سيحتفل حلف الناتو بالذكرى السنوية الـ75 لتأسيسه في قمته بواشنطن العام المقبل، من موقف الوحدة والقوة، وهو ما يشكل تحولاً ملحوظاً مقارنةً بما حدث قبل بضعة أعوام فقط؛ عندما كانت العلاقات عبر الأطلسي تُخيِّم عليها الشكوك المتبادلة وعدم اليقين بشأن مستقبل الحلف، الذي أضحى يضم الآن عدداً أكبر من الدول الأعضاء، متمتعاً بتماسك جغرافي أقوى من أي وقت مضى.
أسباب التماسك
يمكن القول إن هناك 5 أسباب رئيسية قادت حلف الناتو إلى نوع من التماسك خلال الفترة الراهنة، مقارنةً بالسنوات القليلة الماضية، وهو ما يمكن بيانه على النحو التالي:
1. اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية: تُعَد الحرب الروسية الأوكرانية سبباً لتقوية عزيمة الحلف على ردع طموحات موسكو للتوسع، وهو ما حفز فنلندا أيضاً على التخلي عن حيادها الذي طال أمده، والانضمام إلى الحلف، ومن المتوقع أن تنضم السويد قريباً أيضاً. ولا شك أن إضافة هاتين الدولتين الشماليتين، من شأنه أن يعزز بشكل كبير موقف الناتو في شمال أوروبا.
وكذلك دفعت الحرب الروسية الأوكرانية أعضاء الناتو إلى زيادة نفقاتهم الدفاعية بشكل ملحوظ لعام 2023؛ للوفاء بالمبادئ التوجيهية للحلف، بإنفاق ما لا يقل عن 2% من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع، وهو ما كان موضع خلاف طويل بين واشنطن وحلفائها الأوروبيين. وعلاوةً على ما سبق، عززت الحرب الوجود العسكري الأمريكي ومشاركته في أوروبا.
2. صعود الصين باعتباره تحدياً أمنياً للناتو: دفع صعود الصين إلى تحول الناتو ليمثل المنتدى الرئيسي لحوار أمني أوثق عبر الأطلسي بشأن الصين؛ وذلك بعد أن أعلنت الولايات المتحدة إعادة التوازن إلى آسيا في عام 2011؛ فقد استغرق الأمر من الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو ما يقرب من عقد آخر من الزمن لتصنيف صعود الصين باعتباره تحدياً أمنياً، وليحدد المفهومُ الاستراتيجيُّ الجديد للحلف – الذي تم تبنِّيه في قمة مدريد عام 2022 – الصين باعتبارها تحدياً لمصالح الأعضاء وقيمهم وأمنهم. ومنذ ذلك الحين، عمل الناتو على تعزيز الحوار والتعاون مع شركائه في منطقة الهندوباسيفيك، بما في ذلك أستراليا واليابان ونيوزيلندا وكوريا الجنوبية.
3. الحاجة إلى تشارك دفاعات الأمن السيبراني: أدت التكنولوجيات الجديدة والاعتماد المتبادل، إلى توسيع أجندة حلف الناتو بحيث تشمل الدفاع السيبراني والتكنولوجيات المضرة بالنظام القائم. وقد دفع الاعتماد الاقتصادي على الصين وروسيا، الناتو إلى إطلاق مبادرات جديدة، مثل فرقة العمل المشتركة بين الحلف والاتحاد الأوروبي بشأن مرونة البنية التحتية الحيوية.
4. انتخاب بايدن بعد توترات فترة ترامب: أتاح انتخاب الرئيس الأمريكي جو بايدن تعاوناً أكثر سلاسة بين الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الأوروبيين، مقارنةً بما كان عليه الحال خلال إدارة دونالد ترامب، ودفع إلى تعزيز عامل الثقة بين ضفتي الأطلسي. ووفقاً لاستطلاع أجراه مركز “بيو” للأبحاث في يونيو 2021، أدى الانتقال من ترامب إلى بايدن إلى تحسين صورة واشنطن الدولية بدرجة كبير، خاصةً بين الحلفاء والشركاء الرئيسيين.
5. القدرة على التكيف مع المتغيرات: بالنظر إلى نطاق وعمق التعاون، فضلاً عن طول عمره، فإن حلف الناتو يعتبر فريداً بين التحالفات العسكرية التي تم إنشاؤها لمعالجة تهديد مباشر أو موازنة صعود قوة إقليمية مهيمنة، وهي التحالفات التي غالباً ما يتم حلها عندما تتغير البيئة الأمنية الخارجية. ومع ذلك فإن الناتو لم يَنْجُ من انهيار الاتحاد السوفييتي فحسب، بل أثبت أيضاً براعته في التكيف مع حقبة ما بعد الحرب الباردة، من خلال مواجهة التحديات الأمنية غير التقليدية (مثل الإرهاب والقرصنة)، والقيام بعمليات عسكرية غير الحرب، والانخراط في عمليات عسكرية خارج نطاقه.
وبجانب ذلك، فإن حلف الناتو لا يتكوَّن فقط من دول تنتمي إلى منطقة جغرافية متميزة على جانبي المحيط الأطلسي، لكنه مؤسس أيضاً على تماسك سياسي قوي بين الدول الأعضاء فيه، وجميعها تقريباً تشترك في القيم الأساسية للديمقراطية، وتدعم النظام الدولي الليبرالي.
سيناريوهات مستقبلية
مع القوة والتماسك الذي نجح الحلف في الحفاظ عليه حتى في خضم المتغيرات، فإن التساؤل يثار حول نجاح الناتو في أن يظل أحد ركائز النظام الأمني عندما يبلغ عامه المائة، وهو ما سيعتمد في الأساس على كيفية تعامل الحلف مع النظام الجيوسياسي المتغير، وفي المقام الأول التهديد المتمثل في صعود الصين. وفي هذا الإطار، يمكن الإشارة إلى 3 سيناريوهات رئيسية بشأن مستقبل الحلف، وهي السيناريوهات التي قد تبدو مختلفة تماماً عن حاضره وماضيه؛ وذلك كما يأتي:
1. انحسار نشاط الحلف في أوروبا فقط: وذلك إذا ما قررت الولايات المتحدة الانسحاب من التحالف؛ إما لتحويلها جميع مواردها إلى منطقة الهندوباسيفيك من أجل مواجهة الصين، أو بسبب التغيير السياسي الداخلي في الولايات المتحدة، وخصوصاً أن الفكر الانعزالي الذي كان قد أحياه ترامب لا يزال حياً في داخل الحزب الجمهوري، الذي لا يُستبعَد عودة ترامب من خلاله إلى رئاسة الولايات المتحدة. ولن يؤدي انسحاب الولايات المتحدة حينها إلى إجبار أوروبا على الاهتمام بالدفاع عن نفسها فحسب، بل قد تكون نهاية حلف الناتو.
2. تحول الحلف للعب دور عالمي: حيث تقوم الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون بتحويل طاقاتهم ومواردهم من أوروبا إلى آسيا؛ ما يستلزم قيام الدول الأعضاء الأوروبية بإعادة موازنة كمية كبيرة من أصولها البحرية إلى منطقة المحيطين الهندي والهادئ؛ من أجل دعم جهود الولايات المتحدة لموازنة قوة الصين. ولكن من شأن نشر قوات كبيرة على المدى الطويل في آسيا، أن يستنفد موارد الأعضاء الأوروبيين إلى أقصى حد، ويترك أوروبا عرضة للمغامرات الروسية، وربما يتسبب في خلافات بين الحلفاء الأوروبيين بشأن أولوية ردع روسيا أو موازنة قوة الصين.
3. بقاء الحلف كياناً غير موحد: وهو سيناريو تظل فيه الولايات المتحدة ملتزمة بالدفاع عن أوروبا، ولكن مع عدم اتباع استراتيجية واحدة متماسكة بين الحلفاء؛ بسبب تصورات التهديد المختلفة، أو المصالح المتباينة للأعضاء الجدد، أو الضغوط السياسية المحلية. ورغم أن روسيا تظل تشكل تحدياً خطيراً للسلام والأمن الأوروبيين، فإنها قد لا تُعَد بالقوة نفسها في المستقبل، وهو التهديد الذي قد يشهد اهتماماً لدى الدول الأعضاء في جنوب أوروبا أكبر من التحديات الأمنية في شمال أفريقيا والشرق الأوسط، في حين قد تتوجه بريطانيا وفرنسا أكثر لمعالجة التحديات العالمية.
ختاماً، وعلى ضوء هذه السيناريوهات الثلاثة، فإن النهضة المميزة لحلف الناتو، التي تأتي في الوقت المناسب لمواجهة التحدي الروسي فيما بعد الحرب الأوكرانية، قد تُواجَه قريباً بمشهد جيوسياسي جديد سيختبر مرة أخرى تماسك الحلف وقدرته على التكيف.