنئيل دورفمان وهو ناشط يميني متطرف والذي كشفت القناة 12 أنه كان ينتمي إلى شبيبة التلال الإرهابية وسبق أن اتهم رئيس الحكومة الأسبق إسحق رابين الذي اغتيل على يد يغئال عمير بأنه خائن.
آفي ماعوز
الضلع الثالث في مثلث اليمين المتطرف هو آفي ماعوز عضو الكنيست ورئيس حزب نوعام وهو إلى جانب مواقفه المحافظة والمعادية للمثلية الجنسية ومساواة المرأة، شغل موقع مستشار لمنظمة "عتيرت كوهانيم" التي تركز نشاطها على الاستيطان في البلدة القديمة في القدس، وهو من أبرز الناشطين للاستيطان في بلدة سلوان ومن الداعين إلى إقامة دولة يهودية وفق القيم والتعاليم الدينية.
لحظة سياسية لن تتكرر
تدرك أحزاب اليمين المتطرف أنها تعيش لحظة سياسية ربما لن تتكرّر مرة أخرى، تتشكل فيها حكومة يمينية خالصة، برئاسة شخص لا يملك ائتلافاً آخر بسبب رفض أحزاب الوسط دخول حكومة يترأسها شخص متهم في قضايا فساد، وهو ما يهيئ الأرضية أمامها لإعادة إنتاج أفكارها القديمة وتبييضها على شكل قرارات حكومية وسياسات وميزانيات ترمي إلى تحويل إسرائيل إلى دولة محافظة أكثر، وحسم الصراع، أو على الأقل تنفيذ جزء من مخططاتها التي تجعل حل الصراع على أساس تفاوضي أمراً غير ممكن من الناحية العملية.
ومع كل ما تقدّم ينبغي القول إنه من خلال وجودها داخل الحكومة، التي يعتمد بقاؤها على أصواتها، نجحت أحزاب مثلث اليمين المتطرف في إحداث شرخ غير مسبوق داخل المجتمع الإسرائيلي، وخلق أزمة بين البيت الأبيض وحكومة نتنياهو، بالإضافة إلى إحداث تغيرات جوهرية في التعاطي مع الاستيطان كما ونوعا، وبث روح من الطمأنينة لدى جماعات تدفيع الثمن وشبيبة التلال للانقضاض على أكبر مساحة ممكنة من الأرض وارتكاب جرائم واعتداءات ضد الفلسطينيين.