• اخر تحديث : 2024-12-20 17:12
news-details
تقارير

كيف يتعامل الاحتياطي الفدرالي الأمريكي مع الأزمات الاقتصادية؟


برّز دور بنك الاحتياطي الفدرالي، كأحد مرتكزات الاقتصاد في الولايات المتحدة، خاصة في خضم التداعيات الاقتصادية لجائحة "كورونا"، واضطراب سلاسل الإمداد والتوريد العالمية؛ بل صار هذا البنك مصرفاً مركزياً يؤثر في سياسات المصارف المركزية في العالم، كما أنه أهم واضع للسياسة الاقتصادية في التاريخ وأداة تمكين للتمويل الحديث.

ومع تزايد وتيرة الأزمات المالية والاقتصادية العالمية، نشأ جدال أمريكي بين من يدعم استقلالية دور هذا البنك، وسياساته في التعامل مع الأزمات، وآخرين يرون أهمية خضوعه للمراجعة والرقابة السياسية. لذلك، تسعى الباحثة جينا سمياليك، في كتابها "بلا حدود: الاحتياطي الفدرالي يدخل عصراً جديداً من الأزمة" الصادر خلال العام 2023 إلى مناقشة السياق الاقتصادي الذي واجه الاحتياطي الفدرالي الأمريكي في الفترة المضطربة التي بدأت في عام 2020، ومدى قدرته على الحد من التأثير المالي والاقتصادي لجائحة "كورونا".

الاستقلالية والمُساءلة:

منذ تأسيس بنك الاحتياطي الفدرالي الأمريكي، سعى للحصول على استقلالية عن مظلة البيت الأبيض التي كانت أكثر تداخلاً في سياساته خاصة خلال حقبة العشرينيات من القرن الماضي على ضوء الكساد الاقتصادي العظيم حينها. إلا أن البنك بدا أكثر استقلالية بين عامي 1950 و2000، حيث صارت لديه سياسة واضحة قائمة على محاربة التضخم، خاصة في ظل هيمنة الاقتصاديين عليه بدلاً من رجال الصناعة، ليصير البنك المركزي أكثر قوة إلى حدٍ كبير.

وانطلاقاً من أهمية الشفافية والديمقراطية داخل المجتمع الأمريكي، برز في عقد التسعينيات خط يربط بين المساءلة للاحتياطي الفدرالي ومراجعة عمليات السياسة النقدية والنفقات، وهو الأمر الذي اعترضت عليه إدارة البنك لما له من انعكاسات على دوره الاقتصادي، خاصة أن تطبيق المُساءلة تحت تأثير السياسيين الخاضعين لدورة انتخابية قصيرة المدى قد يؤدي إلى سوء الإدارة الاقتصادية. ففي عام 1993، طالب الديمقراطيون بنشر الحسابات والسياسات التفصيلية للاحتياطي الفدرالي، لكن الأخير بدأ بنشر التفاصيل المتعلقة بقراراته منذ فبراير 1994، عندما أعلن عن تغييرات في سعر الفائدة على الأموال الفدرالية، وهو أمر تم إعداده في البداية ليكون لمرة واحدة.

إلا أنه في عام 1999، بدأ بنك الاحتياطي الفدرالي نشر البيانات بعد كل اجتماع من اجتماعاته على أساس أن الشفافية ضرورية للتواصل السياسي الفعَّال والعادل وللحماية من الهجوم السياسي وأن شرح قرارات السياسة المالية والنقدية يقدم منفعة للعلاقات العامة. لكن مع تزايد تدخل الكونغرس في عمل المؤسسات المالية خلال فترة الرئيس السابق باراك أوباما، فقد انعكس ذلك سلباً على الاحتياطي الفدرالي خاصة مع عدم القدرة على السيطرة على المخاطر المختلفة للسنوات التي سبقت جائحة "كورونا". ثم جاءت الانتقادات المستمرة من جانب الرئيس السابق دونالد ترامب لسياسات البنك التي كانت توضع بطبيعة الحال تماشياً مع الحروب التجارية المختلفة التي كان يقودها ترامب حينها.

أدت هذه المتغيرات إلى تراجع قدرة بنك الاحتياطي الفدرالي على اتخاذ قرارات ملائمة لاحتواء الأزمات المالية، مما دفع إلى نشوء اتجاهات إصلاحية للتنظيم المالي الشامل، إذ دفع ذلك البنك إلى إنشاء مكتب حماية المستهلك المالي الجديد ومجلس مراقبة الاستقرار المالي؛ وهو اتحاد من المنظمين برئاسة وزارة الخزانة يهدف إلى تحديد المخاطر المالية الناشئة، ومن ثم اكتسب الاحتياطي الفدرالي صلاحيات جديدة لتنظيم المؤسسات المالية المهمة على مستوى النظام المالي والاقتصادي.

وظائف متباينة:

منذ فترة السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين –مرحلة العولمة والرأسمالية الحديثة- واجه الاقتصاد الأمريكي متغيرات متعددة من بينها، التركيبة السكانية الرمادية في الدولة ووضعية اقتصادية دولية مضطربة. تلك المتغيرات فرضت على رؤساء بنك الاحتياطي الأمريكي إعادة صياغة النهج الاقتصادي للاحتياطي الفدرالي لمواجهة التضخم وانخفاض النمو.

بحلول أوائل القرن الحادي والعشرين، صعد البنك ليكون أهم مؤسسة اقتصادية في الولايات المتحدة، إذ قام بمواجهة الأزمات الاقتصادية من خلال تحديد أسعار الفائدة وأسعار الصرف، حيث خفضّ أسعار الفائدة لتشجيع الإقراض والإنفاق حال تردي الاقتصاد أو رفع تلك الأسعار حال زيادة الاستهلاك والتوظيف.

وتتمثل الوظيفة الأساسية لبنك الاحتياطي الفدرالي في الحفاظ على استقرار ونشاط الاقتصاد بوتيرة ثابتة ومستدامة عبر تعزيز الحد الأقصى من فرص العمل واستقرار التضخم، وتوجيه تكلفة المال –أسعار الفائدة– بصورة تدفع المواطنين إلى الادخار في الأوقات الجيدة والإنفاق في الاضطرابات الاقتصادية.  ومن ثم صار للبنك أدوار أبعد من الإدارة الاقتصادية في لحظات الأزمات المالية، وذلك على النحو التالي:

- مقرض الملاذ الأخير: أدى بنك الاحتياطي الفدرالي دوراً كبيراً في الحفاظ على تدفق الائتمان في الأسواق المالية في خضم الأزمات المالية المختلفة مثلما الحال بالنسبة لدوره في معالجة الركود خلال الأزمة المالية العالمية في عام 2008؛ إذ ساعد على إنقاذ البنوك الكبيرة ومجموعة هائلة من الشركات المالية. وفي عام 2020 وعقب التداعيات الناجمة عن جائحة "كورونا"؛ عززّ البنك خلق الأموال للحفاظ على تدفق الائتمان إلى الشركات الكبرى وحكومات الولايات والحكومات المحلية والشركات متوسطة الحجم، ومن ثّم صار يؤدي وظيفة مزود تمويل أخير للاقتصاد بأكمله.

- معالجة ديون الحكومة: في ضوء أزمتي عام 2008 وتداعيات جائحة "كورونا" في عام 2020، أدى بنك الاحتياطي الفدرالي دوراً كبيراً في معالجة ديون الحكومة بمبالغ ضخمة؛ بغرض تهدئة الأسواق والمساعدة في سحب الاقتصاد المتعثر من حافة الهاوية من خلال خفض أسعار الفائدة على جميع أنواع الديون، من قروض الأعمال إلى الرهون العقارية، فيما يُعرف بعملية شراء السندات. ولجأ البنك للنهج ذاته في أعقاب جائحة "كورونا" عام 2020، إذ كان من بين مساعيه السيطرة على التضخم واستقرار أسعار الصرف.

وكان الاحتياطي الفدرالي قد أدى دوراً بين عامي 1970 و1980 في الحفاظ على القدرة الشرائية للدولار بعدما تراجعت خلال تلك الفترة (السلع والخدمات التي كانت تكلف 20 دولاراً في عام 1970 تضاعفت لـ41 دولاراً في 1980). إذ تطلب ذلك استجابة قوية من البنك عبر تقليل حجم التغيير في أسعار الصرف، لذلك، فإن السلع التي كانت تكلف 20 دولاراً في 2010 صارت بـ24 دولاراً بحلول عام 2020.

- توسع عرضي: واحدة من بين التحولات النوعية في وظائف بنك الاحتياطي الأمريكي تمثّلت في التنظيم والإشراف على الشركات المصرفية القابضة في الولايات المتحدة الأمريكية ومراقبة الاستقرار المالي وإدارة العرض النقدي ونظام المدفوعات الأساسية في البلاد، بما جعل لديه قدرة على دعم الأسواق المضطربة في الأزمات المالية المختلفة. واتضح هذا النهج في الأزمة المالية عام 2008 التي زادت من حِدة الضغوط على الاحتياطي الفدرالي خاصة وأنه كان يمتلك عدداً قليلاً نسبياً من الأدوات للتعامل مع نقاط الضعف المتزايدة، والتي يقع بعضها ضمن اختصاص المنظمين الآخرين.

أزمة "كورونا" والاحتياطي الفدرالي:

جاءت جائحة "كورونا" لتؤثر في النظام المالي العالمي منذ منتصف مارس 2020، وكذلك الاقتصاد الأمريكي؛ إذ تراجعت أسواق الأسهم وهو ما انعكس سلباً على مدخرات الأسر الأمريكية؛ مما أدى إلى انخفاض صافي الثروة بنسبة 5.5% خلال الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2020. وهذا الأمر في حالة استمراريته سوف يؤثر في سوق الخزانة؛ مما يدفع حكومة الولايات المتحدة إلى رفع الضرائب لتسديد التزاماتها، ومن ثّم فإن هذه المعطيات قد توقف التداول في أسواق الخزانة.

استجاب الاحتياطي الفدرالي لهذه الأزمة باتباع السياسات الممكنة للحد من آثارها، إذ قدم دفعات من التمويل للشركات المختلفة مع تسريع عمليات شراء السندات المخطط لها، والعمل على تمويل الديون التجارية كوسيلة لم تكن متبعة داخل هذا البنك، مع خفض تكاليف الاقتراض على المدى القصير إلى الصفر للحفاظ على الاقتراض رخيصاً قدر الإمكان، وذلك في إطار معالجة أبعاد وتأثيرات فيروس "كورونا" في التجارة.

وبذلك، فقد تشابك الدور الرئيسي لبنك الاحتياطي الفدرالي بين الحفاظ على سوق الخزانة وتسيير التجارة وكذلك دعم الاستثمار. لذا فقد اعتمد على التدخل الهائل في سوق السندات إلى جانب الدعم المستمر لبرامج تقديم الائتمان الجديدة بما يحقق وضعاً أكثر استقراراً للمستثمرين، وتجنب الانهيار على مستوى النظام المالي بأكمله والحفاظ على قوة الدولار لما له من وضعية خاصة في الاقتصاد والأسواق العالمية.

ولعل متطلبات مواجهة الآثار الاقتصادية والمالية لجائحة "كورونا" تفرض أهمية التوسع والتمكين والتأييد من جانب الكونغرس والحكومة لما يتخذه البنك الاحتياطي الفدرالي من إجراءات وحزمة سياسات نقدية ومالية، إذ تتوقف قدرته على ما إذا كان لديه القوة لجعل حزمة السياسة المالية والنقدية الأوسع فعالة، وما إذا كانت الحكومة الأوسع ستعزز جهود الإنقاذ الاقتصادي المناسبة الخاصة بها. ومع فشل الكونغرس في التوصل حينها إلى خطة واضحة لإنقاذ القطاع الخاص، فقد جعل ذلك إنقاذ الشركات متوسطة الحجم يقع على عاتق مجلس الاحتياطي الفدرالي عبر شراء أكبر قدر من الديون المدعومة من الحكومة حسب الحاجة لاستعادة الوظيفة إلى أسواق الخزانة المعطلة والسندات المدعومة بالرهن العقاري.

 خلاصة القول إن مساعي بنك الاحتياطي الفدرالي الأمريكي للاستقلالية في اتخاذ قراراته خاصة في السياسات النقدية والمالية، واجهت ضغوطات مختلفة من الإدارات الأمريكية المتعاقبة وكذلك الكونغرس. لكن جائحة "كورونا"، وما تطلبته من تدخل الاحتياطي الفدرالي للتخفيف من تأثير الوباء وإعادة الاقتصاد الأمريكي إلى المسار الصحيح، كشّفت عن وضعية ومكانة هذا البنك في الاقتصاد الأمريكي والمنظومة الاقتصادية العالمية، من خلال محاولة الاستمرار في تحفيز الاقتصاد لتعزيز انتعاش سوق العمل والسيطرة على حالة التضخم.