بعد ما يزيد عن 160 هجمة لفصائل المقاومة العراقية على القواعد الأمريكية في العراق وسوريا، دفع استهداف القاعدة الأمريكية، البرج 22، في الأردن، بالأمريكي للتهديد بضربة عسكرية. وفي حين أجمعت المؤسسات والبيت الأبيض على ضرورة الرد الانتقامي في ظل تيار من الضغط على بايدن، اختلفت مروحة الخيارات حول الجهات والساحات التي ستتعرّض لموجات الردود. وشكّلت الضربات الأمريكية ليل الجمعة، 2/2/2024، على العراق وسوريا، الضربة الرادعة المباشرة على استهداف قاعدة البرج.
جاء القرار الأمريكي نتيجة عدة محدّدات هي عبارة عن مجموعة من المؤشرات والدوافع والغايات. تعدّدت المؤشرات على حتمية الردّ، وتنوّعت ما بين تصريحات وبيانات سياسية رسمية ومعطيات عسكرية وتسريبات إعلامية. وتوزّعت العوامل الدافعة ما بين ثلاثة: الحرب في غزة ومرحلة المراوحة الحاكمة عليها مع الحاجة إلى وقف الحرب؛ الساحة اليمنية وعدم قدرة الغارات الأمريكية البريطانية على كسر الحصار أو وقف الصواريخ المضادة للسفن والمسيّرات؛ والانتخابات الأمريكية الضاغطة على بايدن لتحقيق إنجاز رافعة عبر الرد بدل الانكفاء. وقد هدف القرار إلى وضع سقف للتصعيد وتحقيق درجة "الهيمنة في التصعيد" مع صعوبة تحقيق هدف "استعادة الردع"، وفق ما كشفته الساحة اليمنية بالدرجة الأولى لاحتكاكها المباشر مع الأمريكي وشدة الاشتباك، فضلًا عن بقية الساحات، مع الأخذ بعين الاعتبار تنامي التفاعل بين الساحتين العراقية واليمنية في استهداف الأمريكي. ومع تنفيذ الضربة الأمريكية، يتّضح وجود بعض العوامل المتحركة المحيطة بها: البيئة الجغرافية؛ الوضع الإسرائيلي ومرحلة التفاوض؛ وضع المنطقة العام؛ والوضع الدولي.
تشير الضربات إلى أن الرد الأمريكي جاء على مستوى الردّ على مسار استهداف القواعد الأمريكية، ولم يقتصر على قدر عملية التنف، حيث طال القصف حوالى 85 هدفًا تابعًا لفصائل المقاومة في كل من العراق وسوريا. فتركّزت الضربات على مجموعة من المؤسسات والبنى التحتية المساهمة في العمليات أو المسؤولة عنها مباشرة من قبيل عمليات القيادة والسيطرة ومراكز الاستخبارات ومخازن الصواريخ والمقذوفات والمسيرات ومقار لوجستية، كما استهدفت المؤسسات المدنية كمؤسسة طبابة الحشد الشعبي. جغرافيًّا، استهدفت الغارات المناطق الحدودية العراقية السورية، سيّما مناطق الميادين-البوكمال، وهي مناطق مواجهة النظام السوري وجماعات المقاومة لتنظيم داعش في وقت سبق أن تحدثت التسريبات وبعض التصريحات عن احتمال انسحاب أميركي من سوريا والعراق، ما يفتح باب التساؤلات باتجاه الجهة التي تستفيد من استهداف قوى المقاومة في تلك المنطقة والهدف الأمريكي في محاولة إعادة تنشيط الإرهاب. من جهة أخرى، تؤكّد الغارات على خط الإمداد البري ما بين طهران وبيروت، بدورها أيضًا، طبيعة الرد الأمريكي على المسار إضافة إلى محاولة توليد ضغط على محور المقاومة وتوجيه المخرجات لصالح الكيان المؤقّت، وسحب بعض أوراق القوة من حركة حماس في لحظة التفاوض عبر اضعاف الجبهات الرديفة.
ومن الدوافع المتحركة الأخرى التي تظهر في طبيعة الردود وأماكنها هدف الإدارة الأمريكية في تجنب التصعيد في ظل التصريحات والتسريبات الصحافية خلال الأيام الماضية عن العزم على توجيه الضربات، ما أعطى المجال للجماعات لأخذ التدابير الوقائية الممكنة واللازمة، إضافة إلى حصر الضربات في سوريا والعراق، تجنّبًا لتجاوز خط أحمر في استهداف داخل إيران، والتدحرج إلى مجموعة من الردود المغامرة. بيد أنّ نوعية الضربات ومجالات الاستهداف مع احتمال اتّساع الحملات الجوية وفق الإعلان الأمريكي في سوريا والعراق واحتمال استمرار الحملة لأسابيع، ينذر بدوره بمغامرة أمريكية في سبيل تحقيق "الهيمنة في التصعيد"، عبر وضع سقف لعمليات المقاومة ضد القواعد الامريكية، ومع عدم امتلاكه لضمانات بأن المحور لن يعاود الردّ، خاصة وأن ردود المقاومة استمرت مباشرة بعد الضربات على القواعد الأمريكية في سوريا في رسالة إلى أن المحور هو من يتحكم بالخط الأحمر الذي تبقى عمليات المقاومة دونه. باتجاه موازٍ، تندفع الضربات بفعل المصداقية الدولية حيث تريد واشنطن أن تظهر أنها تملك القدرة على استعادة الهيبة أو إنقاذ ماء الوجه في الداخل بوجه منتقدي بايدن من الجمهوريين ومعالجة صورته الانتخابية الضعيفة أصلاً، واستعادة مصداقيتها أمام حلفائها من الوكلاء الدولتيين وغير الدولتيين بتجديد التزام تقديم الحماية والأمن، وبالدرجة الأولى للكيان المؤقت، باعتبار أن استهداف خط إمداد السلاح عبر الأراضي السورية يحسن من رصيد الولايات المتحدة لدى الكيان الصهيوني وقد يزيد من قدرتها على التأثير النسبي على مواقف نتنياهو واليمين المتطرف.
بالمحصلة، تشير الردود العراقية مباشرة على استهداف القواعد الأمريكية إضافة إلى الاستهداف اليمني لمدينة إيلات بأن الهجمات لن تحقّق الردع المطلوب، وأن القيمة المضافة التي أرادها الأمريكي في سلّم التصعيد ليست قريبة المنال، أضف إلى ذلك أن الأمريكي دخل عبر هذه الحملة في سوريا والعراق المأزق الذي دخله عندما استهدف اليمن، مع عدم القدرة على ردع قوى المقاومة وإكراهها على وقف عملياتها المساندة للمقاومة في قطاع غزة. لذا، قد تكون هذه الحملات واستمرارها هي الاستراتيجية الأمريكية المقصودة في محاولة التحكم بمسارات التصعيد وفق التوقيت والطريقة المناسبة لإيقاع خسائر تراكمية بأقل كلفة، في الوقت الذي يردد بأن لا نية لديه للتصعيد، ومن هذه الآليات احتمال تكرار الضربات الانتقائية والنقطوية الرامية لتأمين فتح مسار جديد للسياسة الأمريكية في المنطقة تتناسب مع مرحلة ما بعد الحرب على غزة، يقوم على تفعيل برنامج الفوضى الداخلية وتفجير الوضع الأمني بعد سلسلة من العمليات الدقيقة ضد قدرات المحور.