تشهد باكستان أزمة اقتصادية حادة، في ضوء ارتفاع التضخم، وتراجع احتياطيات النقد الأجنبي، وتدهور قيمة العملة الباكستانية "الروبية"، إلى جانب غياب القدرة التصديرية وتنامي الدين الخارجي، الأمر الذي يهدد بتفاقم الاضطرابات السياسية الداخلية في البلاد، ويُنذر بكارثة مماثلة، على غرار أزمة سريلانكا في عام 2022. وترجع تلك المؤشرات المتدنية للاقتصاد الباكستاني إلى عوامل متعددة منها، تفشي جائحة "كورونا"، واضطراب سلاسل القيمة العالمية في جنوب شرق آسيا، ناهيك عن التوترات الجيوسياسية الأخرى في دول الجوار الجغرافي لباكستان.
في ضوء ذلك، تأتي أهمية تقرير كل من سمية بوميك ونيلانجان غوش في مؤسسة مراقبة الأبحاث (ORF) في مايو 2023 بعنوان "إعلان الديون اللانهائية: كارثة الاقتصاد الكلي في باكستان"، إذ يحلل التقرير حالة الوضع الاقتصادي في باكستان، والعوامل التي ضاعفت من حجم الضغوط الاقتصادية داخل الدولة، فضلاً عن الخيارات المطروحة لمواجهة الأزمة.
مسببات متعددة:
تجلت الأزمة الاقتصادية في باكستان في تراجع احتياطيات النقد الأجنبي لها إلى أدنى مستوى تاريخي عند 3.19 مليار دولار في نهاية فبراير 2023، وهو ما يغطي فقط مدة أسبوعين من واردات الدولة، ويتزامن ذلك مع ضرورة التزام هذا البلد بسداد ديون ضخمة تصل لنحو 73 مليار دولار أمريكي بحلول عام 2025. وعمقت الأزمة متغيرات عديدة منها، الاضطرابات في الأسواق الاقتصادية والتجارية العالمية منذ بداية جائحة "كورونا"، وما تبعها من تذبذبات في سلاسل الإمداد والتوريد إلى جانب التغيرات العالمية في الأسعار. وتُفصِّل الدراسة عوامل أخرى للأزمة على النحو الآتي:
- الاضطرابات الاقتصادية المحيطة: حيث إن الأزمات الاقتصادية في الدول المجاورة لباكستان أثَّرت في التبادل التجاري معها ومن ثم شكلت نقطة ضاغطة عليها، مثلما الحال بالنسبة للانهيار الاقتصادي لسريلانكا وما تعاني منه بنغلاديش والهند من تضخم وتقلب العملة المحلية، إلى جانب العجز التجاري في نيبال وتراجع الاحتياطي النقدي بها.
- الاضطرابات الأمنية الدولية: يُشكِّل السياق الأمني الدولي واحداً من بين عوامل التأثير في الاقتصاديات الوطنية، كما الحال مع الانقلاب العسكري الذي تشهده ميانمار وتزايد الضغط الاقتصادي بها، إلى جانب الصراع بين أوكرانيا وروسيا الذي ألقى بظلاله على أسواق الطاقة وتأثرت الدول النامية بذلك التحول ومن ضمنها باكستان وبنغلاديش.
- انخراط عسكري خارجي: واحدة من بين أبعاد التأثير في المشهد الباكستاني الداخلي هو وجود شركات الأمن الأجنبية في الداخل الباكستاني خاصةً شركات الأمن الصينية، وذلك في ضوء نشاط الحركات الانفصالية "السند والبلوش"، خاصة وأن الصين لديها الكثير من المشروعات داخل باكستان وتحتاج إلى حماية رعاياها، ولعل هذا الوجود الأمني يقوِّض قوة الجيش الباكستاني.
- الصورة الذهنية المقوّضة للاستثمار: إن التصورات الدولية عن باكستان باعتبارها بؤرة للنشاط الإرهابي تجعل المستثمرين الأجانب المحتملين ومقدمي المساعدات متحفظين بشأن الانخراط في باكستان، مع عوامل أخرى منها، تفشي الفساد مما أدى إلى تقويض نزاهة المؤسسات العامة والثقة في الحكومة، وتشويه آليات السوق وإدامة التوزيع غير المتكافئ للموارد، وخنق النشاط التجاري. وقد أثرت هذه الصورة سلباً في الاستثمارات الأجنبية في البلاد وعرقلت التعاون الدولي؛ مما أدى إلى تفاقم المشكلات الاقتصادية للبلاد.
ديون ضاغطة:
تجمع باكستان علاقات استراتيجية بالصين منذ الستينيات خاصة في أعقاب الحرب الصينية الهندية، عندما قامت بكين آنذاك بتقديم ائتمان من دون فوائد بقيمة 85 مليون دولار أمريكي لمشروعات التكنولوجيا والبنية التحتية. كما وقعت الدولتان اتفاقيات تجارية ثنائية تهدف إلى تسريع التصنيع في باكستان. وتمتلك الصين والبنوك التجارية الصينية حوالي 30% من إجمالي الدين الخارجي لباكستان الذي يزيد عن 100 مليار دولار أمريكي، كما تلقت باكستان 700 مليون دولار إضافية من بنك التنمية الصيني (CDB) في أوائل عام 2023 بما يضيف عبئاً جديداً على التزامات الديون الخارجية المستحقة على باكستان خلال العام الجاري (2023).
وبلغت ديون باكستان الخارجية بنهاية عام 2022 نحو 126.3 مليار دولار أمريكي، أي ما يعادل 33% من إجمالي الناتج المحلي، في حين أن حوالي 77% من هذا الدين أو 97.5 مليار دولار أمريكي كانت على الحكومة نفسها، فيما تدين مؤسسات القطاع العام التي تسيطر عليها الحكومة بمبلغ إضافي قدره 7.9 مليار دولار أمريكي للدائنين متعددي الأطراف. ومن ثّم تظهر المشكلة الحقيقية في الاقتصاد الباكستاني وهي آليات سداد القروض على المديين القصير والمتوسط على مدى السنوات الثلاث المقبلة، وهناك أربع فئات واسعة يمكن تصنيف ديون باكستان تحت مظلتها، كالتالي:
- الديون متعددة الأطراف: يُعزى حوالي 45 مليار دولار أمريكي من إجمالي ديون باكستان البالغة 126.3 مليار دولار أمريكي إلى مؤسسات مالية متعددة الأطراف، ومن بين هؤلاء يُشكل البنك الدولي (18 مليار دولار أمريكي)، وبنك التنمية الآسيوي (15 مليار دولار أمريكي)، وصندوق النقد الدولي (7.5 مليار دولار أمريكي)، وعلى الرغم من ذلك لا تُشكل الديون متعددة الأطراف التحدي الأكبر بسبب فترة السداد طويلة الأجل.
- ديون نادي باريس: يتكون نادي باريس من 22 دولة دائنة رئيسية يتمثل دورها في إيجاد حلول منسقة ومستدامة لصعوبات السداد التي تواجهها البلدان المدينة، ومن المقرر سداد ديون باكستان البالغة 8.5 مليار دولار لنادي باريس على مدى 40 عاماً بسعر فائدة ميسر أقل من 1%.
- الديون الخاصة والقروض التجارية: يتمثل التحدي الذي تواجهه باكستان في زيادة الديون الخاصة والقروض التجارية التي تصل إلى 7.8 مليار دولار أمريكي، وتتألف إلى حدٍ كبير من السندات الخاصة، مثل سندات اليوروبوندز وسندات الصكوك العالمية، ويكمن التخوف في أن المستويات الحالية للقروض التجارية الأجنبية من المتوقع أن ترتفع إلى ما يقرب من 9 مليارات دولار أمريكي بحلول نهاية السنة المالية الحالية(2023).
- الدين الصيني الثنائي: يبلغ الدين الصيني على باكستان قرابة 27 مليار دولار أمريكي، ويتألف من حوالي 10 مليارات دولار أمريكي من الديون الثنائية، والقروض التجارية بحوالي 7 مليارات دولار أمريكي، وقرض بقيمة 6.2 مليار دولار أمريكي لمشروعات إمدادات الطاقة الباكستانية، و4 مليارات دولار أمريكي من الودائع الأجنبية لدى البنك المركزي الباكستاني.
تفرض هذه التعددية في الاقتراض ضغوطاً كبيرة على باكستان على المدى المتوسط على وجه الخصوص، حيث إن مبلغ السداد المطلوب البالغ 77.5 مليار دولار أمريكي بين إبريل 2023 ويونيو 2026 يعادل ما لا يقل عن 22% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، وخلال ذات الفترة، سيبلغ عبء خدمة الدين الخارجي 4.5 مليار دولار أمريكي.
وعلى الرغم من اعتماد باكستان على ثلاثة تدفقات مالية رئيسية وهي (الاستثمارات الأجنبية المباشرة – الصادرات – تدفقات تحويلات العاملين في الخارج)، فإنها غير قادرة على مواءمة فاتورة الاستيراد وتصاعد ضغوط سداد الديون. ويؤشر على هذا الضعف التوقعات الأولية لصندوق النقد الدولي للصادرات الباكستانية التي انخفضت من 36 مليار دولار أمريكي في عام 2022 إلى 28-29 مليار دولار أمريكي في العام الجاري (2023)، ويرجع ذلك جزئياً إلى ارتفاع تكلفة الأعمال والاضطراب الاقتصادي الناتج عن حالة عدم اليقين السياسي في البلاد.
فرص وقيود:
تمتلك باكستان عِدة مشروعات استراتيجية للتعاون الثنائي مع غيرها من الدول، خاصة الصين، فمنذ عام 2015، وقعّت إسلام أباد وبكين عقداً لتدشين الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني المكمل لمبادرة الحزام والطريق، وهو المشروع الاستراتيجي الذي يجعل باكستان قوة رائدة في جنوب آسيا. وكانت الصين قد أشارت إلى ذلك الممر باعتباره المشروع الرائد لمبادرة الحزام والطريق الأكثر طموحاً، خاصةً أنه يستهدف تطوير وتحديث البنية التحتية وإنشاء مناطق صناعية وفتح طرق التجارة المحتملة إلى الصين عبر ميناء جوادر الباكستاني، باستثمارات تتراوح بين 46 و62 مليار دولار أمريكي من التعهدات (تشكل خُمس الناتج المحلي الإجمالي لباكستان).
مع ذلك، ثمة عوائق أمام تحقيق هذا الهدف، تجلت في الأبعاد الجيوسياسية لمبادرة الحزام والطريق؛ إذ إنها لاقت معارضة من الهند في إطار مخاوفها من انتهاك المشروع للأراضي وللسيادة الهندية، فضلاً عن أنها تنظر للمبادرة كجزء من استراتيجية الصين الأكبر لتطويق الهند وإثبات هيمنتها في المنطقة. علاوة على ذلك، يُمكن للمشروع أن يمنح الصين وصولاً سهلاً إلى الموانئ الباكستانية ويحتمل أن يمكّنها من إنشاء قاعدة بحرية في المنطقة، مما قد يُشكل تهديداً أمنياً كبيراً للهند، مما أفشل خطط التنمية الاستراتيجية المزمع إقامتها في باكستان.
ضرورات المعالجة:
أدى الرفض الهندي لمبادرة الحزام والطريق وتنفيذها، إلى جعل باكستان تفقد المكاسب الناجمة عن تنفيذ تلك المبادرة وفي مقدمتها البنية التحتية، وتسبب ذلك في الإخلال بالاتفاقيات التمويلية المقدمة من الصين؛ مما نتج عنه تراجع احتياطيات النقد الأجنبي لباكستان نتيجة لتجميد الصين لهذا التمويل. وقد أسهم ذلك في الصعوبات الاقتصادية الحالية لباكستان، ويرجع ذلك أساساً إلى اعتمادها على الاقتراض الخارجي دون معالجة القضايا الاقتصادية الأساسية مثل، ارتفاع العجز التجاري وانخفاض مستويات الاستثمار الأجنبي المباشر؛ لذا تقترح الدراسة على دول مبادرة الحزام والطريق مثل باكستان إيجاد التوازن بين إجمالي ديونها الخارجية والديون المستحقة للصين.
من جانب آخر، ترى الدراسة أن باكستان تحتاج إلى التدقيق في تدفق الأموال الصينية عن كثب قبل الالتزام بمزيد من التزامات السداد التي قد يكون من الصعب الوفاء بها، كما أن ثمة أهمية لإعطاء الأولوية لتنويع الائتمان وإعادة هيكلة الديون الخارجية لإدارة ديونها بشكلٍ فعَّال.
توصي الدراسة أيضاً بالتفاعّل الإيجابي لباكستان مع السعودية، خاصةً أن الأخيرة أعلنت عن خطط استثمارية بقيمة 11 مليار دولار أمريكي؛ الأمر الذي من شأنه أن يُنقذ باكستان من السقوط في مرمى صندوق النقد الدولي، إلى جانب أن الرياض قد رفعت وديعة قروضها لدى بنك الدولة الباكستاني إلى 5 مليارات دولار أمريكي بعدما كانت 3 مليارات دولار أمريكي، هذا الأمر قد يكون الورقة الرابحة لإسلام أباد في التفاوض مع صندوق النقد الدولي فيما يتعلق بخطة الإنقاذ الوطني للاقتصاد الباكستاني.
في الأخير؛ تُشير الأدلة إلى أن الأزمة الاقتصادية الحالية في باكستان نتجت عن حوكمة اقتصادية معيبة ومضاعفة من الاضطرابات، وقد أدى التضخم العالمي الناجم عن اختناقات سلسلة التوريد الناتجة عن الأزمة الأوكرانية وانخفاض احتياطيات النقد الأجنبي والديون المتزايدة وانخفاض قيمة العملة إلى وضع باكستان على شفا أزمة اقتصادية كلية حادة.
ومن ثّم، فإن هناك خياران لمعالجة عبء الديون الباكستانية الخارجية. الأول، من خلال القروض الجديدة وتجديد الديون. لكن هذا الخيار يواجه عقبة تضاؤل قدرة باكستان على الوصول إلى سوق التمويل السيادي بسبب تخفيض التصنيف الائتماني، وهو ما يجعلها ستعتمد على شركائها في غرب آسيا والصين للحصول على قروض جديدة إذا سعت إلى تجنب التخلف عن السداد. بينما يكمن الخيار الثاني في إعادة هيكلة استباقية للديون بما يساعد في تقليل ضغط السداد وتوفير الوعاء الدولاري لتمويل عجز الحساب الجاري، إلى جانب ذلك يتطلب الأمر فصل الأزمة السياسية عن السياسات الاقتصادية لتحقيق المرور الآمن من تلك الأزمة.