• اخر تحديث : 2024-12-20 17:12
news-details
تقدير موقف

هل يشهد العالم صراعاً على المعادن البحرية؟


حظي التعدين في أعماق البحار باهتمام عالمي واسع، في ضوء ما يمنحه لشركات التعدين والدول المتنافسة من الأرباح والمكاسب، وبخاصة على خلفية التنافس الدولي المحتدم على المعادن الأرضية النادرة، التي يخضع معظمها لسيطرة الصين. وخلال السنوات الأخيرة، نما التنافس على تلك الصناعة، حتى في عام 2021، قدمت جزيرة ناورو الصغيرة الواقعة في المحيط الهادي، طلباً رسمياً إلى الهيئة الدولية لقاع البحار ISA – وهي هيئة تابعة للأمم المتحدة للأمم المتحدة، تتولى مهمة الإشراف على التعدين في المياه الدولية – للحصول على ترخيص تجاري لبدء التعدين في أعماق البحار. وهو ما ترتَّب عليه وضع بند في القانون الدولي ينص على قيام الهيئة الدولية لقاع البحار باستكمال لوائح التعدين الخاصة بها خلال سنتين من طلب الإذن. وإذا تعذر ذلك، يجب على الهيئة الموافقة مؤقتاً على منح التصريح التجاري.

ومنذ ذلك الحين، تجتمع البلدان بانتظام لمحاولة وضع اللمسات الأخيرة على القواعد الخاصة بالرصد البيئي وتقاسم المكاسب، وسط تزايد معارضة التعدين التجاري في أعماق البحار؛ وذلك من جانب ما يَقرُب من 200 دولة – بما في ذلك سويسرا وإسبانيا وألمانيا – تدعو إلى وقف هذه الممارسة خشية الإضرار بالحياة البحرية. وفي يوليو الماضي، كانت الدول قد اجتمعت في جامايكا من أجل وضع قانون التعدين، وقد أسفرت المفاوضات عن تبني الهيئة الدولية لقاع البحار خارطة طريق تهدف إلى اعتماد قواعد لتنظيم استخراج المعادن في أعماق البحار في 2025.

دوافع الاهتمام

يتبدى الاهتمام الدولي بالتعدين البحري بصورة كبيرة، نظراً إلى وجود عدد من الدوافع يمكن استعراضها فيما يأتي:

1توقعات بعدم كفاية التعدين الأرضي: ينطوي التعدين في أعماق البحار على تفريغ العُقَيْدات المتعددة الفلزات من قاع المحيط، وتوصيلها بالأنابيب إلى السفن الموجودة على سطح الماء. وتحتوي هذه العُقَيْدات على النحاس والليثيوم وعناصر أخرى نادرة. ويؤكد المدافعون عن التعدين في قاع البحار، أن التعدين الأرضي في القريب لن يلبي الطلب المتزايد   على المعادن الأرضية النادرة، وخاصةً الكوبلت والنيكل اللازمَين لتشغيل بطاريات التخزين “الخضراء” وضمان التحول بعيداً عن الوقود الأحفوري.

2زيادة الطلب العالمي على تكنولوجيا البطاريات: وفقاً لوكالة الطاقة الدولية، فإن طفرة تكنولوجيا البطاريات في السيارات الكهربائية والألواح الشمسية وتوربينات الرياح، الناتجة عن الدفع نحو الوفاء باتفاقية باريس للمناخ؛ ستسهم في زيادة الطلب العالمي على المعادن أربعة أضعاف بحلول عام 2040، وهو ما يتخذه المدافعون حجةً للدفاع عن فكرة التعدين في قاع البحار؛ فبحسب بعض الخبراء فإن المعادن الموجودة في قاع البحر يمكن أن تساعد في تلبية تلك الاحتياجات؛ إذ يذخر قاع البحار بصخور بحرية كثيرة، تحتوي تقنياً على الكوبلت والنحاس والمنجنيز والنيكل والذهب والفضة والزنك والفوسفور، وهي العناصر المستخدمة في تصنيع كل شيء من الهواتف الذكية إلى توربينات الرياح إلى بطاريات السيارات الكهربائية. وفي هذا الصدد، تتوقع هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية أن نحو 35–45% من الطلب على المعادن النادرة سيأتي من مناجم أعماق المحيطات بحلول عام 2065.

3خفض البصمة الكربونية المرتبطة بالتعدين الأرضي: يجادل المؤيدون لعملية التعدين في قاع المحيط، أن التعدين البحري من شأنه أن يترك بصمة كربونية أصغر مما يحدث على الأرض، مع تأثيرات أقل خطورةً على البشر. ومن ثم يرون ضرورة استخراج المعادن من قاع البحار؛ نظراً إلى ما سيكون لذلك من دور مهم في الانتقال إلى الطاقة الخضراء والدفع نحو صافي صفر انبعاثات.

4كسر السيطرة الاحتكارية للصين وروسيا على المعادن الأرضية النادرة: يجادل آخرون بأن استغلال قاع البحر والتعدين به، سوف يكسر إلى حد ما السيطرة الاحتكارية التي تمتلكها روسيا والصين على استخراج المعادن الأرضية النادرة، وهو أمر يستحوذ على اهتمام الدول الغربية في اللحظة الراهنة.

5تحقيق أرباح ضخمة من التعدين في البحار: ثمة أرباح كبيرة محتملة في منطقة صدع كلاريون – كليبرتون، وهي واحدة من أغنى مناطق العُقَيْدات في محيطات العالم. وبحسب كاثرين كومانز منسقة الأبحاث في شركة التعدين البحرية الكندية (MiningWatch Canada)، فإن السبب وراء الرغبة في استخراج مناجم في قاع البحار العميقة ليس لحماية الأرض من تغير المناخ، بل استخراجها من أعماق البحار لجني الأرباح. وفي ظل وجود التريليونات من العُقَيْدات المتعددة الفلزات في قاع البحر، فإن ذلك يرجح تحقيق أرباح ومكاسب ضخمة في حال التوسع في استخراجها. وبحسب هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية، فإن العُقَيْدات المتعددة الفلزات في قاع البحر، الموجودة في منطقة صدع كلاريون – كليبرتون، يمكن أن تحتوي على معادن أكثر أهميةً من جميع الاحتياطيات الأرضية في العالم.

تنافس دولي

يتزايد التنافس الدولي على التعدين البحري رغم تعالي المطالبات بوقفه، خشية مخاطره البيئية. ويتضح ذلك الاهتمام من خلال عدة مؤشرات نستعرضها فيما يأتي:

1زيادة أعداد الشركات المتنافسة على التعدين البحري: لعل الأهمية المتصاعدة للمعادن المستخرجة من قاع البحار، كانت سبباً في جلب نحو اثنتي عشرة شركة ودولة منافسة، فيما أصدرت الهيئة الدولية لقاع البحار بالفعل نحو 31 عقداً للتنقيب لصالح شركات ترغب في البحث في أعماق المحيطات؛ وذلك تحت رعاية 14 دولة، بما في ذلك الصين وروسيا والهند والمملكة المتحدة وفرنسا واليابان.

2موافقة أممية على أول معاهدة لأعالي البحار: وافقت الأمم المتحدة في مارس 2023، على أول معاهدة لأعالي البحار على الإطلاق بعد أكثر من عقد من المفاوضات من قبل الدول الأعضاء. وتهدف هذه المعاهدة إلى تخصيص نحو 30% من المياه الدولية في العالم للحفاظ عليها ووضع قواعد لاستغلالها.

3وضع خارطة طريق لاعتماد لوائح التعدين: في 22 يوليو 2023، بعد مفاوضات صعبة استغرقت ساعات في دولة جامايكا، تبنَّت الهيئة الدولية لقاع البحار خارطة طريق تهدف إلى اعتماد قواعد لتنظيم استخراج المعادن في أعماق البحار في 2025؛ ما أثار استياء منظمات غير حكومية تدعو إلى وقف نشاطٍ تعتبِر أنه يشكل خطراً على المحيط. هذا وقد أكد مجلس الهيئة الدولية لقاع البحار في جامايكا قبل أسبوعين من القرار، نيته مواصلة تطوير هذه القواعد، بهدف اعتمادها في الدورة الثلاثين للهيئة بحلول عام 2025. جدير بالذكر أن التعدين في أعماق البحار مُستثنًى من لوائح تقييم الأثر البيئي (EIA) الصادرة بموجب معاهدة الأمم المتحدة، التي تجعل وضع الضوابط على عملية التعدين البحري من اختصاص الهيئة الدولية لقاع البحار.

4خطط النرويج لفتح أجزاء من جرفها القاري للتعدين: في يونيو 2023، أعلنت النرويج اعتزامها فتح أجزاء من جرفها القاري أمام التعدين. وعلى خلفية ذلك، فتحت النرويج بشكل مثير للجدل مناطق في بحر جرينلاند وبحر النرويج وبحر بارنتس تغطي مساحة 280 ألف كيلومتر مربع (108 آلاف ميل مربع) لشركات التعدين للتقدم بطلب للحصول على تراخيص. وقد وضعت حجة أن استخراج الموارد من قاع البحار وسيلة لتمكين التحول إلى الطاقة الخضراء؛ فبحسب بيان لوزير النفط والطاقة النرويجي تيرجي آسلاند، فإن النجاح سيكون حاسماً لانتقال الطاقة على المدى الطويل في العالم.

5مساعي سيول لتوسيع التعاون مع السلطة الدولية لقاع البحار: في نوفمبر 2022، أجرت كوريا الجنوبية محادثات مع الأمين العام للهيئة الدولية لقاع البحار مايكل لودج في مدينة سيول، بهدف مناقشة أفق توسيع التعاون بشأن وضع معايير للتعدين التجاري في أعماق البحار، وقد بحثوا في خلال ذلك، دعم تطوير معادن أعماق البحار للبلدان النامية.

6تكثيف الصين لجهود التعدين في أعماق البحار: في مارس 2023، أفاد تقرير في صحيفة تشاينا ديلي المدعومة من الدولة، بأن الصين ستكثف جهود التعدين في أعماق البحار. ونقلاً عن نائب مدير مركز الصين للأبحاث العلمية للسفن، فإن صناعة التعدين في أعماق البحار باتت “جبهة جديدة للمنافسة الدولية” والصين في هذا الصدد متخلفة عن الغرب من حيث البحث والتكنولوجيا والأجهزة الخاصة بالتعدين في قاع البحار التي تسميها “حدوداً جديدة للمنافسة الدولية”.

ووفقاً لـ”يي كونج” من مركز الصين للأبحاث العلمية للسفن – ومقره مدينة وكسي الصينية، وهو فرع تابع لشركة (China State Shipbuilding Corp) – فإن تعدين المعادن في العُقَيْدات الموجودة في قاع البحر – وخاصةً النيكل والنحاس والكوبلت والمنجنيز – سيساعد الصين بشكل كبير على تقليل الاعتماد الكبير على الموردين الأجانب.

7محاولات يابانية لإنهاء الاعتماد على الصين في الموارد الأرضية النادرة: تتطلع اليابان كذلك إلى استغلال قاع البحر للمساعدة في التخلص من الاعتماد على الصين للحصول على المعادن الأرضية النادرة.وفي ضوء ذلك، تتطلع اليابان إلى استخراج تلك المعادن في وقت مبكر من عام 2024؛ إذ إنه بحسب صحيفة نيكي اليابانية، ستبدأ اليابان في استخراج المواد الأرضية النادرة للسيارات الكهربائية والهجينة من طين قاع البحر في منطقة قبالة جزيرة مينامي توريشيما، وهي جزيرة مرجانية في المحيط الهادئ على بعد نحو 1900 كيلومتر جنوب شرق طوكيو؛ وذلك خلال عام 2024.

8دعوات دولية لوقف التعدين البحري: في مقابل الاهتمام بالتعدين البحري من قبل عدد كبير من دول العالم، انضمت السويد وأيرلندا إلى قائمة متزايدة من البلدان التي تدعو إلى تعليق أو وقف أو حظر التعدين التجاري في أعماق البحار، وهي القائمة التي تشمل ألمانيا وفرنسا وإسبانيا ونيوزيلندا وكوستاريكا وتشيلي وبنما وبالاو وفيجي وولايات ميكرونيزيا الموحدة، فيما تتصدر كل من فرنسا وألمانيا دعوات وقف هذه العمليات أو حظرها، وتستندان في ذلك الرفض إلى عدد من المخاطر البيئية الناجمة عن عمليات التعدين هذه. فيما تحتفظ المملكة المتحدة بموقفها الاحترازي والمشروط بعدم رعاية أو دعم إصدار أي تراخيص استغلال لمشاريع التعدين في أعماق البحار إلى أن يتوافر دليل علمي كافٍ حول التأثير المحتمل على النظم البيئية في أعماق البحار.

مخاطر واسعة

ثمة مخاطر ومخاوف بيئية وسياسية يثيرها دعاة وقف التعدين في قاع البحار، يمكن استعراض أبرزها فيما يأتي:

1مخاوف من احتدام التنافس الدولي: ثمة مخاوف مثارة حول احتدام التنافس الدولي خلال الفترة المقبلة على التعدين في أعماق البحار، وربما تُثار المزيد من الخلافات مستقبلاً حول كيفية تقاسم المنافع من التعدين، خاصةً في ظل عدم وجود آلية حالية للقيام بذلك.

2تنامي المخاطر المهددة الكائنات الحية: أظهرت عدة دراسات جديدة أن مساحة شاسعة في قاع المحيط الهادئ من تلك المخصصة للتعدين في أعماق البحار، هي موطن لآلاف الأنواع من الكائنات الحية غير المعروفة، بما في ذلك خيار البحر العملاق والروبيان، والعديد من الديدان الصغيرة والقشريات والرخويات التي تعيش في الوحل، وقد أدى استكشاف ذلك إلى تزايد المخاوف بشأن المقترحات المثيرة للجدل حول تعدين أعماق البحار؛ حيث وافقت السلطة الدولية لقاع البحار في شهر يوليو الماضي على خارطة طريق لمدة عامين لاعتماد لوائح التعدين في أعماق البحار، على الرغم من دعوات دعاة الحفاظ على البيئة إلى الوقف الاختياري. في هذا الصدد، نشر فريق من الباحثين البريطانيين دراسة في شهر يوليو الماضي، حددت ما لا يقل عن 5500 نوع تعيش في منطقة صدع كلاريون – كليبرتون وحدها، مع الإشارة إلى أن 90% منهم غير معروفة.

3تهديدات وجودية للنظم الإيكولوجية البحرية الهشة: يُحذِّر دعاة حماية البيئة من أن التعدين في أعماق البحار يشكل تهديداً وجودياً للنظم الإيكولوجية البحرية الهشة؛ حيث تتعرض أشكال الحياة القديمة، مثل الديدان المتعددة الأشواك، والأخطبوطات دامبو، والشعاب المرجانية في منطقة الشفق لخطر التجريف، كما قد تؤدي الضوضاء الصناعية في المياه العميقة أيضاً إلى تشويه الاتصال بين الحيتان؛ ما يؤدي إلى الانزعاج ومقاطعة أنماط التغذية.

وفي أماكن أخرى، يمكن أن تتصاعد أعمدة الرواسب المليئة بالمعادن السامة إلى أعلى من المركبات الموجودة في قاع البحر؛ ما يؤدي إلى تلويث سلاسل الغذاء البحرية. وكذلك ينظر المعارضون إلى التعدين في قاع البحار على أن فيه إضراراً بالنظم البيئية للمحيطات؛ ما يتسبَّب في فقدان الشعاب المرجانية واستنزاف أعداد الأسماك والثدييات البحرية.

4التسبب في تلوث ضوضائي كبير: يمكن أن تولد التقنيات المحتملة لحصاد المعادن من قاع البحر تلوثاً ضوئياً كبيراً، وتطلق أعمدة من الرواسب التي تخاطر باختناق الأنواع التي تتغذى بالترشيح، وفقاً للاتحاد الدولي للحفاظ على الطبيعة (IUCN).وعلى جانب آخر، ثمة مخاوف،لا سيما بين الدول الجزرية الصغيرة ومجتمعات السكان الأصليين، من أن تتأثر أكثر من غيرها من عمليات التعدين في قاع البحار.

إجمالاً، تتجه التوقعات إلى القول بأن العالم على أعتاب صناعة يمكن أن يكون لها تأثير هائل في معالجة تغير المناخ من زاوية، ومن زاوية أخرى ساحة تنافس دولي كبير، في ظل الأهمية المتزايدة للمعادن التي يتم العثور عليها في العُقَيْدات المتعددة الفلزات، التي تكون ضرورية للإلكترونيات والبطاريات؛ ولذلك فإن من المتوقع أن تلعب مشاريع التعدين في أعماق البحار لاستخراج الكوبلت والنحاس والنيكل والمنجنيز وغيرها من المدخلات الرئيسية لبطاريات السيارات الكهربائية، دوراً مهماً في تلبية الطلب المتزايد على صناعة السيارات.

لكن على الجهة المقابلة، ثمة مخاوف متزايدة بشأن التأثير المحتمل على النظم البيئية البحرية، خاصةً أن الصناعة الناشئة لا تزال تفتقر إلى التنظيم، بما يدفع نحو زيادة المطالبات والضغط الدولي لوقف ومقاطعة تلك العمليات؛ نظراً إلى التهديدات التي تتعرض لها النظم البيئية البحرية من جراء ذلك، التي تفوق قدرات تلك النظم على التحمل بحسب رأي الكثيرين.