• اخر تحديث : 2024-05-03 14:30

فاز المرشح اليميني المتطرف “خافيير ميلي” بأعلى نسبة من الأصوات (30%) بين المرشحين في الانتخابات التمهيدية للرئاسة في الأرجنتين، التي أجريت في 13 أغسطس الجاري، والتي تحدد مرشحي الأحزاب الرئيسية للرئاسة. وقد حصلت وزيرة الأمن السابقة “باتريشيا بولريش” المرشحة عن ائتلاف المعارضة الرئيسي "متحدون من أجل التغيير" – يمين الوسط، على 28%، بينما فاز وزير الاقتصاد الحالي “سيرجيو ماسا” مرشح الائتلاف اليساري الحاكم “الاتحاد من أجل الوطن” بـ 27% من أصوات الناخبين.

كان الانتصار الانتخابي لميلي المحلل الاقتصادي والنائب في الكونجرس الأرجنتيني منذ عام 2021، بمنزلة مفاجأة مدوية داخل الأوساط السياسية بالبلاد؛ حيث فاز في 16 من أصل 24 مقاطعة في الأرجنتين، وتسبَّب في حالة من القلق الشديد داخل الكتلة الحاكمة ومعارضتها الرئيسية، كما أثار تساؤلات عدة حول أسباب هذا الفوز المفاجئ، ومدى قدرة ميلي على الفوز بالجولة الأولى للانتخابات الرئاسية، خاصةً أن التصويت في الانتخابات التمهيدية إلزامي، وغالباً ما يكون بمنزلة مؤشر على المرشح المفضل للفوز في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية في 22 أكتوبر القادم.

 

عوامل متعددة

يمكن تفسير الصعود الانتخابي السريع والمفاجئ لميلي في المشهد السياسي في الأرجنتين – ومن ورائه اليمين المتطرف – بعوامل عدة، لعل أبرزها:

1- الاستياء العميق من النخبة السياسية: على مدار عقد من الزمان، تبادل تحالفان سياسيان رئيسيان السلطة في الأرجنتين. ويمكن النظر إلى حصول “ميلي” المرشح الرئاسي لحزب “تقدم الحرية”، على نسبة أصوات أعلى من مرشحي الأحزاب التقليدية التي هيمنت على السياسة الأرجنتينية، على أنه استمرار للتوجه المناهض لشاغلي المناصب، الذي شهدته أمريكا اللاتينية على مدى السنوات الأربع الماضية.

فمنذ عام 2019، انتصرت شخصيات المعارَضة في البرازيل وتشيلي وكولومبيا وبوليفيا وبيرو وكوستاريكا وأوروجواي وغيرها، بغض النظر عن توجهها الأيديولوجي. يريد الناس في أمريكا اللاتينية تغييرات هيكلية سريعة بتكاليف اجتماعية محدودة، دون التردد في الإطاحة بشاغلي المناصب السياسية إذا لزم الأمر. ومن الواضح أن ميلي كان ناجحاً في توظيف الغضب الشعبي، من خلال قيادته حملة انتخابية موجهة ضد النخبة السياسية القائمة التي وصفها بـ “الطبقة الطفيلية والفاسدة “، وحمَّلها المسؤولية عن الأوضاع المتدهورة في البلاد.

2- الاحتجاج على تدهور الأحوال الاقتصادية: جاء فوز ميلي في الوقت الذي تُعاني فيه الأرجنتين من أوضاع اقتصادية واجتماعية صعبة للغاية، مع تضخم سنوي يزيد عن 100%، وارتفاع معدل الفقر (40% تقريباً) وانخفاض قيمة العملة الوطنية مقابل الدولار بمستويات قياسية. كان الغضب الشعبي بسبب الحالة السيئة للاقتصاد موجهاً بشكل رئيسي لمرشح الائتلاف الحاكم “الاتحاد من أجل الوطن”؛ فعلى الرغم من فوز سيرجيو ماسا بسهولة على منافسه اليساري، فإنه في نظر الكثيرين الخاسر الأكبر في الانتخابات التمهيدية؛ حيث احتل المركز الثالث من حيث إجمالي الأصوات.

ويعني فوز “ميلي” أن الاقتصاد عامل محوري في التصويت. ومن خلال مقترحاته الاقتصادية الجذرية، يمثل مرشح اليمين المتطرف تتويجاً لسنوات طويلة من خيبة الأمل العميقة بسبب فشل الإدارات المتعاقبة في الحد من الركود الاقتصادي والتقلبات المالية، ونوعاً من التصويت “العقابي” و”الاحتجاجي” من قبل الناخبين المحبطين من السياسات الاقتصادية لحكومة الرئيس اليساري الحالي “ألبرتو فرنانديز”، التي تبلغ نسبة تأييدها 13%.

3- الانقسام داخل صفوف المعارضة: للمرة الأولى في تاريخ الأرجنتين، يتفوق مرشح من اليمين المتطرف على مرشحي يمين الوسط ويسار الوسط. وبينما حقق الائتلاف اليساري الحاكم أسوأ نتيجة حتى الآن في السباق الرئاسي، فإن ائتلاف “متحدون من أجل التغيير”، كان أداؤه مخيباً للآمال برغم أنه يمثل قوة المعارضة الرئيسية في الأرجنتين.

تغلبت وزيرة الأمن السابقة “باتريشيا بولريتش” – التي جعلت من الصرامة في مواجهة الجريمة محوراً لحملتها – على منافس أكثر وسطيةً، وهو عمدة بوينس أيرس “هوراسيو رودريجيز لاريتا”، في الانتخابات التمهيدية داخل كتلة المعارضة من يمين الوسط؛ الأمر الذي يعكس ميل المعارضة في الأرجنتين أكثر نحو اليمين، لكن هذا يدل أيضاً على حالة الانقسام والاستقطاب الشديد داخل تكتل المعارضة، خاصةً أن لاريتا كان اليد اليمنى للرئيس السابق “ماوريسيو ماكري”، وانتُخب مرتين عمدةً لمدينة بوينس آيرس (مرة واحدة بأكثر من 50% من الأصوات).

التوجهات الانتخابية

تتمثل الملامح الرئيسية لبرنامج مرشح اليمين المتطرف الانتخابي فيما يلي:

1- توجهات اجتماعية محافظة ومعادية للبيئة: يقول ميلي إن الطلاب في نظام التعليم العام المجاني في الأرجنتين “رهائن لنظام تلقين الدولة”، ووعد بإلغاء تدريس التربية الجنسية في المدارس، التي وصفها بأنها حيلة لتدمير الأسرة، كما أنه يعارض إضفاء الشرعية على الإجهاض، ويعتقد أن تغير المناخ كذبة. وقال أيضاً إن بيع الأعضاء البشرية يجب أن يكون قانونياً، وهو نشاط محظور الآن في الأرجنتين.

2- سياسات اقتصادية راديكالية: يدعو “ميلي” إلى إصلاحات اقتصادية نيوليبرالية جذرية. ومن بين أمور أخرى، يريد استخدام الدولار الأمريكي بديلاً للبيزو عملةً رسميةً، وإلغاء البنك المركزي، واقترح أيضاً إيجاد نظام بديل للتعليم العام المجاني في الأرجنتين بما في ذلك الدراسات الجامعية؛ بحيث يتم طرح نظام “القسائم”، وألمح إلى أنه سينهي التعليم الابتدائي الإلزامي، بالإضافة إلى إجراء تخفيضات حادة في الإنفاق العام، من خلال تقليص عدد الوزارات والوكالات الحكومية، وجميعها أفكاره مثيرة للجدل للغاية.

3- حرية امتلاك السلاح: حالياً، ملكية السلاح مقيدة بشدة في الأرجنتين، لكن وفقاً للبرنامج الانتخابي لحزبه، يؤيد “ميلي” حرية امتلاك الأرجنتينيين الأسلحة، بعد زيادة حالات انعدام الأمن في بعض مناطق البلاد. ويتفق هذا التوجه مع رؤى بعض قادة اليمين المتطرف، مثل “دونالد ترامب” في الولايات المتحدة، و”جايير بولسونارو” في البرازيل، و”نجيب بوكيلي” في السلفادور.

4- التقارب مع الولايات المتحدة وإسرائيل: قال ميلي إنه إذا فاز “فسيكون حليفاً لكل من الولايات المتحدة وإسرائيل”، وتعهد بنقل سفارة الأرجنتين في إسرائيل من تل أبيب إلى القدس على خُطى “دونالد ترامب”، الذي أبدى ميلي إعجابه الشديد به. بالمثل، فإن من المرجح أن تتعزز علاقات الأرجنتين بالدول التي لدى حكوماتها أو أحزاب المعارضة الرئيسية فيها توجهات يمينية متطرفة. وبالفعل، حظي فوز ميلي بترحيب حار وإشادة قوية من قبل قادة اليمين المتطرف في البرازيل، وتشيلي، وإسبانيا، وفرنسا، وإيطاليا.

نتائج متوقعة

مع اقتراب موعد إجراء الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية في الأرجنتين، يمكن الوقوف على بعض المؤشرات الأولية، ومن بينها:

1- تزايد عدم اليقين بشأن نتائج الجولة الأولى: من أجل الفوز في الجولة الأولى في الانتخابات الرئاسية، سيتعين على مرشح اليمين المتطرف زيادة حصته من أصوات الناخبين بنسبة 15%، وهي نسبة ليست بالقليلة. وإذا لم يحصل أحد المرشحين على 45% من الأصوات خلال الجولة الأولى، فسيحتاج إلى 40% و10 نقاط أعلى من المرشح الذي يحتل المركز الثاني. خلاف ذلك، سيذهب السباق إلى جولة إعادة في نوفمبر بين الحاصلين على المركزين الأول والثاني. سيحتاج المرشحون للرئاسة إلى تبني خطاب انتخابي قادر على تشجيع الناخبين المرهقين على المشاركة بكثافة في الانتخابات، خاصةً أن 69% من الناخبين في الأرجنتين البالغ عددهم 35 مليون ناخب شاركوا في انتخابات 13 أغسطس الجاري، ويمثل ذلك أدنى نسبة مشاركة في الانتخابات التمهيدية الرئاسية منذ إنشاء النظام الحالي في عام 2009.

2- فرص متباينة للمرشحين للرئاسة: من الواضح أن السيناريو الحالي للأزمة الاقتصادية يدعم هجمات ميلي على النخبة السياسية، ويضيف إلى مزاج خيبة الأمل السائد بين الناخبين. وتُشير المؤشرات الأولية إلى أن مرشح الائتلاف اليساري الحاكم سيواجه تحديات بالغة في ظل ارتفاع نسبة الرفض للسياسات الاقتصادية للحكومة الحالية، واتجاه الاقتصاد إلى الانكماش بنسبة 1.6% هذا العام. مع ذلك فإن السيناريو الاقتصادي الأكثر تقلباً والمقترحات الراديكالية لميلي، ربما يدفعان الناخبين إلى التصويت لصالح أحد مرشحي الحزبين الرئيسيين، بهدف منع اليمين المتطرف من الوصول إلى السلطة.

3- زيادة التنافس على جذب أصوات الناخبين المعتدلين: بين الانتخابات التمهيدية والجولة الأولى في 22 أكتوبر القادم، سيقاتل المرشحون لجذب المزيد من الناخبين إلى صناديق الاقتراع. ومن المرجح أن تكون هذه النسبة من الناخبين الأكثر اعتدالاً وربما الحذرة من مقترحات ميلي المتطرفة وخطابه العدواني تجاه النساء على سبيل المثال. هذا يعني أن مرشحَي يمين ويسار الوسط لا يزال لديهما فرصة لكسب أصوات المعتدلين حتى الجولة الأولى. بالنسبة إلى باتريشيا بولريتش، فإن أداء ميلي القوي يحد من قدرتها على جذب الناخبين اليمينيين، وسيتعيَّن عليها أن تجذب أصوات مؤيدي منافسها المرشح المعتدل “هوراسيو رودريجيز لاريتا”. من المرجح أن يلعب الرئيس السابق “ماوريسيو ماكري” دوراً رئيسياً في ضمان الوحدة الداخلية وتعبئة الناخبين لدعم مرشح المعارضة.

4- شكوك محتملة في قدرة ميلي على الحكم: هناك شكوك عديدة بشأن قدرة ميلي على الحكم، بالنظر إلى افتقاره إلى تنظيم حزبي قوي خلفه – وهو أمر يمتلكه كل من الائتلاف الحاكم والمعارضة الرئيسية – وحتى إذا حقق نتائج جيدة في الجولة الأولى، فإنه سيكون بعيداً عن الأغلبية التشريعية في أيٍّ من مجلسي الكونجرس. وتظهر التوقعات أن حزب ميلي قد يسيطر على 40 مقعداً فقط من أصل 257 مقعداً في مجلس النواب بالكونجرس.

وسيتطلب معظم جدول أعمال ميلي، الذي يدعو إلى إجراء تغييرات في خطة تقاسم الضرائب في الأرجنتين بين الحكومة الفيدرالية والمقاطعات، وخفض كبير في الإنفاق العام واعتماد الدولار الأمريكي عملةً رسميةً، من بين مقترحات أخرى، دعماً تشريعياً قوياً. ويبدو أن فوزه يرجح حدوث صدام بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، ما لم ينجح في تشكيل ائتلاف حكومي من معارضي نائبة الرئيس “كريستنيا كيرشنر” داخل الائتلاف الحاكم والجماعات اليمينية داخل ائتلاف المعارضة التي تتفق مع ميلي في بعض مقترحاته الاقتصادية.

من جملة ما سبق، يتضح أن نتائج الانتخابات التمهيدية في الأرجنتين ربما تُمهد الطريق أمام عودة اليمين المتطرف إلى السلطة في أمريكا اللاتينية. كان هذا التيار حاضراً بقوة في البرازيل خلال فترة حكم جايير بولسونارو بين عامي 2019 و2022. كما يحقق الشعبويون اليمينيون نجاحات مهمة من خلال تبني سياسة صارمة ضد الجريمة، وعلى الأخص في السلفادور؛ حيث ارتفعت شعبية الرئيس نجيب بوكيلي وسط حملة ضد العصابات الإجرامية. وبغض النظر عن الفائز في الانتخابات المقبلة، فإن الأرجنتين مقبلة على مرحلة جديدة، وسوف تواجه الحكومة القادمة التحدي المتمثل في استعادة الثقة السياسية والاستقرار الاقتصادي من أجل التغلب على الأزمة التي طال أمدها في البلاد.