• اخر تحديث : 2024-04-30 13:50
news-details
أبحاث

فرنسا في مواجهة ميراثها: أين تتجه كرة الغضب الإفريقي؟


لم يكن الرئيس الفرنسي الأسبق، نيكولا ساركوزي، يدرك، وهو يقول قبل ست عشر سنة بنبرة استعلاء وفية للمنطق الاستعماري: "إن الإنسان الإفريقي لم يدخل التاريخ بعد"، أن ذاك الرجل سيسير بخطوات متسارعة في اتجاه مفاصلة مع فرنسا توشك أن تُخرج الإنسان الفرنسي من حاضر إفريقيا وجغرافيتها معًا بعد قرون بسطت فيها باريس هيمنتها على غرب القارة ووسطها، ووضعت أيديها على السلطة والثروة، وأخذت زخرفها وازَّينت وظنَّت أنها قادرة على البقاء برغم نذر الغضب والتذمر البادية منذ فترة.

لا يعني هذا بالطبع أن الحضور الفرنسي في إفريقيا بالهشاشة والتضعضع الذي يصوره البعض من المشتبكين مع فرنسا على عدة جبهات هذه الأيام؛ فلباريس أوراقُ لَعِبِهَا التي أتقنت قوانين تصريفها على مدى عقود، ولها جسورها القوية في مفاصل التأثير الخشنة والناعمة، ولكنها تواجه أزمة غير مسبوقة في علاقتها مع القارة الإفريقية أبرز ما يميزها -من زاوية التحليل الإستراتيجية- أنها غير قادرة على التصرف بما يغير مجرى رياحها المبحرة بقوة ماردة وبما لا تشتهيه مصالحها الحيوية، وحضورها في الأفق المنظور قبل البعيد.

وعلى مستوى الحدث الآني، فقد نجح الانقلابيون في النيجر في تحويل النقاش داخل البلاد، وربما إقليميًّا من موضوع الانقلاب إلى موضوع "السيادة الوطنية" التي تواجه "اعتداء" من مستعمري الأمس، وذلك عبر الخطوات التصعيدية ضد فرنسا من خلال إلغاء الاتفاقيات الأمنية معها، وأمر سفيرها بالمغادرة، وإلغاء صفته الدبلوماسية، وكذا محاصرة السفارة والقاعدة العسكرية بتظاهرات شعبية يومية، وهو مسار يتقاطع مع المسار الذي جرى في مالي وبوركينا فاسو.

فيما أظهر الانقلاب الذي عرفته الغابون بعد خمسة أسابيع من انقلاب النيجر ازدواجية في التعاطي الأوروبي، والفرنسي بشكل خاص، وهي ازدواجية طالما تحدث عنها مناوئو فرنسا في مناطق نفوذها، مراهنين أنما يحركها هو مصالحها ولا شيء غير مصالحها البحتة.

الزهو الإستراتيجي

 توغلت فرنسا في مستعمراتها بشكل مدروس، كانت طلائعه دراسات استشرافية خبرت المنطقة وفحصت بنياتها الثقافية والمجتمعية، فعرفت من أين تدخل البيوت وكيف تؤكل الكتف وتورد الإبل، ووجدت -في الغالب- فضاءات خالية فتحكمت لعقود قبل أن تدهمها ظروف مركبة، فتوقظ في شعوب القارة روح الثورة والمقاومة والجهاد التي أرغمتها على إعادة ترتيب أوراقها وعلاقاتها بما يضمن استمرار تحقيق أهداف "الاستعمار" في ظل "الدولة الوطنية-ما بعد الاستقلال".

لقد كانت الثورة الجزائرية ومجمل المقاومات المسلحة التي عرفتها منطقة الساحل والتي لم يُكتب عن تاريخها ما يكفي "رسالة إنذار مبكر" برفض شعوب المنطقة للاحتلال واستعدادها لتقديم ما يلزم لاستعادة حريتها غير منقوصة، وهي رسالة وعاها قادة فرنسا آنذاك بقدرة أكبر على التكيف، فكانت عملية خروج كبرى حولت فيها فرنسا الهزيمة انتصارًا ونظمت احتفالات وخطابات بدت فيها في وضع من يمنح الاستقلال للشعوب، فتمكنت بذلك من تنصيب حكومات "مؤتمنة" -في عمومها- على المصالح وعلى رعايتها.

وحين سقط جدار برلين قادت باريس عملية تحول ديمقراطي أرادتها -ووُفِّقت في ذلك إلى حد كبير- المرحلة الثالثة من مسار رسم مستقبل شعوب القارة من خلال قمة "لا بول" التاريخية، والتي افتتحت عهد ما بات يُعرف لاحقًا بـ"مسار التحول الديمقراطي".

نذر موجة الغضب الأولى

إذا كانت برقيات الأخبار المتداولة، نهاية شهر أغسطس/آب 2023، بل حتى في الأسابيع التي سبقته تتحدث عن تحديد مواعيد لقوات فرنسا ودبلوماسييها لمغادرة هذا البلد أو ذاك من بلدان الساحل الإفريقي، كانت البداية من مالي، ومن بعدها بوركينا فاسو فتجرعته باريس بمرارة، لكنها الآن في النيجر لا تكاد تستسيغه، فتدخل في عملية كسر عظم على المكشوف بكل ما يحمل من مخاطرة إستراتيجية. إذا كانت هذه البرقيات عصية على الفهم عند النظر في مدى عمق ومتانة وامتداد علاقات فرنسا بالغرب والساحل، فإن شحنة الغرابة فيها تتقلص حين ننظر إلى مقدماتها ومسار تشكل الغيوم التي تمطر اليوم توترًا يرى من الأرض الإفريقية تحررًا وربيعا وثورة، ومن الزاوية الفرنسية كراهية لفرنسا ومعاداة لها وارتهانًا لأجندات وافدة، الإشارة غالبًا للروس على أساس أن الحضور الفرنسي لم يعد حضورًا أجنبيًّا بمنطق حقوق التقادم ربما.

كانت أولى الإشارات اقتصادية بحتة، وجاءت ضمن حراك شبابي انتظم عدة دول في الغرب الإفريقي (كانت بنين والسنغال أكثر الدول احتضانًا لأنشطته)، طالب بفك ارتباط دول الفرنك الغرب الإفريقي (CFA) بفرنسا وإصدار عملة مستقلة بها كاشفًا تفاصيل عن حجم الاستغلال الذي تقوم به فرنسا لهذه البلدان؛ إذ تستمر رابطة عملتها بالاقتصاد الفرنسي حيث يطبعها البنك المركزي الفرنسي، وهي مرتبطة بالعملة الأوروبية الموحدة "اليورو"؛ مما يمثل من وجهة نظر النشطاء الأفارقة عنوان استمرار ماثل للاستعمار في شقه الاقتصادي.

ومعروف أن الفرنك الإفريقي المرتهن لفرنسا هو العملة الرسمية في أغلب بلدان غرب ووسط القارة حيث توجد منه "طبعتان":

- طبعة في بلدان الغرب الإفريقي (السنغال، ومالي، وبوركينا فاسو، وساحل العاج، وبنين، والنيجر، وتوغو).

- وطبعة في بلدان الوسط الإفريقي، وهي العملة المعتمدة في كل من (الغابون، والكاميرون، وإفريقيا الوسطى، وتشاد، والكونغو، وغينيا الاستوائية).

لقد كان مطلب رفع اليد الفرنسية عن الفرنك الإفريقي أول إنذار إفريقي لباريس، ومثل حرق هذه العملة في واحدة من أهم عواصم الغرب الإفريقي، وهي دكار عاصمة السنغال، رسالة قوية مؤذنة أن السيل بلغ الزبى.

ثم تتالت الرسائل وتعاظمت وأخذت زخمًا متزايدًا مع انتشار وسائط التواصل الاجتماعي التي حظيت المقاطع المعبرة عن رفض الهيمنة الفرنسية على غرب ووسط القارة فيها بمستويات تفاعل قياسية في كل الدول، مستفيدة من وجود مشترك لغوي بين هذه البلدان، وهو للمفارقة اللغة الفرنسية التي ورثتها هذه البلدان ضمن ما ورثت عن الاستعمار، لكنها أصبحت في الواقع لغة وطنية ومحلية؛ حتى في عدد من البلدان موفرة عامل وحدة وتجانس في مجتمعات حافلة بالتعددية العرقية واللغوية، ثم لتوفر الآن أداة تعبئة موحدة لشعوب غرب ووسط القارة في تمردها على فرنسا! وتلك إحدى مفارقات التاريخ الجديرة بالتسجيل والاعتبار!

في مواجهة الميراث

انتبه الساسة الفرنسيون مبكرًا لحالة التمرد الإفريقي، فقد كان موضوع إفريقيا والعلاقة بها وسبل مواجهة موجة "العداء لفرنسا" (هكذا تحب دوائر عدة في فرنسا تسميتها) موضوعًا رئيسًا في حملات الانتخابات الفرنسية، وقدَّم رؤساء فرنسا الذين تعاقبوا على الحكم خلال العشرين سنة الماضية مقاربات وخطابات ورؤى متنوعة، لكنها فشلت كلها في تغيير مسار الأحداث.

- بالنسبة لساركوزي، اعتبر الأمر عائدًا لتخلف الإنسان الإفريقي، فكان خطابه مغذيًا للموجة، مستفزًّا للوجدان، وتم إلقاء هذا الخطاب في العاصمة السنغالية دكار، يوم 26 يوليو/تموز 2007.

- وبالنسبة لفرانسوا هولاند القادم من اليسار، فمع أن الخطاب كان تقدميًّا، لكن الممارسة لم تختلف كثيرًا مما ولَّد حالة إحباط عاتية.

- أما الرئيس الحالي، إيمانويل ماكرون، والذي حرص أن تكون إفريقيا أول وجهة له خارج أوروبا في مأموريته الثانية، فقد ظهر أشبه ما يكون بسباح غير ماهر أدركه الغرق في موج لجي؛ يعلن عن خطوات في اتجاه ويقوم بنقضها ونقيضها في الاتجاه المخالف، وقد كان خطاب الفتاة البوركينابية في وجهه بجامعة واغادوغو صرخة تاريخية أسمعته بلغة فرنسية صقيلة جوهر المشكل ولبَّه وفتحت عينيه على رؤية الشباب الإفريقي الصاعد للعلاقة مع فرنسا وكيف يمكن تصليحها لمن أراد، ولكن معطيات "ميراث الاستعمار الثقيل قعدت به وبفرنسا وحكمت عليهم -فيما يظهر من مؤشرات، حتى الآن- بالتراجع الإستراتيجي الذي لا محيد عنه".

ويمكن حصر أسباب أربعة وراء حالة التراجع الإستراتيجية هاته:

الأول: شبكات (فرانس-أفريك)

تأسست شبكات (فرانس-أفريك) شبه الرسمية في البداية لتكون عونًا وعينًا لفرنسا في القارة، لكنها تحولت في الواقع إلى عبء بالمعنى الإستراتيجي؛ حيث باتت ترعى مصالح مجموعات النفوذ والشركات الاقتصادية أكثر من رعايتها لمصالح فرنسا، وتكرست مع الوقت عنوان تجديد وتجذير الممارسات الاستعمارية ولو كان ذلك على حساب الشعوب الإفريقية وتطلعاتها المشروعة لما تتطلع له كل الشعوب من حرية وتحرر وتنمية ورفاه.

الثاني: صعود اليمين المتطرف

يدرك من يتابع مشهد السياسة الفرنسية الداخلية الفرنسية أنه يواصل منذ قرابة ربع قرن الجنوح بشكل شبه مطرد نحو اليمين واليمين المتطرف حتى؛ ما جعل فكر اليمين ونظرته تتسرب حتى إلى اليسار فضلًا عن يمين الوسط، وهكذا باتت الممارسات ضد الفرنسيين من أصول إفريقية وقودًا يوميًّا لتمزق صورة فرنسا الحرية والأنوار التي حاول المستعمرون رسمها في القرنين الماضيين، كما أصبح لزامًا على كل سياسي فرنسي راغب أن يكون ذا شأن أن يفكر ألف مرة قبل اتخاذ مواقف جادة وجريئة تصب في خانة تصحيح صورة فرنسا أحرى بالاعتذار عن ماضيها الاستعماري.

لقد عرفت السنوات الماضية نقاشات عديدة وعميقة ليس على المستوى السياسي فقط، وإنما على المستويات الحقوقية والثقافية والأكاديمية المحضة حول سبل تحقيق فرنسا في علاقتها بشعوب القارة ما يُطالَب به عادة عديد الأنظمة المتورطة في جرائم التطهير والإبادة. ومثَّلت ملفات العلاقة مع الجزائر وروندا والكونغو وبوركينا فاسو محطات "مؤلمة" قصمت ظهر مقولات: "الحق في معرفة الحقيقة وحماية الذاكرة، فضلًا عن تعويض الضحايا، ومحاكمة الضالعين (ممن لا يزال منهم على قيد الحياة)، فظهر صانع القرار الفرنسي منحازًا بشكل مكشوف أمام نخب إفريقية تمنَّت أن ترى في فرنسا الواقع ما درست في كتب التاريخ والأدب عن فرنسا الثورة، ولكنها صدمت بمشهد ملامحه:

- مقاربات إدماج تضيق بالتنوع وبحرية التعبير حين يتعلق الأمر بانتقاد تاريخ أو حاضر فرنسا (وصل الأمر حدَّ إصدار مذكرات بحرمان مدونين أفارقة من دخول الأراضي الفرنسية على خلفية تعبيرهم عن مواقف صُنِّفت على أنها معادية لفرنسا).

- مواقف فرنسية رسمية مؤازرة لتعبيرات متطرفة مسيئة للإسلام وللرسول الكريم صلَّى الله عليه وسلَّم (كما تكرر مع رسوم الإساءة التي نشرتها صحيفة شارلي إبدو) وتم تبنيها في مواقف رسمية مشهودة.

لقد أخطأت فرنسا خطأ جسيمًا حين لم تدرك عمق التدين وبالذات عمق محبة الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم في القارة الإفريقية فلحق بصورتها ضرر إضافي عميق في الوجدان الإفريقي.

ثالثًا: المنافسة في الملعب

ظلت فرنسا فترة طويلة تلعب شبه وحيدة في منطقة الوسط والغرب الإفريقي مفوضة سامية للقوى الغربية، بيد أن العقود الثلاثة الأخيرة شهدت دخول لاعبين أقوياء لكل منهم رؤيته ومع الوقت كسبوا جمهورًا وأرضية.

الصين وتركيا منافستان بقوة في السوق، وعلى دعم مشاريع التنمية والاستثمار في البنى التحتية؛ حيث تفوقت الصين على فرنسا في مجال التبادل التجاري مع العديد من دول المنطقة، ودخلت بقوة في مجال استغلال المناجم، كما حضرت تركيا في العديد من هذه الساحات.

ويعكس موقف الصين من الانقلاب الأخير في النيجر حذرًا يستحضر مستوى المصالح التي يلزمها المحافظة عليها في النيجر، وفي المنطقة بشكل عام، فقد وصفت الخارجية الصينية الرئيس محمد بازوم بأنه "صديق للصين"، معبِّرة عن أملها في ضمان سلامته الشخصية دون أن تصل درجة المطالبة بإعادته للسلطة.

ودعت الخارجية الصينية الأطراف ذات الصلة -دون أن تذكرها بالاسم- إلى التعامل مع الخلافات بشكل سلمي عن طريق الحوار انطلاقًا من المصالح الأساسية للدولة والشعب.

وعلى المستوى العسكري والسياسي، حضرت الولايات المتحدة الأميركية من خلال توفيرها لتدريب عسكري دوري ونوعي للقادة العسكريين في الدول الإفريقية، وكذا العمل على زيادة مستوى التعاون السياسي والاقتصادي.

كما وسَّعت خلال العقد الأخير من وجودها العسكري الميداني؛ حيث نشرت نحو ألف جندي على الأراضي النيجرية، وتمت العملية بسرية في البداية قبل أن تكشف عنهم بعض مقتل بعضهم على يد مسلحين تابعين لتنظيم الدولة.

وعملت الولايات المتحدة في تعاطيها مع دول المنطقة، على أخذ مسافة من الأجندات الأوروبية عمومًا، والفرنسية بشكل خاص، وظهر هذا التباين في الموقف من القوة المشتركة لدول الساحل والتي كان يراد لها أن تنهض بالعبء الأمني في منطقة الساحل، وأن تحصل على اعتماد لدى مجلس الأمن تحت البند السابع، وكان الرفض الأميركي بالمرصاد لهذا المساعي، ووصل درجة التلويح في إحدى المرات باستخدام الفيتو.

وقد دفع هذا الموقف رئيس النيجر المطاح به، محمد بازوم، إلى القول إنه غيَّر مقاربته بخصوص الموقف من اعتماد مجلس الأمن الدولي للقوة المشتركة لمجموعة الدول الخمس بالساحل تحت البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وذلك بعد أن لاحظ أن "الركض وراء ذلك القرار مضيعة للوقت".

كما دخلت روسيا منافسًا شرسًا على السلطة والنفوذ، وقد باتت الظهير الأساسي لأنظمة "التمرد" على "السيد" الفرنسي، وكانت السند للنظامين الحاكمين في مالي وبوركينا فاسو في إنهاء الوجود الفرنسي العسكري في البلدين.

وقبل مالي وبوركينا فاسو كانت روسيا قد سجلت حضورها بقوة في عدة مناطق أخرى من إفريقيا، وتحديدًا في ليبيا، ووسط إفريقيا، والسودان، وغيرهم.

رابعًا: تزايد الوعي داخل القارة

وفي الوقت الذي كانت فرنسا تحجبها شبكات مصالحها عن تصحيح الأخطاء، ويجنح بها اليمين نحو التطرف كانت القارة تشهد حالة وعي ثلاثية الأبعاد.

- بُعدها الأول سياسي ضد أنظمة تدعي الديمقراطية وحاصلة في الغالب على دعم فرنسا والقوى الغربية، في حين أن عددًا معتبرًا منها ليس له من الديمقراطية إلا الاسم، أو هكذا تراه الأجيال الشبابية الصاعدة في القارة.

لقد كان دعم فرنسا لعائلات حاكمة في إفريقيا ومنظومات حكم فاسدة وغير ديمقراطية وتغاضيها عن تعديلات دستورية فتحت المجال لمأموريات ثالثة من الأخطاء الجسيمة التي سرَّعت وتيرة حالة الغضب المتنامية ضد فرنسا (مع أن الأمثلة عديدة، لكن يمكن أن نشير هنا إلى الغابون والكاميرون في حالة عائلات الحكم، وإلى ساحل العاج وغينيا كوناكري في حالة التعديلات الدستورية).

- والبعد الثاني بعد تنموي؛ فالقارة الغنية بمواردها الطبيعية ظلت تتذيل مؤشرات التنمية البشرية بسبب الفساد المستشري، وهو فساد تستفيد منه وتمارسه نخب محلية بالتأكيد، لكن حصة الشركات الفرنسية ودورها في قيامه وحمايته مشهود، ولعل الشركات العاملة في مجال الطاقة هي العنوان الرئيس لما يراه الأفارقة نهبًا منظمًا لثرواتهم، يمثل استمرارًا لما تم في العهد الاستعماري الأول.

- وثالث الأبعاد وأكثرها تأثيرًا -في تقديري- في ما سمته صحيفة فرنسية مؤخرًا: الثورة الإفريقية الكبرى، هو البعد الأمني، فقد مثَّل ظهور وانتشار جماعات العنف في منطقة الساحل والغرب الإفريقي تحديًا إضافيًّا لشعوب أنهكها الفقر والحرمان، وكان الأمان آخر ما تملك فتتحرك بحرية في فضاءات الساحل بحثًا عن حياة حرة أو "تهريبًا" لأي مادة يدر تهريبها دخلًا، أو سعيًا حتى لركوب قوارب الموت، ولكنها قبل أن تدهمها الجماعات المسلحة وتمنعها من آخر متنفساتها، كان التعويل كبيرًا على فرنسا والقوى الغربية على التدخل لنجدة الساحل، ولكن ما حصل -من زاوية النظر الإفريقية- فشلٌ في توفير الحماية للشعوب بل وكرس نفوذ هذه الجماعات (وصل الأمر حدَّ حديث الوزير الأول المالي عن دعم فرنسا لجماعات انفصالية مسلحة، كما تحدث وزير خارجية مالي عن امتلاك بلاده وثائق تدين فرنسا بدعم جماعات إرهابية، وهي تهم ترفضها فرنسا وتقدم لردها بيانات ضحاياها وتضحياتها في عمليتي برخان وسيرفال).

كرة الغضب: إلى أين؟

الآن، وفرنسا تقاتل فيما يشبه وضع المنتحر للمحافظة على وجودها الدبلوماسي والعسكري في النيجر، يُطرح في دوائر التقدير الإستراتيجي سؤال ملح: هل ما زال التدارك ممكنًا في موضوع علاقة فرنسا بمستعمراتها السابقة في الغرب والوسط الإفريقي، أم أن السيف سبق العذل، و"الصَّيْفَ ضيَّعْتِ اللبن..؟"

الظاهر وفق قراءة مسار تشكل ما سميناه كرة الغضب الإفريقي أن :

- الكرة ماضية في التدحرج لنهايتها، فإفريقيا اليوم قبل الغد لم تعد تقبل استمرار العلاقة على الأرضية الكونيالية ونسخها المعدلة.

- أن فرنسا تبدو مكبلة بعوائق ذاتية عن أي مراجعة إستراتيجية(12) تسمح لها بإعادة ترسيم علاقتها بمناطق نفوذها التقليدية.

- وهذا ما يعني أن المنطقة مفتوحة على عدة خيارات تتراوح بين الفوضى الشاملة لنصبح أمام حالة "منطقة فاشلة" بدل حالة الدول الفاشلة، أو تحكم قوى جديدة، مع أن أغلب القوى المرشحة لذلك بعيدة من امتلاك الأدوات الضرورية لها، أو من يدري فلربما خرج من حال العسر الإستراتيجي هذا وضع تستعيد فيه الشعوب حقها في تقرير مصيرها فتذهب لاستقلال جدي يقيم علاقات شراكة متعددة ومتوازنة مع الجميع، ولكنه ينطلق قبل ذلك من إرادة شعوب القارة وميراثها الثري في التعلق بالحرية والنضال من أجلها ليدخل الإنسان الإفريقي التاريخ من أوسع الأبواب وأرحبها.