يُعد "التغيير" من العوامل القليلة، بل وربما العامل الحاسم الوحيد، والقوة المستمرة التي تشكل المشهد الجيوسياسي العالمي. وقد يختلف حجم التغيير ووتيرته ونتائجه النهائية حسب عوامل عديدة تحمل دائماً آثاراً من الماضي ودلالات على المستقبل.
ونشهد اليوم تغييراً سريعاً ومتزامناً على المستويات العالمية والإقليمية والمحلية، وغيرها من المستويات، كنتيجة لعوامل متعددة، منها التقدم التكنولوجي المستمر في الاتصالات، والتواصل المكثف، والعولمة. ولهذه التطورات آثار غير محدودة على إمكانية الوصول إلى الأسواق، وتبادل المعلومات، وما أبعد من ذلك. بالإضافة إلى ذلك، هناك العديد من العوامل المحلية والإقليمية الخاصة التي تسهم في تطور المشهد، منها على سبيل المثال لا الحصر، الموقع الجغرافي الاستراتيجي، والتركيبة السكانية الشابة، والوضع الاقتصادي، والتفاوتات وعدم التكافؤ، فضلاً عن التجانس أو التنوع العرقي.
التغيير والمقاومة في الشرق الأوسط
إن التحول في قطبية النظام الدولي، مع صعود الهويات مرة أخرى في ظل حضارات وثقافات مترابطة عالمياً قد خلّف تبعات على علاقات الدول الإقليمية، كما أدت هذه التطورات دوراً حاسماً في تحديد أشكال الأنظمة المحلية والاستقرار، خاصة في الشرق الأوسط.
في عالم سريع التغيير، لا يُمثل الشرق الأوسط – بتاريخه الطويل وثقافاته المتنوعة وتقاليده العريقة – أي استثناء، فلطالما شهدت هذه المنطقة تغييرات مستمرة، إلا أنها لم تستوعب هذه التغييرات بسرعة في كثير من الأحيان، ولاسيما عندما لا تنبع من الداخل.
لقد استمرت دول الشرق الأوسط على مر التاريخ في تأكيد ارتباطها بعلاقات قوية مع الدول الأجنبية الكبرى باعتبارها ركيزة أساسية في سياساتها الخارجية، فركزت معظم دول شمال إفريقيا، مثل موريتانيا والمغرب والجزائر وتونس، على إقامة علاقات مع أوروبا الغربية، أما الدول الواقعة شرقاً، والمطلة في الغالب على البحر الأبيض المتوسط، مثل ليبيا ومصر وإسرائيل وفلسطين وتركيا وسوريا والأردن والعراق، فمالت إلى التركيز بدرجة أكبر على إقامة علاقات مع الولايات المتحدة وروسيا على مدار فترات مختلفة. وفي الوقت ذاته، حافظت دول الخليج العربي على علاقات وثيقة مع الغرب.
ونتيجة لذلك، تتأثر مصالح دول المنطقة ومواقفها الجيوسياسية تأثراً مباشراً وكبيراً بفترات الفوضى أو التحول التي يمر بها النظام الدولي.
ومع التحول العالمي الحالي نحو التعددية القطبية، نلحظ اتجاهاً واضحاً وإيجابياً في العالم العربي نحو توسيع العلاقات وإعادة توازنها. ويُمثل هذا التحول خروجاً عن أنماط التحالفات السابقة ورغبةً في تنويع الشراكات كرد فعل لتغير الواقع الجيوسياسي.
ومن بين أبرز المؤشرات على هذا التوسع الدولي هو تطوير دول الشرق الأوسط علاقاتها مع الصين وروسيا، ما يدل على رغبة العالم العربي في تأسيس روابط جديدة، وتنويع علاقاته لتعزيز الفرص الاقتصادية والتعاون الأمني وتوسيع نفوذه الدبلوماسي على الساحة الدولية.
بيد أنه من المؤسف أن أحد أهم الأمور الأخرى المشتركة بين دول الشرق الأوسط هو تورط أغلبها في "نزاعات سياسية أو حدودية" مع واحدة أو أكثر من جيرانها. وتعاملت دول المنطقة في العموم بحكمة مع هذه القضايا، بعيداً عن النهج التصادمي، وبقيت النزاعات كامنة في الغالب، ولكن لأنها "عرضة للاشتعال" في أي وقت، سيحد ذلك في النهاية من التعاون الإقليمي، حيث تقيم الدول العلاقات الإقليمية باستمرار، ما يخلق بيئة إقليمية معقدة ومراوغة.
وتُعد هذه المراوغات الإقليمية المستمرة من بين أسباب عدم وجود منظمة حكومية إقليمية في الشرق الأوسط، فحتى جامعة الدول العربية، ذات العدد الأكبر من الدول الأعضاء، تواجه تحديات متزايدة فيما يخص فعاليتها، بينما تبذل المنظمات دون الإقليمية مجهوداً أكبر لتحقيق أهدافها.
تنتشر هذه السمات بين معظم دول الشرق الأوسط، بالرغم من أنها كانت أقل وضوحاً تاريخياً في تركيا وإسرائيل وإيران، وهي دول تتسم بقدراتها الأمنية المتطورة. ومع ذلك، فإن العديد من الدول العربية أظهرت أخيراً إصراراً وعزماً، حيث بذلت بنشاط وإبداع جهوداً دبلوماسية دولية وإقليمية تعكس قدراً أكبر من المرونة والثقة والاستقلال.
تحولات من العالم للإقليم
في ضوء ذلك، شهدت العقود القليلة الماضية العديد من التحولات في الشرق الأوسط:
- تحول التوازن الجيوسياسي نحو تركيا وإسرائيل وإيران، وهي دول اتبعت في الماضي سياسات إقليمية عدوانية أو عنيدة، محاولة وضع نفسها في مراكز القيادة في المنطقة. ولكن تعين أخيراً على تلك الدول تغيير استراتيجياتها بعدما تبين عدم فعالية سياساتها الإقليمية العدوانية. وتحاول أغلب الدول الثلاث حالياً الحفاظ على إنجازاتها، ومواجهة التحديات، والتكيف مع البيئات السياسية المتغيرة من خلال أساليب أكثر دبلوماسية وجاذبية للفاعلين الإقليميين.
- زادت المؤشرات الدالة على تبني المنطقة – ولاسيما الخليج العربي – "التغيير" على نحو أكثر ثقة وإيجابية في السنوات الأخيرة، وهو ما تجلى على المستوى المحلي، وكذلك في إقامة علاقات ودية مع الولايات المتحدة والصين وروسيا. ومن الأمثلة على ذلك استضافة الرياض لمؤتمرات قمة إقليمية مع واشنطن وبكين، وكذلك استضافة روسيا للاجتماع الوزاري للحوار الاستراتيجي السادس مع الخليج.
- اتخذت النزاعات في المنطقة صبغة إقليمية، بالتزامن مع تراجع دور الفاعلين الدوليين. كما اتجهت "دبلوماسية حل النزاعات" نحو مزيد من المبادرات الإقليمية، ولاسيما في شمال إفريقيا وليبيا وشرق البحر المتوسط وسوريا والخليج العربي وإيران والسودان، وهو اتجاه إيجابي يشير إلى زيادة توجه الفاعلين الإقليميين نحو الاضطلاع بدور أكثر فاعلية في البحث عن حلول للنزاعات في مناطقهم، فنجد أن المغرب استضاف هذا العام اجتماع المصالحة الليبية، بينما عقدت مصر اجتماعات للدول المجاورة للسودان، واجتماعات أخرى للفصائل الفلسطينية، كما استضافت السعودية اجتماعات لبحث شؤون السودان، وأبرمت اتفاقاً مع إيران، واستضافت اجتماعاً لجامعة الدول العربية عادت سوريا من خلاله للجامعة. كما تبذل الإمارات جهوداً دبلوماسية هادئة بشأن قضايا مياه النيل الشائكة. ومن الأمثلة المهمة الأخرى على هذا الاتجاه هو عودة العلاقات الودية بين تركيا والعديد من الدول العربية من شمال إفريقيا إلى الخليج، وظهور ملامح لتحسن في العلاقات بين دول الخليج العربي وإيران. ويوضح كل ذلك النهج المتطور الذي تتبعه المنطقة للتعامل مع القضايا الخلافية داخل حدودها. وبمقدور هذا النشاط – إذا ما استُثمر بحكمة – أن يوازن ويحقق الاستقرار في الجغرافيا السياسية الإقليمية، وبالتالي أن يدفع الفاعلين الآخرين نحو المزيد من التكيف.
- تنامى التركيز على التنمية الاقتصادية في الشرق الأوسط. وهو ما اتضح في إعطاء الأولوية للمساعي التي تهدف إلى تعزيز كفاءة البنية التحتية، وإصلاح الاقتصادات الوطنية وتحديثها، وإنشاء مراكز لوجستية إقليمية لشرق إفريقيا وغرب آسيا، بالإضافة إلى اتجاه صحي نحو تعزيز المهارات البشرية، وهو تطور مهم في دول أغلب سكانها من الشباب. لذا يمكننا القول في الأساس إن هناك مؤشرات على استيعاب المنطقة واستعدادها للمستقبل.
التحديات المقبلة
يواجه مستقبل الشرق الأوسط بالفعل تحديات كبرى تجب مواجهتها لتحقيق التنمية والاستقرار المستدامين في المنطقة. فقد يؤدي انتشار الصراعات الإقليمية في نهاية المطاف إلى تعطيل قطارات التنمية. وهناك تحدٍ آخر يكمن في التعامل مع عدم التكافؤ والفروقات الاقتصادية المتزايدة في المنطقة، والتي هي الأكبر في العالم، فالمنطقة تعاني من ارتفاع مستمر في معدلات البطالة، ولاسيما بين الشباب من الذكور والإناث. ولقد تفاقمت تلك التحديات الاقتصادية بسبب تداعيات جائحة "كوفيد19" وبسبب الوضع في أوكرانيا. فقد أشار تقرير لمنظمة العمل الدولية إلى أن معدلات البطالة قد ارتفعت في المتوسط إلى 21.4% بين الذكور و42.5% بين الإناث في عام 2022، حيث وقعت أغلب هذه النسبة على نحو غير متوازن على الفئة الأعلى من حيث المستوى التعليمي ممن يبحثون في الغالب عن وظائف آمنة ومستقرة في القطاع العام. ومن المثير للاهتمام أن البنك الدولي قد وصف الشباب في العديد من الدول (مثل البحرين والكويت واليمن والإمارات العربية المتحدة والعراق وقطر والمملكة العربية السعودية والأردن ومصر وتونس) بأنهم يُمثلون أعلى النسب المهتمة بالتوظيف في القطاع العام.
ومع ذلك، فإن الطلب على وظائف القطاع العام فاق بكثير عدد الوظائف المتاحة، مما أدى إلى نمو في قطاع الاقتصاد غير الرسمي وهو الأكثر ضعفاً، وفي الغالب الأقرب إلى خط الفقر. يستدعي هذا الأمر اتخاذ إجراءات عاجلة لتعزيز القطاع الخاص وكذلك تعزيز سياسات التأمين الاجتماعي الذي يتضاءل حالياً. وصار من الضروري وجود نظام قوي يستجيب للأزمات المفاجئة لدعم منخفضي الدخل، ويتضمن ذلك توسيع نطاق تأمين العمال غير الرسميين بموجب سياسات الحماية والتأمين الاجتماعي بهدف تعزيز إنتاجيتهم.
على الجانب الآخر، لا ينبغي تجاهل تحدياتٍ مثل الأمن الغذائي، وندرة المياه وإدارتها، وآثار تغير المناخ، فضلاً عن التسليح النووي وانتشاره. وتشير استضافة دولة الإمارات العربية المتحدة لمؤتمر الأطراف (كوب 28) بعد عام واحد من استضافة مصر للمؤتمر (كوب 27) بوضوح إلى أن المنطقة تدرك هذا التحدي وتدرك الحاجة إلى تقديم حلول شاملة ومنطقية كرد فعل له، وهو ما يشير بدوره إلى استعداد المنطقة للإسهام في الجهود العالمية للتصدي لتغير المناخ وعواقبه.
بالإضافة إلى هذه التحديات، نجد تحدياً آخر (إن لم يكن أهمها) وهو الحاجة إلى مزيد من البحث عن الهوية الوطنية داخل دول المنطقة وتحديدها، خاصة بعد سنوات من "البحث عن الذات" تفاوتت ما بين القومية والعلمانية والأصولية، والطائفية والإصلاحية والحداثية.
تستطيع المنطقة أن تعزز الشعور بالانتماء والهدف المشترك من خلال تعزيز العقود الاجتماعية الأكثر استجابة لاحتياجات الشعوب، والتي تحترم العرق والتنوع مع إجلال الهوية الوطنية، وهو أمر لا غنى عنه من أجل إقامة مجتمعات مرنة ومستقرة.
ومن خلال الإجراءات الاستباقية والتعاونية، يمكن للمنطقة أن تتطلع إلى مستقبل أكثر تفاؤلاً.. مستقبل يعزز التنمية والسلام والازدهار لشعوبها.