• اخر تحديث : 2024-05-03 21:39
news-details
دراسات

ولجت الحرب الروسية-الأوكرانية في عامها الثالث من دون وجود أي أفقٍ قريب لانتهائها، وتحوّلت إلى حرب استنزاف، وصراعٍ يتسم بالجمود؛ برغم الاشتباكات المستمرة على طول الجبهات، وبعض التقدم المحدود أو التكتيكي الذي تحققه القوات المتحاربة؛ ولاسيما القوات الروسية، في الأشهر الأخيرة. ولكن، هل يمكن أن يتغير مسار الحرب في عام 2024؟

تسعى هذه الورقة إلى الإجابة عن هذا السؤال، ومن ثم استشراف مسار الحرب الروسية-الأوكرانية في عامها الثالث، عن طريق استقراء مراحل تطورها منذ اندلاعها عام 2022 وتحليل الوضع العسكري الراهن. ومن أجل ذلك، يجري تقسيم الورقة إلى ثلاثة أقسام رئيسة. يُعطي القسم الأول خلفية عن تطور مسار الحرب منذ اجتياح القوات الروسية الحدود الأوكرانية، فيما أطلق عليه "عمليةً عسكرية خاصة" في 24 فبراير 2022. ثم يأتي القسم التالي ليلقي نظرةً معمقة على الوضع العسكري الراهن. وفي القسم الثالث، يجري تحليل سيناريوهات الحرب الروسية-الأوكرانية في عام 2024، وترجيح أحدها.

أولًا- تطور مسار الحرب الروسية-الأوكرانية (فبراير 2022 - فبراير 2024):

اختبرت الحرب منذ أواخر فبراير 2022 أربعة مراحل متميزة، تميزت كل منها بتطورات عسكرية وجيوسياسية مهمة، وربما تلج الآن في مرحلة خامسة.

بدأت المرحلة الأولى منذ بداية الاجتياح الروسي للحدود الأوكرانية حتى أواخر مارس 2022، واتسمت بتكثيف روسيا هجماتها على كييف ومدن الشمال الأوكراني في مقاطعة خاركيف، مستهدفةً احتلال العاصمة وتغيير نظام حكم الرئيس فولوديمير زيلينسكي الموالي للغرب، والحؤول دون التحاق أوكرانيا بحلف الناتو؛ لما يتضمنه ذلك من تهديدٍ "حيوي" للأمن القومي الروسي. بيد أن تعثر العمليات العسكرية الروسية حول كييف، بسبب المشكلات اللوجستية والمقاومة الأوكرانية مدعومةً بمساعدات أمنية غربية وأمريكية هائلة؛ أدى إلى تغيير الكرملين لاستراتيجيته العسكرية؛ ما أفضى إلى دخول الصراع في مرحلته التالية.

وفي المرحلة الثانية، التي بدأت أواخر مارس واستمرت إلى آخر أغسطس 2022، برزت أهم معالم الاستراتيجية العسكرية الروسية المعدّلة. فالقيادة الروسية، وعلى رأسها الرئيس فلاديمير بوتين، أخذت في التركيز على استكمال السيطرة على إقليم الدونباس شرقي أوكرانيا، بمقاطعتيه لوهانسك ودونيتسك، وتأمين ممر أرضي في جنوب أوكرانيا يربط الإقليم بشبه جزيرة القرم، التي ضمتها روسيا عام 2014. وقد حققت روسيا نجاحًا كبيرًا في هذه المرحلة، تمثل في السيطرة الكاملة على مقاطعة لوهانسك في أواخر يوليو 2022، والتقدم العملياتي في مقاطعة دونيتسك مسيطرةً على نحو 80% من مساحتها، واحتلال أجزاء واسعة في الجنوب الأوكراني، بما في ذلك مدينة ماريوبول الساحلية ذات الأهمية الاستراتيجية البالغة، وفرض حصارٍ بحري على السواحل الأوكرانية على البحر الأسود وبحر آزوف. ومن ثم، شرعت موسكو في اتخاذ تدابير عملية لإجراء استفتاء شعبي في إقليم الدونباس وأجزاء من جنوب أوكرانيا؛ بغرض ضمها إلى روسيا. واتسم سلوك القوات الأوكرانية في هذه المرحلة برد الفعل، ومحاولة تعطيل التقدم الروسي في مقاطعتَي خيرسون وزابوروجيا الجنوبيتين، مع اتخاذ الاستعدادات اللازمة لشن هجومٍ مضاد.

وهكذا بدأت المرحلة الثالثة في أوائل سبتمبر عام 2023، مع بدء الهجوم الأوكراني المضاد ضد القوات الروسية في الشمال والجنوب، وإنْ ركّز على الجبهة الشمالية (مقاطعة خاركيف). وقد حققت القوات الأوكرانية نجاحًا كبيرًا؛ حيث استعادت أراضي كبيرة في مقاطعة خاركيف، بما في ذلك مدينة خاركيف، في غضون أيام.  وفي الجنوب، تمكنت القوات الأوكرانية من استعادة مدينة خيرسون غرب نهر دنيبرو، وهي العاصمة الإقليمية الأوكرانية الوحيدة التي استولت عليها روسيا في المرحلة الثانية من الحرب. وبلغت مساحة الأراضي التي استعادتها القوات الأوكرانية نحو 10 آلاف كيلو متر مربع. وبالمقابل، اضطرت القوات الروسية إلى الانسحاب إلى خطوطٍ خلفية أكثر تأمينًا، فانسحبت على عجل عبر نهر دنيبرو، واتسم سلوكها إجمالًا بالطابع الدفاعي.

وكانت أولى النتائج المباشرة للهجوم الأوكراني المضاد هو اقتصار القتال على جبهتي الشرق والجنوب، بعد أن أصبحت الجبهة الشمالية في يد القوات الأوكرانية. ولكن ما لبث القتال أن تحول إلى حالة من الجمود والاستنزاف على طول خطوط المواجهة. بيد أن أهم النتائج التي تمخضت عنها هذه المرحلة هي تصميم الكرملين على الإسراع بضم إقليم الدونباس ومقاطعتي خيرسون وزابوروجيا إلى روسيا الاتحادية، وهو ما تم في أواخر سبتمبر 2022. وربما باستثناء كوريا الشمالية وبيلاروسيا، لم يحظَ ضم المقاطعات الأوكرانية الأربع بأي تأييد دولي؛ ولاسيما من جانب الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين. ودانت الجمعية العامة للأمم المتحدة بأغلبية كبيرة الإجراءات الروسية وطالبت موسكو بعكس مسارها بشأن "محاولة الضم غير القانوني"، بعد استخدامها حق النقض ضد مشروع قرار مماثل في مجلس الأمن. وسارعت كثيرٌ من الدول والمؤسسات الغربية إلى فرض عقوبات اقتصادية جديدة على موسكو من جهة، وإعلان زيادة مساعداتها العسكرية لكييف من ناحية أخرى.

وفي أوائل يونيو 2023، شنت أوكرانيا هجومًا مضادًا "آخر" ركز على مقاطعتي دونيتسك وزابوروجيا، اللتين تُمثّل "الممر البري" إلى شبه جزيرة القرم. وكان الهدف من الهجوم تحرير مناطق واسعة من الأراضي المحتلة، والوصول إلى ساحل بحر آزوف غرب ماريوبول، وتقسيم القوات الروسية في جنوب أوكرانيا إلى قسمين عن طريق قطع اتصالها البري الوحيد؛ ومن ثم تغيير مسار الحرب. بيد أنّ القوات الأوكرانية واجهت مقاومة شديدة من الدفاعات الروسية الحصينة، وتكبدت خسائر فادحة نتيجة التفوق الجوي وحقول الألغام. والواقع أنّ الهجوم المضاد الأوكراني لم يحقق أهدافه، حيث استولت القوات الأوكرانية على عدد قليل فقط من القرى (14 قرية في المقاطعتين المذكورتين)، وتوقف من دون تأمين أي مكاسب إقليمية كبيرة، وإن كثفت هجماتها على الجسور المؤدية إلى شبه جزيرة القرم والسفن الروسية في البحر الأسود، وشنت هجمات بالمسيرات داخل الأراضي الروسية، بما في ذلك موسكو نفسها. وكانت إقالة القيادات العسكرية الأوكرانية، ولاسيما وزير الدفاع ورئيس الأركان، دليلًا على فشل الهجوم الأوكران. وعادت حالة الاستنزاف والجمود لتهيمن على الوضع العسكري.

وبرغم أن التقييم العام لهجوم صيف 2023 كان فاشلًا، فإنّ جبهة البحر الأسود (بما في ذلك شبه جزيرة القرم) مثّلت أهم مظاهر نجاح القوات الأوكرانية. فقد استمرت الهجمات الجوية (بالمسيرات) والصاروخية الأوكرانية على القرم برغم تكرار التحذيرات الروسية بأنّ الهجوم على القرم خط أحمر. وتمكنت أوكرانيا من إغراق عددٍ من السفن الحربية الروسية في البحر الأسود، وتنفيذ هجمات مؤثرة على الأصول اللوجستية البحرية والجوية الروسية في منطقة بحر آزوف. وقد جعلت الهجمات الأوكرانية من الصعب على البحرية الروسية الحفاظ على وجودها في شمال غرب البحر الأسود، وأجبرتها على سحب الجزء الأكبر من أسطولها من شبه جزيرة القرم إلى الموانئ الروسية الآمنة نسبيًّا في الجزء الشرقي من البحر. وهذا من شأنه إعاقة القدرة الروسية على قصف الأراضي الأوكرانية باستخدام السفن الحربية التابعة لأسطول البحر الأسود، فضلًا عن تعطيل الخدمات اللوجستية للقوات الروسية في شبه جزيرة القرم وجنوب أوكرانيا. كما أنّ الهجمات البحرية الأوكرانية مكّنت كييف من كسر الحصار المفروض على موانئها على البحر الأسود واستئناف صادراتها؛ ولاسيما صادرات الحبوب إلى الخارج باستخدام طريق جديد يعانق الساحل الجنوبي لأوكرانيا. وتمثل إعادة فتح ممرات الشحن التجارية للصناعة الزراعية الواسعة في البلاد شريان حياة مالي لأوكرانيا، التي تكافح من أجل الحفاظ على اقتصادها المنهك وتمويل المجهود الحربي. كما أدت هجمات القوات الأوكرانية على الأصول اللوجستية البحرية والجوية الروسية في منطقة بحر آزوف إلى انخفاض وتيرة عمليات الطيران التكتيكي الروسي في المنطقة.

ومنذ بداية هذا العام، أخذت القوات الروسية زمام المبادرة، وتُكثف عملياتها الهجومية على طول محور لوهانسك-خاركيف ومقاطعة دونيتسك، فيما يبدو أنه هجوم شتاء-ربيع 2024؛ بهدف عكس المكاسب الأوكرانية التي تحققت في صيف 2023، والاستيلاء على أراض جديدة في إقليم الدونباس (الاستيلاء على ما تبقى من مقاطعة لوهانسك)، والتوجه غربًا إلى شرق خاركيف وشمال دونيتسك؛ وهو ما يقودنا إلى تحليل الوضع الراهن.

ثانيًا- تحليل الوضع العسكري الراهن:

تحولت الحرب، في الأشهر الأخيرة، إلى نمطٍ من الاستنزاف المتبادل، وتجمدت خطوط القتال أو أصبحت شبه متجمدة على مدى خطوط المواجهة التي يبلغ طولها نحو 600 ميلًا، حيث لا يبدو أن القوات الروسية أو الأوكرانية لديها القدرة على تحقيق اختراق كبير. بتعبير آخر، هناك اشتباكات مستمرة على جميع الجبهات، فيما يشبه الحرب الموضعية، ولكن من دون تغيير خريطة السيطرة على الأرض، التي من أهم معالمها سيطرة روسيا على نحو 18% من مساحة أوكرانيا، بما في ذلك شبه جزيرة القرم.

ويشبه الوضع الحالي حرب الخنادق غير الحاسمة في الحرب العالمية الأولى، ولكنه يتخذ صورةً حديثة منها؛ إذ يُوظف الطرفان تكتيكات غير تقليدية في الحرب، منها الطائرات المسيّرة (حرب مسيرات روسية-أوكرانية)، وتكتيكات حرب العصابات أو الحرب اللامتماثلة عامةً.

وقد بلغ حجم الخسائر البشرية من جراء القتال نحو 530 ألف قتيل وجريح؛ جلهم من العسكريين (≈ 500 ألف). وطبقًا لعددٍ من المصادر، تزيد الخسائر الروسية: ≈ 349 ألف قتيل وجريح عن نظيراتها الأوكرانية (209,300 قتيل وجريح)، وإن فاقت خسائر المدنيين الأوكرانيين (29,300 بين قتيل وجريح) نظرائهم الروس الذين لا يكادون يبلغون المئة. وتفسّر زيادة حجم الخسائر البشرية العسكرية؛ ولاسيما أعداد الجرحى، باتباع الطرفين استراتيجيات مشابهة للحرب العالمية الأولى (كتل بشرية في مواجهة الأخرى). وتشير الطبيعة الاستنزافية للصراع إلى أن تدفق الجرحى سيستمر؛ ما يعكس عدم تغير التكتيكات العسكرية لطرفي الحرب. ويقدر عدد اللاجئين في أوروبا بـنحو 6.5 ملايين. ويتوزع اللاجئون في ألمانيا، التي تعدّ الوجهة الرئيسية، وبولندا وألمانيا وجمهورية التشيك وروسيا ومولدوفا ورومانيا وسلوفاكيا والمجر وغيرها.

ولكن زخم الصراع، في الفترة الأخيرة، تحول لمصلحة موسكو التي تمتلك حاليًّا زمام المبادرة في معظم مسرح الحرب، ربما باستثناء الجبهة الجنوبية؛ ولاسيما مقاطعة خيرسون، وتتّسم قدراتها العسكرية بالاستدامة النسبية، وتواصل هجماتها الصاروخية وبالمسيّرات لإرباك الدفاعات الجوية الأوكرانية. وقد حققت القوات الروسية مكاسب تكتيكية على محور خاركيف-لوهانسك ومقاطعة دونيتسك، كان أكبرها من الناحية الرمزية هو السيطرة على مدينة أفدييفكا القريبة من مدينة دونيتسك معقل أنصار روسيا، قبل أيام من حلول الذكرى السنوية الثانية لاندلاع الحرب في 24 فبراير.

وتواصل القوات الروسية الضغط على الدفاعات الأوكرانية المنهكة في محاور متعددة من خط المواجهة في مقاطعات دونيتسك ولوهانسك وزابوروجيا، ويمكنها تأمين مزيدٍ من المكاسب التكتيكية في الجبهة الشرقية ومحور لوهانسك-خاركيف. ولكن من غير المرجح أن تكون قادرة على الاستيلاء على المزيد من الأراضي في مقاطعة خاركيف والتقدم نحو الحدود الإدارية لإقليم لوهانسك ودونيتسك. بتعبير آخر، فإنّ تواصل العمليات الهجومية للقوات الروسية وتقدمها لا يعني تحقيقها مكاسب عملياتية، ولكنها تجبر أوكرانيا على تخصيص قوات وعتاد لأغراض الدفاع. ولم تثبت القوات الروسية حتى الآن قدرتها على تأمين مكاسب كبيرة على المستوى العملياتي للحرب، تؤثر في قطاعات كبيرة من خط المواجهة، أو إجراء مناورة ميكانيكية سريعة عبر مساحات واسعة من الأراضي.

ومن ناحية أخرى، فإنّ هجمات القوات الأوكرانية على الأصول اللوجستية البحرية والجوية الروسية في منطقة بحر آزوف أدت إلى انخفاض وتيرة عمليات الطيران التكتيكي الروسي هناك. كما اضطرت موسكو إلى إجلاء المئات من سكان بيلغورود مع توالي الهجمات الأوكرانية على المقاطعات الحدودية الروسية. وقبيل الانتخابات الرئاسية (مارس 2024)، نشرت روسيا مزيدًا من قوات الحرس الوطني في المقاطعات الأوكرانية المحتلة، وتواصل جهود دمجها، بما في ذلك تخصيص مراكز اقتراع انتخابي بها حتى يتسنى للقاطنين فيها بالتصويت في الانتخابات.

وبالنسبة إلى حالة القوات الأوكرانية، فهي تُعاني الإرهاق، ونقص في المجندين المدربين تدريبًا جيدًا، وفي الأسلحة والذخائر والمعدات العسكرية، وتضاؤل الاحتياطيات. وتواجه أوكرانيا تحديات في تجديد قواتها واستبدال الفرق المُنهكة بمجندين جدد. وتزداد التحديات في ظل تراجع المساعدات الأمنية الغربية والهجوم الروسي المتواصل. وتتمثل المشكلة الحاسمة في استنفاد احتياطيات الذخيرة، ما يجبر القادة على تقنين الإمدادات، وإعادة جدولة المهام العسكرية. ولا تستطيع القوات الأوكرانية استئناف عمليات هجومية واسعة النطاق، بل تتخذ أوضاعًا دفاعية على طول جزء كبير من خط المواجهة، وإن شنت هجمات جوية بالمسيّرات وصاروخية على الأراضي الروسية وشبه جزيرة القرم، وواصلت عملياتها البرية في الضفة الشرقية لمقاطعة خيرسون. وقد تكبدت القوات الأوكرانية سلسلة خسائر فادحة، منذ أواخر العام الجاري، بسبب تمتع الأخيرة بميزات كبرى في القوى البشرية والعتاد.  كما تواجه القوات الأوكرانية، بصفةٍ خاصة، "نقصًا خطيرًا" في صواريخ الدفاع الجوي. وقد يؤدي تأخير المساعدات الأمنية الغربية إلى تفاقم المشكلات الكبيرة التي تواجهها الدفاعات الجوية الأوكرانية، وتشجيع القوات الروسية بتكرار الدعم الجوي المباشر الذي يسهّل تقدمها على نطاق واسع في أوكرانيا. وطبقًا لتقريرٍ نشرته صحيفة نيويورك تايمز في 9 فبراير، يُقدر المسؤولون الأمريكيون أن مخزون صواريخ الدفاع الجوي الأوكرانية سوف ينفد في مارس 2024 من دون تجديد إضافي عن طريق المساعدات الأمنية الغربية.

وفي مقابل تضاؤل الدعم العسكري الغربي لأوكرانيا، يبدو أن روسيا أمنت الحصول على مزيد من الصواريخ الباليستية والمدفعية والذخائر من إيران وكوريا الشمالية. ويلاحظ أن اتجاه روسيا نحو تدعيم شراكتها الدفاعية مع هاتين الدولتين يزيد من تأزيم علاقاتها بالدول الغربية، التي زادت درجة تأزمها مؤخرًا مع ترويج الأخيرة لتهديداتٍ روسية لدول الناتو؛ خاصة دول البلطيق والجبهة الشرقية للحلف، وتكرار القيادة الروسية لوم الناتو على استمرار الصراع.

ثالثًا- سيناريوهات الحرب في عام 2024:

وتأسيسًا على استقراء مسار تطور الحرب، وتحليل وضعها الراهن، تم تطوير ثلاثة سيناريوهات للحرب في عام 2024، كما يأتي:

السيناريو الأول- حرب استنزاف وجمود خطوط القتال

من غير المرجح أن تنتهي الحرب قريبًا، بل إنّ حرب استنزاف تنتظر البلدين في عام 2024، وقد تستمر إلى أجل غير مسمى في المستقبل. كما يرجّح أن يظل الجمود مكتنفًا الوضع العسكري العام لعامٍ آخر على الأقل. فأوكرانيا ليست قادرة على شن هجمات واسعة النطاق، فضلًا عن أن تكون قادرة على إخراج روسيا من أراضيها، في حين أن روسيا لن تحقق أهدافها كاملة، ولكنها قد تحقق جزءًا منها. بتعبير آخر، لا يستطيع أي من الطرفين تحقيق اختراق برغم استمرار القتال. والدليل على ذلك أنه بعد ما يقرب من عامين، تم تغيير السيطرة على مساحة صغيرة من الأراضي.

ولكن في ظل التقدم التكتيكي الحثيث للقوات الروسية سواء في مقاطعة دونيتسك أو في محور لوهانسك-خاركيف منذ بداية العام الجاري، يُتوقع أن تكون السنة الثالثة صعبة على القوات الأوكرانية "المنهكة"، التي تحاول إعادة تنظيم صفوفها وبناء قواتها خلال العام الحالي، وتحولت استراتيجيتها العسكرية إلى الوضع الدفاعي.

والواقع أن تصورات الأطراف الرئيسية وغير الرئيسية للحرب تُسهم في إطالة أمدها.

وبرغم تراجع الدعم العسكري الغربي، فقد جددت الدول الغربية تعهدات ضخمة دعمها العسكري لأوكرانيا. وفي هذا الخصوص، تم إعلان "حزمة دفاع بولندية جديدة" لأوكرانيا، وتحالف "المدفعية لأوكرانيا" الذي بادرت فرنسا بتأسيسه، وتوقيع اتفاقات أمنية مع المملكة المتحدة وألمانيا وفرنسا (يناير-فبراير 2024)، تضمنت تعهدات بمساعدات عسكرية قيمتها أكثر من 13 مليار دولار عام 2024، مع التعهد بمواصلة دعم أوكرانيا "طالما اقتضى الأمر ذلك". وأعلنت بلجيكا خطة لتزويد أوكرانيا بنحو 663.4 مليون دولار في عام 2024. وأقر الاتحاد الأوروبي حزمة مساعدات إضافية لأوكرانيا بقيمة 54 مليار دولار لمدة أربع سنوات ضمن خطة تمويل "ثابت وطويل المدى". كما أعلنت الدنمارك، في 18 فبراير 2024، التبرع "بمدفعيتها بالكامل" لأوكرانيا.  إضافة إلى إعلان لاتفيا وإستونيا مساعداتٍ عسكرية لأوكرانيا. سوف تتلقى أوكرانيا من دولٍ غربية عددًا من مقاتلات F-16 في الربع الثاني 2024. وسوف تمثل تحسنًا في القدرة الجوية الأوكرانية. ولكن لا يُتوقع أن يكون لها تأثير على فرص انتصار أوكرانيا.

وفي هذا السياق يؤكد خبراء كثر، من الجانبين، أن الحرب الروسيّة-الأوكرانية تتوافر بشأنها عناصر استراتيجية الحرب طويلة الأمد والمفتوحة، ممثلة في: تزويد أوكرانيا بالأسلحة والذخيرة والتدريب والمعلومات الاستخباراتية التي تحتاج إليها للدفاع عن نفسها ضد روسيا، والتأكد من أن حلف الناتو لا يزال قويًّا بما يكفي لردع روسيا عن تصعيد الصراع، أو إعاقة وصول الإمدادات إلى أوكرانيا. وفي المقابل، لا تزال النخبة الـروسـيـة الرئيسة تـرى أن حربها وجـوديـة من أجل بقاء الدولة ذاتها. وتشير تقديرات غربية عديدة إلى أنه "لا يوجد في روسيا من يدعم أي شكل مـن أشـكـال الـتـنـازلات الإقليمية مـن خلال عملية تفاوضية، وأن النخب في البلاد لن تجرؤ على الانقلاب على "بوتين"، الذي بالرغم من إخفاقاته، يظل الرهان الأفضل لهم للحفاظ على النظام والأمن.

السيناريو الثاني- التسوية السياسية

لا تبدو محادثات السلام بين روسيا وأوكرانيا واقعية أو مؤكدة حاليًّا، ولا توجد حتى مؤشرات على رغبة الطرفين في التفاوض؛ في ظل تمسكهما بشروطهما "القصوى" وعدم استعدادهما لتقديم أي تنازلات إقليمية تسمح بإجراء محادثات. بل إنّ كلتا القيادتين لن تفكر في التوصل إلى اتفاق سلام؛ لأنه ليس مفيدًا سياسيًّا. ففي مقابلته، أكّد الرئيس فلاديمير بوتين أنه يرغب في الوصول إلى حل دبلوماسي للحرب، ولكن بشروطه الخاصة.

كما أنّ تصور القيادتين الروسية والأوكرانية للصراع يطرح مضامين سلبية على احتمالات التسوية السلمية. فالرئيس بوتين لا يزال يعتقد أنّ أوكرانيا دولة مصطنعة "غير حقيقية"، مكونة من أراضٍ تابعة للدول المجاورة، وأنّ جزءًا كبيرًا من أراضيها انتزع من روسيا؛ ولاسيما إقليم الدونباس والقرم، ولا توجد قومية أو أمة أوكرانية. ومؤخرًا عبّر بوتين عن تصورٍ جديد مفاده أنّ الحرب صراع جيوسياسي وجودي ضد فاعلين دوليين نازيين، على رأسهم الولايات المتحدة والغرب. من جانبه، يرى الرئيس زيلينسكي روسيا دولة إرهابية، وأنّ أوكرانيا تكافح نيابةً عن أوروبا العدوان الروسي الذّي لن يتوقف عند حدود أوكرانيا.

ولعل السلوك السابق يشير إلى ذلك؛ فقد فشلت محادثات السلام الروسية-الأوكرانية في تركيا (مارس-إبريل 2022) في تحقيق أي تقدم بشأن وقف إطلاق النار، كما لم تؤد خطة زيلينسكي للسلام ذات النقاط العشر (نوفمبر 2022) أو خطة السلام الصينية في أوكرانيا المكونة من 12 نقطة (مطروحة منذ فبراير 2023) إلى حدوث اختراق في دفع الطرفين إلى مائدة التفاوض. وكذلك فشلت مهمة السلام التي نفذها قادة من سبع دول أفريقية.

وبالرغم من نجاح صفقة تبادل الأسرى بين روسيا وأوكرانيا بوساطة إماراتية في بداية شهر يناير 2024، وهي الصفقة الأكبر منذ بدء الحرب، فإنّ الاتهام الروسي لكييف بإسقاط طائرة عسكرية روسية تُقلّ أسرى أوكرانيين وعسكريين روس، في منطقة بيلغورود الحدودية في أواخر الشهر المذكور؛ وهو الحادث الأكثر دموية منذ بداية الحرب، يُعقّد الآفاق المستقبلية لتبادل الأسرى.

بل إن سيناريو الجمود الدبلوماسي المطول، الذي ينتج عنه فعليًّا صـراع مجمد جديد مستدام، وهو السيناريو السائد في شبه الجزيرة الكورية أو الجزيرة القبرصية، يستبعده الخبراء بسبب تمسك الطرفين بمطالبهما القصوى.

السيناريو الثالث- انتصار روسيا

يرى عدد من الخبراء أنّ تحول الحرب إلى نمط الاستنزاف، برغم أنّه يفرض تكاليف باهظة على كلا الجانبين، سيكون بمرور الوقت لمصلحة روسيا. صحيح أنّ القاعدة الصناعية الدفاعية الروسية لا تستطيع التعويض عن معدلات خسارة المعدات في أوكرانيا، ولكنها قادرة على استبدال معداتها بسرعة أكبر من معدل استعداد الغرب لمساعدة أوكرانيا. ويواصل الكرملين تعزيز جهود روسيا لتوسيع قاعدتها الصناعية الدفاعية.

بتعبير آخر، تعني حرب الاستنزاف انتصار روسيا، في الوقت الحالي على الأقل؛ فأوكرانيا لا تستطيع مواجهة روسيا أو التغلب عليها في حرب استنزاف من دون تكثيف المساعدات الأمنية الغربية، سواء في صورة معدات أو تدريب، وزيادة قدرة الدول الغربية نفسها بشكل كبير على إنتاج معدات دفاعية رئيسية، وتنفيذ القوات الأوكرانية عملًا هجوميًّا ـ وهذه ليست مهام سهلة، فهي تتطلب سنوات من الالتزام السياسي ومستوى مرتفعًا من الإنفاق المستدام.

إضافة إلى ذلك، استهلت القوات الروسية هذا العام بهجومٍ متواصل في مقاطعة دونيتسك وعلى محور لوهانسك-خاركيف، كما سبق أن أوضحنا، ونجحت في تحقيق مكاسب تكتيكية، ويمكنها مراكمة هذه المكاسب. وتمتلك القوات الروسية القوة البشرية والعتاد اللازمين للحفاظ على وتيرة ثابتة للهجمات طوال عام 2014. كما أنّ التفوق الجوي الروسي، وإن كان متقطعًا ومحدودًا، من شأنه تشجيع القوات الروسية على مواصلة الهجوم، وإجراء عمليات طيران روتينية واسعة النطاق وقصف المدن الأوكرانية خارج خط المواجهة لإحداث تأثير مدمر، أي أنه على الرغم من التحديات، فإن القدرات والموارد الهجومية لروسيا تمنحها ميزة استراتيجية؛ ما قد يؤدي إلى نتيجة حاسمة في الصراع.

ويدعم هذا السيناريو تضاؤل الدعم العسكري الغربي لأوكرانيا؛ فإذا لم تحصل أوكرانيا على مساعدات عسكرية قريبًا، فقد تنقلب ديناميكيات الصراع بشكل حاسم لمصلحة روسيا. ولكن يبدو أن الزخم لدعم أوكرانيا يتضاءل، وخاصة أن اندلاع حرب غزة أدى جزئيًّا إلى تقليل الاهتمام الدولي بحرب أوكرانيا. وبصفةٍ عامة، فإنّ الانقسامات الداخلية المتنامية في الغرب إزاء الحرب في أوكرانيا والافتقار إلى العزيمة والتفكير الاستراتيجي لضمان انتصار أوكرانيا هي السمة المميزة لعام 2024. من دون الحديث عن أنّ المشكلات والعوائق الرئيسة تواجهها القوات الأوكرانية، من نقص المقاتلين والأسلحة والذخيرة ووسائل الدفاع الجوي، كما أوضحنا أعلاه؛ تعزز التقدم الروسي الراهن.

كما أنّ الاقتصاد الروسي مكرس بالكامل للمجهود الحربي، ولم تنجح محاولات الغرب لعزله تمامًا، وفشلت العقوبات الغربية في إخراجه عن مساره. فبعد تراجع النمو الاقتصادي إلى الصفر تقريبًا مع بداية الحرب، سجل الناتج المحلي الإجمالي نمواً حقيقياً بلغ 1.1% عام 2023، ومن المتوقع أن يبلغ 2.6% خلال العام الجاري. فقد حولت روسيا معظم صادراتها من الغاز من أوروبا إلى الصين، التي وصلت إلى مستوى قياسي بلغ 22.7 مليار متر مكعب في 2023.

وهناك متغيرات عديدة تدفع في اتجاه عكسي، أهمها التعهدات الغربية الهائلة بمزيدٍ من المساعدات الأمنية لأوكرانيا، كما أوضحنا أعلاه، وأنّ القوات الروسية لا تستطيع تحقيق مكاسب عملياتية أو إجراء مناورة ميكانيكية سريعة عبر مساحات واسعة من الأراضي. كما أن التفوق الجوي المؤقت والمحدود والمحلي للقوات الروسية خلال الفترة الأخيرة من عمليتها الهجومية في الجبهة الشرقية يجري تحديه من قبل الدفاع الجوي الأوكراني.

خاتمة:

سعت هذه الدراسة إلى استشراف آفاق تطور الحرب الروسية-الأوكرانية في عام 2024، عن طريق استقراء مسار تطور العمليات العسكرية منذ اندلاعها، وتحليل الوضع الميداني الراهن.

منذ أنْ شبت الحرب في فبراير 2022، اجتاز الصراع الروسي-الأوكراني أربع مراحل متميزة. وقد يلج في مرحلة خامسة ناشئة بدأت إرهاصاتها منذ بداية العام الحالي. في المرحلة الأولى (24 فبراير - أواخر مارس 2022)، فشلت القوات الروسية المهاجمة في تحقيق أهدافها المتمثلة في احتلال العاصمة كييف وتغيير النظام الأوكراني؛ ما دفعها إلى تعديل استراتيجيتها؛ لتبدأ المرحلة الثانية (أواخر مارس – أواخر أغسطس 2022)، التي ركزت فيها على إتمام السيطرة على إقليم الدونباس وتأمين ممر بري إلى شبه جزيرة القرم. وقد أكّد انطلاق الهجوم الأوكراني المضاد في أوائل سبتمبر 2022، الذّي استُهلت به المرحلة الثالثة، النتائج غير الحاسمة للقوات الروسية في الدونباس. وقد نجح الهجوم الأوكراني في استعادة أجزاء كبيرة من الأراضي المحتلة في شمال البلاد وجنوبها، ثم ما لبث أن فقد زخمه في أوائل نوفمبر 2022، وتحول القتال إلى نمطٍ من الاستنزاف وتجمدت خطوط المواجهة. ثم أطلقت أوكرانيا هجومًا مضادًا آخر في يونيو 2023، في الشرق والجنوب، ولكنه فشل إجمالًا، وإن تمكنت القوات الأوكرانية من اختراق الحصار الروسي على البحر الأسود وبحر آزوف. ومن ثم، عادت حالة الجمود والاستنزاف لتُهيمن على الوضع العسكري.

وبرغم شروع القوات الروسية منذ بداية العام الجاري في هجومٍ جديد في محور لوهانسك-خاركيف بخاصة، ما قد يؤشر إلى بداية مرحلة خامسة للصراع، فإن نمط الاستنزاف لا يزال مهيمنًا على الحرب، ولا تزال حالة الجمود سائدة على معظم جبهات القتال، وإن تحوّل زخم الصراع لمصلحة روسيا.

وتأسيسًا على استقراء مسار تطور الحرب، وتحليل وضعها الراهن، تم تطوير ثلاثة سيناريوهات للحرب في عام 2024، أولها يشير إلى استمرار الوضع الراهن من الاستنزاف العسكري وجمود خطوط القتال، وثانيها يقترح أن التسوية السلمية للصراع الروسي-الأوكراني هي البديل الأكثر واقعية ومواءمة لمصالح الطرفين المتحاربين، وثالثها يطرح احتمال انتصار روسيا، وهو الاحتمال الذي كان بعيدًا قبل أحداث الحرب في الأشهر الأخيرة.

وتُرجح هذه الدراسة أنّ نمط حرب الاستنزاف سوف يسود في عام 2024، وأن يظل الجمود مكتنفًا جبهات القتال لعامٍ آخر على الأقل، برغم الميزة النسبية التي تمتلكها القوات الروسية حاليًّا، والتقدم التكتيكي الذي تحرزه.