تعمقت الأزمة المالية للسلطة الفلسطينية منذ شهر أكتوبر/تشرين الأول 2023، إثر عملية طوفان الأقصى وما تبعها من عدوان وحرب إبادة جماعية صهيونية ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، إذ إنّ حكومة الاحتلال قررت اقتطاع المبلغ المرصود لقطاع غزة ضمن موازنة السلطة من أموال المقاصة التي تتحكم بها دولة الاحتلال، فما كان من السلطة الفلسطينية إلّا أن رفضت استلام أموال المقاصة منقوصة منها حصة غزة، فدخلت في أتون أزمة مالية خطيرة لم تمكنها من صرف سوى ثلاث دفعات من رواتب موظفيها على مدار 5 أشهر، وبنسب لا تتجاوز 60% في أفضل الأحوال، لتُضاف إلى تراكم لأزمة الرواتب للموظفين الحكوميين، والممتدة منذ عام 2019.
يسلط هذا التقرير الضوء على تصاعد الأزمات المالية للسلطة الفلسطينية، وأبرز مسبباتها والتبعات التي ستنتج عنها رسميًا وشعبيًا، ويحاول أن يجيب على السؤال المركزي: ما هي الدلالات والتبعات السياسية لمنهجية الاحتلال “الإسرائيلي” في إضعاف الاقتصاد الفلسطيني؟
أزمات متراكمة:
دخلت السلطة الفلسطينية منذ عام 2019 في دوامة من الأزمات المتعلقة بالمقاصة، والتي أنتجت لها أزمات مالية متلاحقة، أدت إلى عجزها عن دفع رواتب موظفيها بانتظام، ودفعها منقوصة بشكل شبه دائم طيلة الفترة الماضية، علمًا أنّ السلطة الفلسطينية كانت قد واجهت منذ تأسيسها أزمات مالية متعاقبة نتيجة توقف تحويل أموال المقاصة وتراجع الدعم الخارجي، إذ بلغ عدد مرات تعثر أو توقف تحويل أموال المقاصة إلى السلطة منذ عام 1997 وحتى مطلع عام 2024 بشكل كلي أو جزئي 10 مرات.
امتنعت السلطة الفلسطينية عن استلام أموال المقاصة في فبراير/شباط 2019، بعد مصادقة “الكنيست الإسرائيلي” على اقتطاع جزء منها، يعادل ما تدفعه السلطة من رواتب للأسرى وعوائل الشهداء، إذ بلغ حجم الاقتطاع 63 مليون شيكل شهريًا، لكنها عادت وقبلت باستلامها منقوصة في شهر أكتوبر/تشرين الأول من العام نفسه بسبب اشتداد الأزمة المالية التي تعاني منها.
استمرت هذه الأزمة 9 أشهر، اضطرت السلطة خلالها إلى دفع نسبة من رواتب موظفيها تراوحت بين 50 إلى 60%، ولم تكد تمضي 6 أشهر حتى عادت السلطة إلى رفض استلام أموال المقاصة مرة أخرى، ردًا على الإعلان الأمريكي مما سُمي “صفقة القرن”، وسعي الاحتلال إلى ضم مناطق (ج) في الضفة الغربية، إذ قررت السلطة وقف العمل بالتنسيق بشقيه الأمني والمدني مع دولة الاحتلال في أيار/مايو 2020، واستمرت هذه الأزمة قرابة 6 أشهر، صرفت خلالها السلطة لموظفيها ما نسبته 50% من الرواتب في معظم أشهر الأزمة، إلى أنها عادت إلى النزول عن الشجرة والإعلان عن عودة العلاقات إلى طبيعتها مع دولة الاحتلال في أواخر شهر نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه، بعد خسارة ترامب انتخابات الرئاسة الأمريكية، ما اعتبرته السلطة سقوطًا لـ”صفقة القرن” ومخطط ضم مناطق (ج).
ما إن تنفس الموظفون الصعداء، ومعهم بقية القطاعات الاقتصادية التي تأثرت بالتبعية بسبب هذه الأزمات، حتى عادت الأزمة المالية للسلطة لتطل برأسها من جديد، ولكن بوتيرة أخف، فقد بدأت السلطة بصرف ما نسبته 80% من قيمة رواتب الموظفين منذ شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2021، لتستمر هذه الأزمة حتى شهر سبتمبر/أيلول 2023، إذ جاءت هذه الأزمة تراكمًا للأزمات التي سبقتها، في ظل استمرار حكومة الاحتلال في اقتطاع جزء ثابت من أموال المقاصة الذي تقدّرها الحكومة الفلسطينية بـ 200 مليون شيكل شهريًا، إضافة إلى تراجع الدعم الخارجي العربي والدولي لموازنة الحكومة، إذ أخذ هذا الدعم في التراجع منذ عام 2013، والذي بلغ مليار و362 مليون دولار حينها، ليصل إلى حدود 540 مليون دولار عام 2023 كحد أقصى، أي ما نسبته قرابة 20% من حجم الموازنة فقط.
دخلت السلطة الفلسطينية في أزمة مالية خانقة منذ أكتوبر/تشرين الثاني 2023، بعد عملية طوفان لأقصى وما تبعها من عدوان وإبادة جماعية صهيونية ضد قطاع غزة، إذ اتخذت حكومة الاحتلال قرارًا بمنع تحويل مبلغ من أموال المقاصة يوازي ما تدفعه الحكومة الفلسطينية للقطاع، يقدّر بحوالي 270 مليون شيكل شهريًا، بعد أن طالب وزير مالية الاحتلال “بتسلإيل سموتريتش” بعدم تحويل أموال المقاصة كاملة إلى خزينة السلطة، فرفضت السلطة الفلسطينية استلام الأموال دون حصة غزة.
شكل قرار عدم استلام الأموال دون حصة غزة زيادة في أزمات السلطة المالية المتراكمة، فوفقًا لوزارة المالية الفلسطينية فإنّ حجم المبلغ المقتطع يبلغ 600 مليون شيكل شهريًا، ولا بُدّ هنا من الإشارة إلى أنّ الأرقام المتعلقة بحجم الاقتطاعات قبل اقتطاع حصة غزة متضاربة، إذ تقول الحكومة الفلسطينية إنّ حجم الاقتطاعات الشهرية من أموال المقاصة قد بلغ 100 مليون شيكل شهريًا، في حين أنّ هناك تصريحات أخرى تقول بأنّ حجم الاقتطاع قد بلغ 200 مليون شيكل شهريًا، غير أنّ مسحًا لمنصة “المنقبون” أظهر أنّ حجم الاقتطاعات “الإسرائيلية” من المقاصة خلال عام 2022 قد بلغ 2.68 مليار شيكل، إذ بلغ حجم أموال المقاصة في ذلك العام 11.5 مليار شيكل، مسجلًا ارتفاعًا غير مسبوق، إلّا أنّ ما حصلت عليه السلطة هو 8.82 مليار شيكل فقط، نتيجة الاقتطاعات المستمرة، وبتوزيع حجم الاقتطاعات على أساس شهري يظهر أنّ حجمها يبلغ 200 مليون شيكل أو أزيد بقليل شهريًا.
يبلغ متوسط أموال المقاصة شهريًا 950 مليون شيكل، في حين لا تتلقى السلطة إلّا 750 مليون نتيجة الاقتطاعات، وفي حال استلام السلطة للمقاصة المقتطعة منها 600 مليون شيكل -حسب ما أفادت وزارة المالية- فذلك يعني أنّ ما تستلمه السلطة لن يتجاوز 350 مليون شيكل شهريًا، وهذا ما سيعمّق الأزمة المالية ويجعل السلطة غير قادرة على دفع أكثر من 50% من فاتورة رواتب موظفيها على أحسن حال.
من ناحية أخرى، فالحكومة الفلسطينية كانت على جميع الأحوال ستقلص أو حتى توقف ما تدفعه لقطاع غزة لأسباب موضوعية، فما تدفعه السلطة لغزة يوازي ما تحصل عليه من إيرادات من القطاع نفسه، من خلال أموال المقاصة التي تُجبى على السلع الواردة للقطاع، والضرائب التي تجبيها من الشركات الفلسطينية التي لها فروع فيه، كالبنوك وغيرها، وفي ظل حرب الإبادة الجماعية التي تشنها دولة الاحتلال على قطاع غزة فقد انهار فعليًا كل النشاط الاقتصادي في القطاع، ما يعني أنّ السلطة لن تجني إيرادات من القطاع، وستكون مضطرة إمّا إلى تقليص نفقاتها، سواء في الضفة أو القطاع، أو التوقف التام عن تحويل أيّ نفقات إلى القطاع، ما يعني أنّ السلطة الفلسطينية على الحالتين، سواء استلمت المقاصة منقوصة أم لا، فهي ستواجه أزمة مالية خانقة.
هل هي أزمة عابرة؟
من خلال تتبع مسارات الأزمات المالية للسلطة الفلسطينية واستمراريتها، لا سيما خلال السنوات الخمس الماضية، يمكن الاستنتاج أنّ الأزمة المالية الحالية غير متعلقة بظروف العدوان فقط، ولذلك لا توجد حلول جذرية فورية لأزمة السلطة المالية، التي تنبع من أزمة أموال المقاصة المستمرة وتراجع الدعم الخارجي، إذ إنّ حكومات الاحتلال المتعاقبة أصبحت تعتمد أسلوب الاقتطاع من أموال المقاصة سياسةً عقابية، لا ضد السلطة وحدها، وإنما ضد الفلسطينيين بشكل عام في الضفة والقطاع، والملاحَظ أنّ سياسة الاقتطاع لم تعد إجراءً عقابيًا فحسب، وإنما أصبحت قضية تحظى بإجماع صهيوني، تُستخدم في إطار الصراعات السياسية في دولة الاحتلال، ولا تنحصر فقط فيما يقتطعه الاحتلال مقابل ما تدفعه السلطة للأسرى وعوائل الشهداء، وإنما تشمل جوانب متعددة، إلى درجة أنّ حكومة الاحتلال قررت اقتطاع مبالغ مالية لتعويض بعض العملاء الذين سجنتهم السلطة خلال الانتفاضة الثانية.
استمرت وتصاعدت عملية الاقتطاع من أموال المقاصة خلال ولاية حكومة “بينت –لابيد” (2021-2022)، التي ضمت بين أقطابها شخصيات تُعد “معتدلة” مثل “بني غانتس”، الذي كانت له زيارات متبادلة مع الرئيس محمود عباس، إذ قررت تلك الحكومة في شهر يوليو/تموز 2021 اقتطاع مبلغ 597 مليون شيكل من المقاصة، يوازي ما دفعته السلطة من رواتب للأسرى وعوائل الشهداء عام 2020، وقد كان “غانتس” هو المبادر لهذا القرار، وهو نفسه الذي كان يلتقي بالرئيس عباس ويحاول تقديم بعض التسهيلات الحياتية للفلسطينيين، ما يعطي تصورًا مستقبليا بأنّ أزمة المقاصة ستستمر، حتى وإن ذهبت حكومة “نتانياهو” وحلفائه، وأتت حكومة بزعامة “بني غانتس”، صاحب الشخصية التي تحظى بأعلى نسب التأييد في استطلاعات الرأي “الإسرائيلية”.
من ناحية أخرى، من المتوقع أن يستمر ويتزايد تراجع الدعم الخارجي، في ظل ما شهدناه خلال السنوات الماضية من تراجع مستمر عربيًا ودوليًا، ولعلّ الحملة الغربية ضد وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، وإعلان 14 دولة غربية تعليق أو تجميد مساهمتها المخصصة لها، تحت ذرائع واهية تتعلق بمشاركة بعض موظفيها في عملية “طوفان الأقصى”، هي مؤشر على استمرار توجه إيقاف الدعم الخارجي أو تقليله إلى أبعد حدود، كنوع من الابتزاز السياسي، ولكن من حيث المبدأ فالدعم الخارجي للموازنة بشكل عام ليس حلًا للأزمات الاقتصادية والمالية، لا سيما وأنّ نصف موازنة السلطة الفلسطينية يذهب للأجور والرواتب، بمعنى أنه لا يستغل لإحداث تنمية وخلق مشاريع تطويرية تساهم في خلق موارد مالية مستقلة للسلطة، والملاحظ أنّ هناك أزمات اقتصادية ومالية مر ويمر بها العالم في السنوات الأخيرة، ما يعني أنّ هذه الأزمات ستجبر الدول على تقليل الدعم أو إيقافه، حتى تلك الدول الراغبة في تقديم الدعم، وعليه، فالارتهان أو التعويل على الدعم الخارجي، دون تطبيق إجراءات تقشفية وخطوات تنموية، لن يساهم على المدى المنظور في حل الأزمة المالية المستمرة، وما سيأتي من دعم، بغض النظر عن حجمه، لن يكون إلّا بمنزلة مسكنات للمرض، وليس علاجًا جذريًا له.
جذور الأزمة:
تُعد الأزمة المالية للسلطة الفلسطينية عرضًا للأزمة الأساسية، التي تتمثل في تبعية الاقتصاد الفلسطيني كلية للاقتصاد “الإسرائيلي”، وهذه التبعية ناتجة عن وجود الاحتلال وسيطرته على الأرض والموارد والمعابر والحدود، وربطه للاقتصاد الفلسطيني باتحاد جمركي مع الاقتصاد “الإسرائيلي” بناء على برتوكول باريس الاقتصادي 1994، وما يعنيه ذلك هو عدم وجود اقتصاد فلسطيني حقيقي، وإنما مجرد سوق استهلاكية معتمدة على الاستيراد الكثيف للسلع والبضائع، دون وجود أيّ قطاع إنتاجي حقيقي يمكن أن يشكّل موردًا مستقلًا للدخل.
ساهمت السياسات المالية للسلطة الفلسطينية في تعميق أزمتها المالية واستمرار ارتهانها للتحكّم “الإسرائيلي” في أهم مورد من إيرادات الموازنة، وذلك من خلال:
تحول السلطة الفلسطينية إلى أكبر مُشغِّل في الأراضي الفلسطينية:
بلغ عدد من هم ضمن القوى العاملة في الضفة الغربية عام 2022 قرابة 976 ألف نسمة، وبالنظر إلى حجم الزيادة السنوية في عدد من يدخلون ضمن القوى العاملة، فالمتوقع أنه في عام 2023 قد أصبح مليون نسمة ضمن القوى العاملة في الضفة، ويبلغ عدد العاملين من بينهم قرابة 848 ألف نسمة، أي أنّ نسبة البطالة تقارب 13% حتى عام 2022 حسب بيانات الجهاز المركزي للإحصاء، وتشغّل السلطة من بينهم 144 ألف موظف مدني وعسكري، ويرتفع عدد من يحصلون على رواتبهم من السلطة إلى قرابة 250، بما يشمل المتقاعدين وأصحاب المخصصات الاجتماعية ومخصصات الأسرى عوائل الشهداء.
نمت فاتورة رواتب السلطة السنوية بنسبة 75% منذ عام 2013، الذي كانت فيه قيمة الرواتب تساوي 2.1 مليار دولار سنويًا، وصولًا إلى عام 2023 الذي بلغت فيه قيمة الرواتب 3.67 مليار دولار، والملاحظ أنّ موازنة السلطة تشهد تصاعدًا في السنوات الأخيرة، حتى بلغت 6.179 مليار دولار عام 2023، بعد أن كانت 4.21 مليار دولار عام 2013، ويمكن الاستنتاج بسهولة أنّ الزيادة في حجم الموازنة تساوي تقريبًا نفس الزيادة في جحم الرواتب السنوية، وهذا يعني أنّ قرابة نصف موازنة السلطة مخصص للرواتب فقط.
كان عدد موظفي السلطة الفلسطينية عند نشأتها 39 ألف موظف مدني وعسكري، ولكن هذا العدد أخذ يتضاعف مع الوقت، حتى بلغ عام 2007 180 ألف موظف، ومع أنّ حكومة رئيس الوزراء الأسبق سلام فياض اتخذت خطوات لتقليص هذا العدد ليبلغ 150 موظف مع نهاية عام 2007، إلّا أنّ عددهم عاد ليبلغ 180 ألفا مع نهاية ولاية فياض عام 2013، موزعين على الضفة الغربية وقطاع غزة (استمرت السلطة في دفع رواتب الموظفين المستنكفين في قطاع غزة على إثر الانقسام)، ومع أنّ عدد الموظفين شهد انخفاضًا في السنوات اللاحقة، فهذا يعود إلى حملات التقاعد المبكر وإجبار موظفين في القطاع على التقاعد للتخفف من أعبائهم المالية، غير أنّ عدد موظفي السلطة والمستفيدين من رواتبها ظلّ عددًا ضخمًا بما لا يتناسب مع حاجتها ولا إمكانياتها، إذ اعتمدت السلطة الفلسطينية في سياستها التوظيفية مبدأ “تسييس الوظيفة العمومية” منذ بداياتها للحفاظ على قاعدتها، وشراء الولاءات وخلق طبقة زبائنية مرتبطة بالسلطة وظيفيا، في غياب لمعايير الكفاءة والحاجة في عملية التوظيف، على الرغم من استمرار الأزمات المالية والحاجة الملحة لاتخاذ إجراءات تقشفية، وهذا الأمر يساهم في تعقيد الأزمة المالية المستمرة التي تعاني منها السلطة الفلسطينية.
هيكل ضريبي معكوس:
يشكل ما بات يعرف بالمقاصة، التي تشمل الجمارك وضريبة القيمة المضافة التي تجنيها دولة الاحتلال نيابة عن السلطة، الحصة الأكبر من إيرادات السلطة الفلسطينية، إذ تبلغ 65% من مجمل إيراداتها، في حين لا تتجاوز نسبة مساهمة ضريبة الدخل 5.5% من حجم الإيرادات، فضلًا عن أنّ هناك غيابا للعدالة الاجتماعية في هذا الهيكل الضريبي، لأنّ ضرائب القيمة المضافة والجمارك يتحملها في نهاية المطاف المواطن العادي ذو الدخل المحدود، في حين لا يساهم أصحاب الاستثمارات والشركات الكبرى إلّا بجزء بسيط من الإيرادات الضريبية؛ فهذا الهيكل المعكوس يساهم في بقاء التحكم “الإسرائيلي” في الأموال الفلسطينية.
تشكل ضرائب الدخل المحلية الحصة الأكبر من إيرادات الحكومات في معظم دول العالم، في حين لا تشكّل الجمارك سوى نسبة ضئيلة بالمقارنة مع ضرائب الدخل، ولكن هذا الأمر معكوس في حالة السلطة الفلسطينية التي تشكل لديها الضرائب المحلية (بمختلف أنواعها) نسبة لا تتجاوز 22.5% بالمقارنة مع 65% من إيرادات المقاصة، وبطبيعة الحال، فهذا الهيكل المعكوس في حالة السلطة التي لا تسيطر على أيّ من معابرها وحدودها، وتعتمد بشكل شبه كلي على دولة الاحتلال في الاستيراد والتصدير، من شأنه أن يديم سيطرة الاحتلال وتحكمه في إيرادات السلطة، وهذا الأمر تستغله دائما حكومات الاحتلال في ابتزاز السلطة ماليًا، وفرض عقوبات مالية عليها متى شاءت.
ارتدادات الأزمة سياسيا:
أدت الأزمات المالية المتلاحقة للسلطة الفلسطينية وعجزها عن سداد رواتب موظفيها بشكل كامل ومنتظم إلى تشكّل عدد من الحراكات الاحتجاجية المطلبية خلال السنوات الماضية، سواء أكانت نقابية أم شعبية، إذ خاض حراك المعلمين الموحد إضرابًا لمدة 80 يومًا في مطلع العام الدراسي 2023-2024، مطالبًا بعلاوة مالية وبالحصول على راتب كامل، كما انخرطت عدة نقابات في هذا الإضراب، مثل نقابتي الأطباء والمحامين، في خطوات احتجاجية لذات الأسباب، ومع أنّ هذه الاحتجاجات توقفت دون تحقيق أي مطالب في الغالب، إلّا أنّ حراك المعلمين الموحد بدأ يلوّح بالإضراب مجددًا منذ مطلع العام الحالي 2024.
ما زالت الأوضاع هادئة نسبيًا حتى اللحظة، والأمر الذي يمنع تصاعد موجات الاحتجاج الشعبية والنقابية في هذه الظروف الحالية هو ما يمكن تسميته “الترحيل المجتمعي للأزمة”، فمعظم الموظفين والعمال مرتبطون بالتزامات مالية شهرية، مثل إجارات البيوت، والقروض البنكية، والشيكات، والأقساط، ولكن نتيجة الظروف الاقتصادية الحالية، التي عمّت الجميع، توجد حالة من التخلف العام عن الإيفاء بهذه الالتزامات، لأن الجميع يعاني من الأوضاع الاقتصادية الصعبة، والجميع يدرك أنه لم يعد بمقدور الموظفين والعمال الإيفاء بالتزاماتهم، ولذلك يعذر الناس بعضهم بعضًا، ويبدون نوعًا من الصبر والتحمل في انتظار حلحلة الأزمة الاقتصادية، في ظل أنّ الأزمة الحالية غير مقتصرة على رواتب الموظفين.
قد تتفجر الأمور وتنهار حالة “الترحيل المجتمعي” للأزمة، ويبدأ الناس بمطالبة بعضهم بعضًا بما عليهم من التزامات مع الوقت، لا سيما إن تمكنت السلطة الفلسطينية من صرف رواتب موظفيها بشكل شبه منتظم، وحتى لو بنسبة 80% كما كان عليه الحال قبل شهر أكتوبر 2023، إذ إنّ الناس سيخرجون من هذه الأزمة وقد تراكمت عليهم الأقساط والالتزامات والديون، ما قد يخلق حالة من الضغط المجتمعي تترجم باحتجاجات مطلبية، سواء أكانت شعبية أم نقابية، ولكن لا يبدو أنّ هناك حلًا قريبًا لأزمة المقاصة تحديدًا، وبالرغم من أنّ هناك تقارير تفيد بأنّ دولة الاحتلال وافقت على تسليم الأموال للسلطة، مع الاحتفاظ بحصة غزة وديعة لدى النرويج لحين انتهاء العدوان، إلّا أنّ الواقع يشير إلى أنّ هذه الخطوة تأتي ضمن مساعي الحفاظ على الهدوء في الضفة الغربية خلال شهر رمضان، وهي لا تمثل أيّ حل حقيقي، بسبب استمرار سياسة الاقتطاع والتحكم “الإسرائيلي” في المقاصة.
إنّ مجمل السلوك “الإسرائيلي” تجاه السلطة يشير إلى أنّ هناك رغبة في إضعافها وتفتيتها، على الرغم من التصريحات “الإسرائيلية” المتكررة حول أهمية الحفاظ على وجود السلطة الفلسطينية، والتي كان آخرها تصريح وزير حرب الاحتلال “يؤاف غلانت” خلال العدوان الحالي، الذي قال فيه: “السلطة الفلسطينية القوية هي مصلحة أمنية لإسرائيل“.
تشير الطروحات السياسية التي يتداولها القادة والمفكرون “الإسرائيليون” حول مستقبل الصراع، وإن كانت تبدو وكأنها مقتصرة على قطاع غزة، إلى أنّ هناك مخططًا لإعادة إحياء “راوبط القرى” ولكن بمسميات أخرى، إذ نصّت رؤية “نتانياهو” لـ”اليوم التالي” للعدوان في قطاع غزة على أنّ مسؤولية الشؤون المدنية والنظام العام ستتولاها “شخصيات محلية” غير مرتبطين بدول أو كيانات تدعم “الإرهاب” أو يتلقون أموالا منها، وغني عن القول أنّ “نتانياهو” يعتبر السلطة الفلسطينية داعمة للإرهاب لأنها تصرف رواتب للأسرى وعوائل الشهداء، ولا تختلف خطة “غلانت” لليوم التالي في هذه الجزئية عن تصور “نتانياهو”، إذ ينادي هو الآخر بوجود “لجان محلية موافق عليها إسرائيليا“.
نجد ضمن التصورات “الإسرائيلية” حول السلطة المتجددة، التي نادى بها الرئيس الأمريكي “جو بايدن”، طروحات تعتبر الشكل النهائي لتجديد السلطة هو تحويلها إلى إدارات محلية في قطاع غزة والضفة الغربية، وليس إدارة واحدة، وهذه الطروحات هي إعادة إنتاج لأفكار صهيونية قديمة، مثل خطة وزير المالية “بتسلإيل سموتريتش” المعروفة بـ”خطة الحسم”، التي ينادي بها صراحة بإنهاء وجود السلطة، على الرغم من كون وجودها مصلحة أمنية “إسرائيلية”، لأنها تعبّر عن هوية جمعية للفلسطينيين، واستبدالها بإدارات أو إمارات محلية منفصلة عن بعضها.
وعليه، فالأزمة المالية المستمرة للسلطة قد تكون مقدمة لمحاولة فرض هذا السيناريو، عبر الإضعاف المستمر لها ومحاولة فرض شروط سياسية مقابل حلحلة الأزمة المالية، تؤدي في المحصلة إلى تفتيتها وتحويلها إلى إدارات محلية، أو العمل على تحويل الأزمة المالية إلى دافع للموظفين الفلسطينيين والقطاعات المختلفة للنزول إلى الشارع ضد السياسات المالية للسلطة، ما يتسبب بحالة من الفوضى الشاملة التي قد يستثمرها الاحتلال في إطارات سياسية، كإظهار ضعف الهيكل السياسي الفلسطيني ومؤسساته، وإعادة طرحة للوصاية من جديد على المؤسسات الفلسطينية.
أما الرؤية الأخطر التي قد يدفع باتجاهها الاحتلال فهي خلق حالة عامة لدى الشارع الفلسطيني بأنّ ما يمكن أن يسمى بإنجاز وطني بإقامة الدولة الفلسطينية سيتحول إلى عبء عليهم، وبالتالي القبول بأطروحات يحاول الاحتلال الترويج لها بهيكليات منقوصة لمفهوم النظام السياسي، أو تحويل السياسات الاقتصادية الفلسطينية إلى سياسات طاردة للمواطن الفلسطيني وطبقة الموظفين للبحث عن وظائف في الأسواق الخارجية، وهو ما قد يحقق مفهوم التهجير الذي يقوم عليه الاحتلال، سواء في الضفة أو غزة.
من الممكن أن تؤدي هذه السياسة إلى نتائج على عكس ما يرجوه الاحتلال، لاسيما وأنّ الخنق الاقتصادي للضفة الغربية، الذي لا يستهدف السلطة فقط وإنما عموم الشعب الفلسطيني فيها، قد يؤدي إلى انفجارها في وجه الاحتلال نفسه، وانهيار السلطة على نحو لا يريده الاحتلال، لكنّ الإشكال الأكبر حتى اللحظة يظهر في أنّ الولايات المتحدة والدول الغربية يبدوا أنها توفر مظلة لممارسات الاحتلال الساعية لإضعاف الاقتصاد الفلسطيني، والإبقاء عليه اقتصادًا تابعًا وضعيفًا، وما يثير العديد من علامات السؤال هو ما يتم الاعلان عنه من واشنطن وغيرها من العواصم العالمية حول إمكانية الاعتراف بدولة فلسطينية أو الضغط على الاحتلال لإقامة دولة فلسطينية.
الخاتمة:
أخذت المخاوف من انهيار السلطة ماليًا تتصاعد مع تصاعد الأزمة المالية للسلطة إلى حدود غير مسبوقة، إذ حذّر وزير المالية الفلسطيني شكري بشارة من انهيار مؤسسات السلطة في حال لم تفرج دولة الاحتلال عن أموال المقاصة، كما اشتركت الإدارة الأمريكية في التحذير من انهيار السلطة نتيجة أزمتها المالية، وتنطلق هذه التحذيرات من خطر حدوث احتجاجات واضطرابات في الضفة، في الوقت الذي تسعى فيه دولة الاحتلال وداعموها إلى الحفاظ على الاستقرار فيها، خدمة للمصالح الأمنية “الإسرائيلية”.
بعيدًا عن هذه التحذيرات، فإن مسألة انهيار السلطة ماليًا وحدوث احتجاجات واضطرابات عارمة في الضفة أصبحت احتمالية عالية، والأزمة المالية للسلطة كما أوضحنا آنفًا ليست أزمة عابرة، وهي تتلاقى مع مخططات “إسرائيلية” لإنهاء وجود السلطة واستبدالها بإدارات محلية، ولذلك تستمر حكومات الاحتلال في إضعاف السلطة وإبقائها في حالة أزمة دائمة، وقد ساهمت السلطة من طرفها في نمو هذه الحالة، فاعتمادها سياسة البقاء تحت أي ظرف، ومحاولة ضبط الشارع حتى في ظل الظروف الحالية التي يمر بها الشعب الفلسطيني من إبادة جماعية وأزمة اقتصادية خانقة، بما يمنع توجيه الغضب الشعبي تجاه الاحتلال لإجباره على التراجع عن سياساته، ساهم في تنامي أزمتها، وتحويل الاحتجاجات والغضب الشعبي تجاهها في السنوات السابقة، وفي حال استمرار السلطة في ذات السياسة، فإنّ استمرار الأزمة الاقتصادية، قد يؤدي إلى انهيار حالة “الترحيل المجتمعي للأزمة”، وبالتالي سيؤدي إلى تنامي الاحتجاجات الشعبية التي سيكون عنوانها السلطة الفلسطينية.