• اخر تحديث : 2024-05-08 00:17
news-details
دراسات

ستون عامًا من الانعقاد: مؤتمر ميونيخ للأمن.. الأجندة والقضايا والمسكوت عنه


عقدت فعاليات مؤتمر ميونيخ للأمن خلال الفترة من 16 إلى 18 فبراير الحالي، وذلك في ظل بيئة استراتيجية عالمية تتسم بالتعقيد والغموص الأمر الذي تعكسه التوترات الجيوسياسية والاقتصادية، وحالة عدم اليقين العالمية.
 
وشهد المؤتمر هذا العام حضور نحو 50 من قادة العالم ناقشوا خلاله العديد من الملفات المختلفة، كان أبرزها الحرب على غزة والأزمة في أوكرانيا. وقد افتُتح المؤتمر بكلمة للأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، في جلسة شهدتها كامالا هاريس نائبة الرئيس الأمريكي، وعدد من الزعماء بينهم المستشار الألماني أولاف شولتس، والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، إضافة إلى أكثر من 100 وزير، وقادة العديد من المنظمات الدولية، ومنظمات المجتمع المدني، في حين غاب ممثلو إيران وروسيا بعد استبعادهم من قائمة المدعوين. وخيَّم على جدول أعمال المؤتمر تصريحات الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، التي ألقت بظلال من الشك على الالتزامات الأمنية الأمريكية. حيث قال ترامب خلال تجمُّع انتخابي لمؤيديه إنه "سيشجع" روسيا على "فعل ما تريد" لدول حلف شمال الأطلسي (ناتو) التي لا تنفق ما يكفي على الدفاع.

وتصدّرت الحرب الروسية الأوكرانية، والتوتر في الشرق الأوسط، ودور أوروبا في العالم، المواضيع المدرجة على جدول أعمال مؤتمر ميونيخ للأمن هذا العام. وشهد المؤتمر في الذكرى الستين لتأسيسه قرابة 60 جلسة تتناول موضوعات مهمة مثل الرؤى الجديدة للنظام العالمي، ومستقبل حلف شمال الأطلسي، والصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وسياسات الطاقة، وتغير المناخ، وانعدام الأمن الغذائي، والذكاء الاصطناعي. وشمل جدول أعمال المؤتمر مناقشة قضايا أخرى، من بينها الصراعات المتزايدة في القرن الإفريقي وأزمات النزوح واللجوء والهجرة، إضافة إلى العلاقات بين الغرب والصين، ومستقبل الأمن النووي.

وفي هذا الإطار، تناقش هذه الدراسة العديد من القضايا، منها: ستون عامًا على التأسيس والنشأة، أهم القضايا التي تناولها التقرير السنوي للمؤتمر لعام 2024، والقضايا المسكوت عنها في أعمال المؤتمر. 

أولًا- ستون عامًا على التأسيس والنشأة
 
يعد مؤتمر ميونيخ للأمن MSCMunich أحد أهم وأكبر المؤتمرات الدولية التي تناقش التطورات والسياسات الأمنية على مستوى العالم، حيث يلتقي خلاله كل عام بضع مئات من صناع القرار في مختلف المجالات الجيوستراتيجية والعسكرية لمناقشة أوضاع العالم والتهديدات والتحديات التي تواجهه على مختلف المستويات. وينعقد المؤتمر بشكل سنوي ويستمر لمدة ثلاثة أيام، وقد تحوَّل من التركيز على قضايا الدفاع فقط إلى منتدى للسياسيين والدبلوماسيين والخبراء والأكاديميين.
 
ومن خلال التتبع التاريخي لنشأة المؤتمر يمكننا القول إنه انعقد للمرة الأولى عام 1963، تحت عنوان "اللقاء الدولي لعلوم الدفاع"، ثم بات يعرف فيما بعد بمؤتمر "العلوم العسكرية الدولي"، قبل أن يستقر على مسمّاه المعروف الآن "مؤتمر ميونخ للأمن"، وبذلك انفتح جدول أعماله أكثر على قضايا الأمن العالمي. وفي هذا السياق، يقدم المؤتمر نفسه كهيئة أو مؤسسة غير ربحية مستقلة، تتولى تنظيمه "مؤسسة مؤتمر ميونخ للأمن"، التي تستفيد بشكل كبير من الإعانات الحكومية. ووفقًا لما أعلنته الحكومة الألمانية حصل المؤتمر في عام 2015 على نحو نصف مليون يورو، و700 ألف يورو، فضلًا عن رعاية شركات ألمانية ودولية كبرى له، وبذلك تصل ميزانيته إلى نحو مليوني يورو.
 
وقد تأسس المؤتمر على يد كلّ من الناشر الألماني إيفالد هنريش فون كلايست، أحد مؤيدي المقاومة ضدَّ نازية أدولف هتلر في الرايخ الثالث، وأحد ضباط المجموعة التي حاولت اغتيال الفوهرر في عام 1944، والفيزيائي اليهودي المجري الأصل، الأمريكي الجنسية، إدوارد تيلر، وهو واحد من رواد صناعة القنبلة الذرية، ويعرف في أمريكا بـ "أبو القنبلة الهيدروجينية". وينعقد المؤتمر سنويًّا في مدينة ميونيخ عاصمة ولاية بافاريا الألمانية، وهي أكبر مدنها مساحة وسكانًا وأهم مراكزها الصناعية والسياحية. وتقع المدينة جنوبي ألمانيا على ضفاف نهر "إيسار" قرب الحدود مع النمسا. وتنظَّم فعاليات المؤتمر في فندق "بايريشر هوف" الواقع وسط ميونيخ، ويتوفر الفندق الفاخر على 340 غرفة و65 جناحًا فندقيًّا و40 قاعة للمؤتمرات. وتولَّى رئاسة المؤتمر وزير الدولة السابق في وزارة الخارجية الألمانية، وولفغانغ إيشينغر، في عام 2008، وخلفه في عام 2022 كريستوف هيوسجن، مستشار السياسة الخارجية والأمنية السابق لأنجيلا ميركل.
 
تكمن أهمية هذا المؤتمر في كونه منصة فريدة من نوعها للبحث في القضايا الأمنية على مستوى العالم، كما أنه يمنح الفاعلين السياسيين فرصة التواصل بشكل غير رسمي على مدار ثلاثة أيام، ما يتيح رسم خطوط حمراء، أو تبادل الأفكار لحل النزاعات. فخلال العقود الأولى من عمر المؤتمر كان الحضور محدودًا والمشاركون أقل، وكانت النقاشات تتركز حول السياسات الغربية ضمن الإطار الشامل لمواجهات الحرب الباردة. وبعد انتهاء الحرب الباردة، سعى مؤسسو المؤتمر إلى توسيعه ليتجاوز الإطار الغربي الضيق، فأصبح أكثر انفتاحًا على مشاركين من دول أوروبا الوسطى والشرقية وكذلك على آخرين من دول ما كان يعرف بالاتحاد السوفيتي. وكانت فلسفتهم حينئذ أن على المؤتمر، شأنه في ذلك شأن حلف شمال الأطلسي، أن يتخطى الإطار الضيق الذي رسمته الحرب الباردة، وأن يتوسع نحو أطراف أخرى إذا ما أريد له أن يأخذ مكانة ودورًا أكبر على مستوى العالم. واليوم ومع زيادة وتنوع اللاعبين المهيمنين على مستوى العالم واتساع دائرة التحديات، زاد عدد المشاركين خصوصًا من القيادات السياسية والأمنية من القوى الصاعدة في الصين والبرازيل والهند، كما جلبت الثورات العربية والنقاشات المتزايدة حول دور ومكانة إيران في الإقليم وطموحاتها النووية، والتحديات المرتبطة بنشوء عدد من التنظيمات المسلحة وفي مقدمتها تنظيم الدولة الإسلامية وغيرها من التحديات التي جلبت قادة الشرق الأوسط إلى ميونيخ.
 
إضافة إلى ذلك، تحاول اجتماعات مؤتمر ميونيخ للأمن التأثير على الخطابات المهيمنة على وسائل الإعلام الدولية فيما يتعلق بالقضايا الأمنية المهمة، بل وحتى تغيير هذه الخطابات في بعض الأحيان، ولذا فهي فرصة تمنح هذه الاجتماعات قوة كبيرة على المستوى الدولي، حيث ازدادت أهميتها خلال العقدين الماضيين.
 
والخلاصة هي أنه على مدار ستين عامًا، ظل مؤتمر ميونيخ للأمن يتطور باستمرار من خلال تبادل وجهات النظر بين صناعي القرار والخبراء في العالم حول أهم القضايا الحالية والمستقبلية لسياسة الأمن الدولي بطريقة بناءة. 
 
ثانيًا- أهم القضايا التي تناولها تقرير المؤتمر لعام 2024
 
جاء تقرير المؤتمر السنوي الذي صدر قبل أيام من انعقاده تحت عنوان: خسارة ــ خسارة؟ Lose – Lose؟. ويفسِّر رئيس مؤتمر ميونيخ للأمن الدبلوماسي الألماني كريستوف هيوسجِن، في مقدمة التقرير ما المقصود بالخسارة بقوله إن جميع المنخرطين في المنظومة الدولية قد باتوا يعانون الخسارة على جميع الأصعدة، فقد استولت على كثير من حكومات العالم قناعة بأن دينامية الخسارة للجميع تطال كل اللاعبين الدوليين؛ إذ باتت كل دولة وكل محور إقليمي أو دولي يسعى إلى تعظيم فائدته الخاصة على حساب الخير العام والتعاون الدولي. وبالرغم من التحديات الجسام التي تواجه الكوكب ومواطنيه وتستدعى تضافر المنظومة الدولية فإن كل دولة أو محور قد انصبَّ جلُّ جهده ــ ليس على تعظيم المكسب ــ بل على تقليل الخسارة.
 
وفي هذا الإطار، يناقش التقرير في صفحاته الـ 127 كيف سادت الخسارة جميع اللاعبين في شتى مساحات اللعب الجيوسياسية والاقتصادية والتقنية من خلال دراسة للمناطق الجغرافية الأكثر تفجرًا، وتناول القضايا الأكثر إلحاحًا التي تواجه العالم من خلال ثمانية فصول كما يلي: أولًا- دراسة مناطق شرق أوروبا، والهندوــ باسيفيك، والشرق الأوسط، والساحل الإفريقي. ثانيًا- تناول إشكاليات الاقتصاد العالمي وإخفاقاته، والمناخ وتداعياته الكارثية، والتكنولوجيا وتوظيفاتها الضارة.
 
الصين: أشار التقرير إلى أنَّ من المتوقع أن تصبح الصين والقوى الأخرى من الجنوب العالمي أكثر قوة خلال السنوات العشر المقبلة، وذلك في الوقت الذي ستعاني فيه البلدان الغربية من الركود أو الانحدار. وعلى هامش اجتماعات المؤتمر تعهَّد وانغ يي، وزير الخارجية الصيني، في لقاء ضمَّ 180 من القادة ووزراء الدفاع، بأن تكون الصين "قوة من أجل الاستقرار" في العالم.
 
الوضع في أوروبا الشرقية: تطرَّق الفصل الثاني من التقرير إلى البيئة الأمنية في أوروبا الشرقية والحرب الروسية الأوكرانية التي دمرت ما تبقى من البنية الأمنية التعاونية في أوروبا وأجبرت بلدان أوروبا الشرقية على الانحياز إلى أحد الجانبين. كما أرغمت الحرب الاتحاد الأوروبي على النظر إلى التوسعة باعتبارها أداة جيواستراتيجية لنقل البلدان إلى خارج المنطقة الرمادية. ولكن من غير الواضح مدى سرعة حدوث ذلك وما إذا كان جميع الأعضاء على استعداد لتحمُّل التكاليف. وتوسيع منظمة حلف شمال الأطلسي مدرج على الأجندة أيضًا، ولكن الخلافات الداخلية تقف عائقًا في طريق التقدم السريع.[14]
 
منطقة الهندوــ باسيفيك: يولي التقرير اهتمامًا كبيرًا بمنطقة الهندوــ باسيفيك، حيث يعيش 60% من سكان العالم، باعتبارها البؤرة الجيوسياسية الأهم في القرن الحادي والعشرين. كما أنه يُعدُّ المسرح الرئيسي للتنافس الجيوسياسى بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين. وفي هذا الإطار يشير التقرير في الفصل الثالث إلى مخاوف العديد من المراقبين من حدوث تصعيد للعنف في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، حيث تعمل الصين بقوة متزايدة على تعزيز رؤيتها للنظام الإقليمي المتمحورة حول الصين، الأمر الذي يؤدي إلى رد فعل من لدن الولايات المتحدة ودول المنطقة، وبالتالي تغذية ديناميكيات تكون محصلتها صِفرًا. وقد أصبحت الانحيازات المتعددة التي تفضلها دول منطقة المحيط الهادئ الهندية، صعبة على نحو متزايد مع اشتداد المنافسة بين الصين والولايات المتحدة. ويسعى العديد من اللاعبين الإقليميين إلى تحقيق توافق أوثق مع الولايات المتحدة فيما يتعلق بالمسائل الأمنية. وهم يحاولون أيضًا تقليل اعتمادهم الاقتصادي على الصين، وإن كان ذلك بمستويات مختلفة من النجاح. ومن ناحية أخرى، تتضاءل أهمية التعاون الأكثر شمولًا في إطار رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) مع اختيار البلدان ذات التفكير المماثل لأطر مصغرة جديدة تهدف إلى موازنة النفوذ الصيني في منطقة المحيط الهادئ الهندية.
 
الأوضاع في الشرق الأوسط: خُصِّص الفصل الرابع من التقرير لمنطقة الشرق الأوسط، حيث ركز على تصاعد العنف لاسيما مع الهجمات التي شنّتها حماس على إسرائيل والرد الإسرائيلي الذي أغرق غزة في حالة من اليأس، مع ارتفاع أعداد الضحايا المدنيين، وتدمير البنية التحتية، وحالة الطوارئ الإنسانية. فقبل اندلاع الحرب بين حماس وإسرائيل، بدا أن التقارب الملحوظ بين الخصمين السابقين قد أدى إلى تغيير الديناميكيات الجيوسياسية في الشرق الأوسط. وقد أدى التعاون العملي عبر مجموعة من الأطر الجديدة أو التي تم إحياؤها إلى إنتاج منافع اقتصادية متبادلة، وقدر أعظم من الاستقرار السياسي. واستمرار الحرب يهدد بإثارة حلقة مفرغة من العنف الإقليمي الأوسع نطاقًا.
 
منطقة الساحل والصحراء: تناول التقرير في فصله الخامس منطقة الساحل، فعقِب الانقلاب في النيجر أصبحت منطقة الساحل عُرضة لخطر الانزلاق إلى قدر أعظم من انعدام الأمن مقارنة بأي وقت مضى، مع ما يترتب على ذلك من عواقب وخيمة أيضًا على البلدان المجاورة. وتواجه دول بوركينافاسو ومالي والنيجر موقفًا يخسر فيه الجميع خصوصًا أوروبا والولايات المتحدة، وبالنسبة لكلا الجانبين، فإن وقف التعاون له عواقب وخيمة. وحتى قبل الانقلاب الأخير في النيجر، واجهت جهود أوروبا والولايات المتحدة لتعزيز التنمية والديمقراطية والحكم الرشيد، ومكافحة الإرهاب، وإدارة الهجرة في منطقة الساحل، انتقادات شديدة لفشلها في تحقيق التوازن الصحيح. ومع تحدي المجلس العسكري في النيجر الآن للشراكات القائمة منذ فترة طويلة، فإن الانقلاب يدعو إلى التشكيك في مستقبل مشاركة أوروبا والولايات المتحدة في منطقة الساحل. وتخسر شعوب المنطقة بدورها فرصة تحقيق السلام والتقدم الديمقراطي، حيث أعقب كل انقلاب منذ عام 2020 مستويات أعلى من العنف.
 
التنافس الجيوسياسي: ركز الفصل السادس من التقرير على مسألة التنافس الجيوسياسي المحتدم الذي أدى إلى دفن الاعتقاد بأن العولمة التي تقودها السوق تنتج توزيعًا عادلًا للمكاسب. وفي هذه المرحلة الجديدة من العولمة الأمنية، تعطي الدول الأولوية للمرونة والأمن على الكفاءة. وكان لجوء الصين المعتاد إلى الإكراه الاقتصادي واستخدام روسيا اعتماد أوروبا على الطاقة كسلاح، عقِب حربها على أوكرانيا، سببًا في رفع الأمن الاقتصادي إلى قمة جدول الأعمال بين الديمقراطيات الليبرالية. وأدت سيطرة الولايات المتحدة على الهيكل المالي الدولي إلى دفع العديد من الأنظمة الاستبدادية إلى السعي لتحقيق الأمن الاقتصادي في وقت مبكر من العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وتترجم هذه التحولات السياسية الدراماتيكية إلى واقع اقتصادي كلي. ويجري الآن إعادة توجيه تدفقات رأس المال الغربية من الصين إلى شركاء آخرين. وتظهر التدفقات التجارية أيضًا علامات أولية على إعادة الهيكلة على طول الخطوط الجيوسياسية. ومع ذلك، فإن أوروبا تتحدى هذه الاتجاهات إلى حد كبير.
 
المواءمة بين الأهداف المناخية والجيوسياسية والاقتصادية: يبيّن التقرير في الفصل السابع أن المواءمة المتزايدة بين الأهداف المناخية والجيوسياسية والاقتصادية قد تساعد في تعزيز الأجندة الخضراء العالمية. ومع ذلك فإن التوقعات الوطنية للبلدان تهدد بتقويض النهج المناخي التعاوني والتحوُّل الإيجابي. ويتوقف التعاون مع الصين في مجال المناخ على العلاقة الأوسع بين واشنطن وبكين. ويمكن للمنافسة على قيادة التكنولوجيا النظيفة أن يحفز أجندة المناخ. لكن الاحتكاكات التجارية وخطر استخدام التكنولوجيات الخضراء كسلاح يهدد بعرقلة التقدم العالمي نحو صافي الصفر. ومن الممكن أن يعمل الشركاء عبر الأطلسي محركًا للعمل المناخي الدولي. ومع ذلك فإن الاحتكاكات بشأن إعانات الدعم وتسعير الكربون تقوِّض إمكاناتهم القيادية. ومن أجل تحقيق أهداف صافي الصفر العالمية ومواءمة أهداف المناخ والتنمية، فإن الأمر يتطلب تعاونًا أعمق وأكثر إيجابية بين البلدان مرتفعة الدخل وتلك المنخفضة الدخل، بما في ذلك تمويل المناخ والمعادن الحيوية.
 
التقدم التكنولوجي: في الفصل الثامن والأخير يؤكد التقرير أهمية التقدم التكنولوجي حيث كان منذ فترة طويلة محركًا للازدهار العالمي، ولكن التكنولوجيا تحوّلت من كونها محركًا للرخاء العالمي إلى وسيلة مركزية للمنافسة الجيوسياسية؛ فالدول تعمل على التخلص من المخاطر وتسليح سلاسل توريد أشباه الموصلات، وتعزيز الرؤى المتضاربة لحوكمة التكنولوجيا العالمية، والتنافس على الهيمنة في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي. وتأتي هذه المنافسة التكنولوجية المتزايدة مصحوبة بخسائر في الازدهار وتهديدات أمنية جديدة. ويؤدي تضاؤل التعاون الدولي إلى جعْل سلاسل توريد التكنولوجيا أقل كفاءة وإلى الافتقار إلى التنظيم العالمي لمعالجة مخاطر التكنولوجيا. إن حدود منطق المنافسة الجيوسياسية واضحة، فتفكيك سلاسل توريد أشباه الموصلات أمر غير ممكن، وما تزال العديد من الدول في الجنوب العالمي تعطي الأولوية للتنمية الرقمية على المواءمة الجيوسياسية، وهناك ضرورة أخلاقية للتعاون الدولي في تنظيم الذكاء الاصطناعي. ويتعين على الدول في جميع أنحاء العالم أن تبحث عن مجالات يظل فيها التعاون التكنولوجي ذو المحصلة الإيجابية ممكنًا، حتى مع المنافسين الجيوسياسيين. 
 
القضايا المسكوت عنها:
 
يأتي انعقاد المؤتمر في ظل بيئة استراتيجية تتَّسم بالتحوُّل، وهو ما انعكس على العديد من القضايا الاستراتيجية التي تناولها المؤتمر وتقريره. وبالرغم من ذلك توجد عدة قضايا لم يشير إليها المؤتمر، وإن أشار إلى بعضها على استحياء، ومنها ما يلي:
 
التحول في هيكل النظام الدولي: تشهد الفترة الأخيرة تحولًا تدريجيًّا في قمة هيكل النظام الدولي وذلك بالرغم من محاولة الولايات المتحدة الأمريكية الحافظ على وضعها المتميز في النظام الدولي، وسعيها لإضعاف القوى التي تُحاول تغييره. في حين تسعى روسيا إلى إنهاء هيمنة القطب الواحد، والاتجاه إلى عالم مُتعدد الأقطاب، وإنهاء سيطرة واشنطن على مُقدرات العالم. أما الصين فإنها تُعطي الأولوية لاستعادة مُعدلات نموها الاقتصادي وزيادة علاقاتها التجارية مع جميع الأطراف جنبًا إلى جنب مع تحاشى الانخراط في الصراعات السياسية، في الوقت الذي تُرسّخ فيه تحالفها مع روسيا بهدف تغيير النظام الدولي.
 
الصراعات الإقليمية: تنتشر في البيئة الاستراتيجية الحالية الصراعات والحروب الإقليمية، حيث أشار التقرير إلى أن الحرب ما تزال مشتعلة بين روسيا وأوكرانيا، وحرب غزة مستمرة كذلك بين حركة حماس وإسرائيل، وبين أذرع إيران من جهة والولايات المتحدة وبريطانيا من الجهة المقابلة، فضلًا عن حرب أخرى تلوح في الأفق في شبه الجزيرة الكورية. لكن لم التقرير لم يشر من قريب أو من بعيد إلى أن العالم لم يشهد منذ عدة عقود كل هذا العدد من الصراعات المسلحة دفعة واحدة. وأن انتشار الصراعات المسلحة في العالم يعكس عجز آليات الضبط والسيطرة وحلّ النزاعات. وهذا ما يحدث عندما يفقد النظام الدولي القائم أسباب البقاء، بينما يظل التوصل إلى نظام دولي جديد أمرًا بعيد المنال، فيدخل النظام الدولي في مرحلة سيولة وانتقال، تجرّب فيها الأطراف قدراتها، وتختبر الخصوم وخطوطهم الحمراء.
 
مستقبل الصراع المركزي: يعدُّ الصراع الصيني الأمريكي هو الصراع المركزي الذي يشهده النظام الدولي الراهن، وهو صراع سياسي واقتصادي، وسباق للتسلح، وامتلاك للتكنولوجيا الفائقة، لكنه لم يتحوَّل حتى الآن إلى صراع مسلح، وإن كان احتمال ذلك قائمًا على المدى البعيد، خصوصًا في ظل الدعم الأمريكي المتواصل لاستقلال تايوان. لكن بالرغم من الطابع غير العسكري للصراع الصيني الأمريكي فإن هذا الصراع المركزي يوجِد ظروفًا مواتية لتوليد وتكاثر صراعات أخرى في أنحاء مختلفة من العالم، في أوروبا والشرق الأوسط وإفريقيا وشرق آسيا.
 
السباق إلى الفضاء: نشرت مجلة "ذي إيكونوميست" مؤخرًا تقريرًا أكدت فيه أنه بعد حروب الأرض، قد تكون الحرب القادمة بين القوى الكبرى على الفضاء، بعدما اشتد التنافس لتطوير قدرات جديدة وبدأت بعض الدول بناء قوات وأسلحة للقتال خارج الغلاف الجوي. ففي 28 يناير الماضي قالت إيران إنها أطلقت ثلاثة أقمار صناعية، وتخشى الدول الغربية من إمكانية استخدام تلك الأقمار في برنامج إيران للصواريخ الباليستية. وفتَح غزو روسيا لأوكرانيا فصلًا جديدًا في حرب الفضاء. ولكن الصين هي القوة التي تقلق أمريكا بالفعل، حيث تسعى إلى مضاهاة، إن لم يكن تجاوز، تفوق أمريكا في السماء. وفي هذا الإطار قال الأدميرال، كريستوفر جرادي، نائب رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية: "لقد برز الفضاء باعتباره مجال القتال الأكثر أهمية لدينا". وتطلق أمريكا وروسيا والصين أقمارًا اصطناعية بمهمات متعددة وترسل طائرات فضائية من حين لآخر. وكمثال على تزايد حرب الفضاء انتشرت البرامج الضارة الروسية عبر جزء من شبكة أقمار اصطناعية قبل وقت قصير من هجوم دباباتها على أوكرانيا في 24 فبراير 2022، وعطلت أجهزة الإنترنت عبر الأقمار الصناعية لنحو 50 ألف مستخدم أوروبي، من بينهم العديد من الوحدات العسكرية الأوكرانية. لكن في غضون أسابيع عادت القوات الأوكرانية إلى الإنترنت بفضل الكوكبة الواسعة من أقمار "ستارلينك" الصناعية التي أطلقتها شركة "سبيس إكس". كل هذا يدلُّ على أن الفضاء ليس مجرد مكان للاستكشاف السلمي، ولكنه ساحة للقتال في المستقبل. وأصبحت السيطرة على الفضاء تحظى بالأهمية ذاتِها التي تحظى بها الهيمنة على الأرض والبحر والجو. وفي أي صراع مستقبلي بين أمريكا والصين، على سبيل المثال، ستكون الأقمار الصناعية ضرورية للعثور على الأهداف وتدميرها عبر المسافات الشاسعة للمحيط الهادئ. لذلك تضع قوات الفضاء الأمريكية وحدات متخصصة داخل القيادات القتالية الأمريكية، وتشرف على المجال "الفلكي" من 100 كيلومتر فوق مستوى سطح البحر.
 
الحروب السيبرانية: مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في 24 فبراير 2022، ارتفعت حدة المخاوف من انتقال هذا الصراع إلى الفضاء الإلكتروني لدرجة دفعت البعض إلى التحذير من اندلاع حرب عالمية سيبرانية، وثارت شكوك حول ما إذا كانت تلك المعارك التي تستهدف تغيير جغرافية العالم، قد تمتد إلى إحداث تغيير راديكالي في طبيعة الإنترنت العالمية، خصوصًا أن من بين السيناريوهات المطروحة منذ بدء هذه الحرب، استهداف روسيا للكوابل الموجودة في عمق البحر بهدف قطع الإنترنت عن العالم بأسره. وقد عزَّز من وتيرة تلك المخاوف والتحذيرات ما ذكره الرئيس الأمريكي جو بايدن في 21 مارس 2022 من أن روسيا كانت تفكر في شنّ هجوم ضدَّ بُنى تحتية دولية حساسة للغاية.
 
أصبح سيناريو الحرب السيبرانية واقعيًّا للغاية بالنسبة للدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي "ناتو" وحلفائها منذ الغزو الروسي لأوكرانيا. فقد أجبر الصراع هذه الدول على أن تحاكى الهجمات المتوقعة، فأوكرانيا أُجبرت على الدفاع ضدَّ كل من الهجمات الصاروخية والجهود المستمرة التي يبذلها القراصنة الروس بهدف إطفاء الأنوار وجعل الحياة أكثر صعوبة على الأوكرانيين. ومن جانبه أعلن نائب رئيس الوزراء الروسي دميتري تشيرنيشينكو عن إحباط نحو 66 ألف هجوم إلكتروني على منشآت البنية التحتية الحيوية الروسية خلال 2023، كما أشار أيضًا إلى أن البنية التحتية الحيوية للمعلومات التي جرى استهدافها تشمل المرافق الرئيسية لقطاعات الصناعة والطاقة والاتصالات والنقل والرعاية الصحية والدفاع والخدمات المصرفية وغيرها من القطاعات الرئيسية للاقتصاد.
 
وبالمجمل تشمل قائمة الضحايا السيبرانيين المحتمل تعرّضهم للهجمات، البنوك وشركات الطاقة، ومصنعي المواد الغذائية، وصانعي الأدوية، وموردي الوقود، الذين وقعوا جميعًا ضحية عمليات قرصنة بعضها بهدف تخريبي خلال السنوات الأخيرة. وإجمالًا فإن الحروب السيبرانية قد تستهدف الإدارات المحلية الصغيرة وصولًا إلى الوكالات التي تدير الترسانة النووية في الدول الكبرى. 
 
خاتمة:
ألقى مؤتمر ميونخ للأمن هذا العام، والتقرير الصادر عنه، الضوء على العديد من المعضلات الاستراتيجية التي يمر بها العالم اليوم، وتحتاج إلى تضافر الجهود العالمية لحلها بدلًا من استمرار التنافس الاستراتيجي بين وحدات النظام الدولي، وهو التنافس الذي سيؤدى لا محالة إلى خسارة الجميع. كما أن تقرير ميونيخ للأمن هذا العام يقدم في أطروحاته إطارًا فكريًّا يمكن للمتحاورين الاسترشاد به، لتجاوز الأزمات الدولية المركّبة الراهنة.
 
ولأول مرة منذ بداية القرن الجديد شغلت قضية مستقبل العلاقات الفلسطينية الإسرائيلية حيزًا في المناقشات العامة للمؤتمر. حيث تطرق المتحدثون، بما في ذلك المستشار الألماني أولاف شولتس ووزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، إلى الموضوع خلال خطاباتهم، وتحدثوا مرة أخرى عن حلّ الدولتين، وضرورة قيام دولة فلسطينية مستقلة تعيش بسلام جنبًا إلى جنب مع إسرائيل.