دراسة أجراها المكتب الوطني للأبحاث الاقتصادية (NBER) عام 2020 ونشرتها مجلة "التايم"، جرت على عيّنة من تسع ديموقراطيات غربية، تجد أن الولايات المتحدة لديها أعلى معدل استقطاب بين الناس في صفوف الأحزاب السياسية المعارضة. وفيما يلي نص المقال المترجم.
من الواضح أن الأميركيين لا يتفقون حول أفضل الحلول بشأن مشاكل بلادهم. لكن حين تستعر هذه الخلافات، تتولّد مشاعر الكراهية وعدم الثقة والازدراء تجاه الأشخاص الذين ينتمون إلى أحزاب سياسية معارضة لتضاهي عنوان الخلاف بينهما.
في الواقع، لقد طوّر الديموقراطيون والجمهوريون مشاعر الكراهية إزاء خصومهم السياسيين، هذه الكراهية الشخصية التي من شأنها أن تعمّق الانقسامات بين الأميركيين أكثر من مسألة اختلاف المعتقدات السياسية.
أجرى مجموعة من علماء الاجتماع من 11 جامعة وستة تخصصات مختلفة، (العلوم السياسية وعلم النفس وعلم الاجتماع والاقتصاد والإدارة والعلوم الاجتماعية الحاسوبية)، مراجعةً للأدبيات في كل مجالات الخبرة التي اكتسبتها، لمعرفة ما تقوله العلوم الاجتماعية عن الانقسامات السياسية الحالية في أميركا.
يشار إلى أن الدراسة التي نُشرت في 29 تشرين الأول/أكتوبر في مجلة Science، شارك في صياغتها أستاذ علم النفس الاجتماعي في جامعة نورث وسترن، إيلي فينكل، الخبير في مجال الزواج والعلاقات الشخصية.
ويقول الباحثون إن عداء الناس لخصومهم السياسيين يضاهي مشاعر التعلّق بمن يحبون، ويشير فينكل وزملاؤه إلى معطيات المسح الوطني الأميركي للانتخابات التي سجلت مواقف الناخبين منذ السبعينيات.
بحيث وُجد أن مستوى الدفء والولاء لدى الأميركيين إزاء أحزابهم ظل مستوياً، فهؤلاء لم يسجلوا زيادة في معدل ولائهم لمن يشاركونهم أيديولوجيتهم.
لكن، منذ عام 2012 على وجه الخصوص، أصبحت مشاعرهم باردة جداً لتتحوّل إلى مشاعر سلبية وقد لا توازي إخلاصهم وولاءهم للحزب.
كما وجدت دراسة أجراها المكتب الوطني للأبحاث الاقتصادية (NBER) عام 2020، جرت على عيّنة من تسع ديموقراطيات غربية أن الولايات المتحدة لديها أعلى معدل استقطاب بين الناس في صفوف الأحزاب السياسية المعارضة.
ويرى أتباع أحد الأحزاب أن أولئك الذين يصوّتون ليسوا مختلفين فحسب، بل هم أقل أخلاقية، وأقل جدارة بالثقة ولا يمكن الاعتماد عليهم. إنه مزيج من ثلاثة عناصر يجعل التقسيمات حادة للغاية.
ويقول فينكل: "إنهم ليسوا فقط مجموعة مختلفة، إنهم غرباء عني، إنهم غير محبوبين إطلاقاً ويقومون بأشياء لا أخلاقية. هذا يخلق كارثة طائفية".
والعديد من هذه الانطباعات لا تستند إلى الواقع، ففي عام 2015، سأل الباحثون 1000 مشارك على موقع YouGov عن عدد الجمهوريين الذين يكسبون أكثر من 250 ألف دولار سنوياً. وكان متوسط الإجابات (%38) في حين النسبة الحقيقية كانت (%2)، وقدّر المشاركون في الاستطلاع أن ما يقارب ثلث الديموقراطيين هم من المثليين والمتحوّلين، في حين (%6) ينتمون إلى مجتمع الميم.
عندها، كانت الانطباعات غير دقيقة لدى الأشخاص الذين يجيبون عن أسئلة تتناول الطرف الخصم، وهو ما لم يكن يحصل عند سؤالهم بشأن الحزب الذي ينتمون إليه.
ووفقاً لدراسة Science، كانت هذه الكراهية الشخصية مدفوعة بثلاثة اتجاهات. احدها هو انتشار وسائل الإعلام الحزبية ووسائل التواصل الاجتماعي، التي تمكّن الناس من العيش في فقاعات المعلومات والرأي، وتجعل أصحاب الآراء المتعارضة يبدون أكثر شذوذاً.
أما الاتجاه الثاني، فهو ميول النخب السياسية إلى تناول بعض القضايا المستعصية، والتأكيد عليها، مثل الإجهاض أو حقوق مجتمع الميم، لجعل أتباع الأحزاب الأخرى يبدون في مواقف أقل إنسانية، يقفون إلى جانب الشرّ، من أجل كسب الأصوات وجمع التبرعات. وهما يؤكد فينكل أنه من "المهم استراتيجياً أن تجد النخب السياسية طريقة لإثارة الكراهية للمعارضة".
الاتجاه الأخير هو صعود "الهوية الضخمة" التي يتم فيها مواءمة السمات والمعتقدات الشخصية الأخرى مع الهوية السياسية. يشير فينكل إلى أنه "لأول مرة في التاريخ الأميركي، يتفق المهاجرون والأميركيون الأفارقة والمجتمعات المهمشة الأخرى، والمثليين ومزدوجي الميل الجنسي ومغايري الهوية الجنسانية"، ضمن توجه سياسي واحد.
ويعتبر أن "هذا هو أحد العناصر الرئيسية لهؤلاء الآخرين. إذا كان الحزب متعدد الثقافات يجد بعض الأشخاص صعوبة في التأقلم مع المتغيرات، لا سيما الذين عاشوا لعدة أجيال في المجتمع الريفي نفسه، وهم أميركيون أوروبيون. يجدون الأمر غريباً ومختلفأً بشكل متزايد".
ويتابع أنه في الوقت نفسه، "ينتاب الناس الذين ينتمون إلى حزب متعدد الثقافات شعوراً غريباً، حسناً، أنتم لا تنتمون إلى ما هي عليه أميركا الآن. أنت أيضاً غريب وغير مفهوم، وتشكّل مفارقة تاريخية "، لافتاً إلى أن هذه "الهوية الضخمة" تعمل مثل الدّين، مجموعةٌ لديها معتقدات قواعد صارمة، فيما مجموعة أخرى تلتزم بقواعد مغايرة، ليصبحوا بمثابة المرتدّين. ويطلق الباحثون على هذه الظاهرة اسم "الطائفية السياسية".
الجدير بالذكر أن الدراسة تقدم عدة طرق لاستكشاف حل لهذه الانقسامات. يبدو أن إعادة "عقيدة الإنصاف" الصادرة عن لجنة الاتصالات الفيدرالية، والتي تطلبت من المذيعين أن يكونوا غير متحيزين والتي تم نقضها عام 1987، أمر غير مرجح، لكن العديد من الدراسات وجدت أن حثّ الناس على الإمعان بالتفكير قبل مشاركة منشور ما على وسائل التواصل الاجتماعي، قلّص من انتشار المعلومات التي تُحدث انقسامات في المجتمع الأميركي.
إن إصلاح سياسات تمويل الحملات الانتخابية، والحدّ من التلاعب في الدوائر الانتخابية، وتشجيع السياسيين على معاملة خصومهم بحرارة، قد يساهم في كبح المرشحين الذين يستخدمون مواقف متطرفة للحصول على الأصوات.
كذلك، أظهرت تجربة YouGov عام 2015 وغيرها، أنه عندما يتم إبلاغ الناس بعدم دقة نماذجهم النمطية وأفكارهم الجامدة، فإن آراءهم السلبية ستتبدّل.
وفي هذا السياق، يؤكد فينكل أن ما قيل ليس سهل التطبيق، فالمحلّل السياسي ومؤلف كتاب "زواج كل شيء أو لا شيء"، لا يسعه سوى أن يلاحظ مدى تشابه الظروف في الولايات المتحدة بظروف الأزواج المطلقين.
"وإذا كنت ستتبنّى المهمة الشيطانية المتمثلة في بناء زواج مسموم، فستزيد مشاعر الازدراء لديك إلى أقصى حد، وستتأكد من ذلك من خلال تفسير تصرفات شريكك الذي سيعتمد سلوكاً أكثر سلبية، وستحيط نفسك بأشخاص يكرهون زوجتك"، وفقاً له.
ويختم قائلاً "إذا قمت بتطبيق هذه الخصائص على سياسة الجسد، نكون قد بنينا زواجاً مسموماً" ولكن بالنظر إلى أن الانقسامات وانعدام الثقة والكراهية الشخصية العميقة جعلت الولايات المتحدة عرضة للتلاعب من قبل الغرباء، ومَنَعتَ اتباع نهج موحد لمشاكل مشتركة مثل تغيّر المناخ والوباء، يبدو وكأنه من المفيد دفع تكلفة العلاج.