قالت مجلة "ذي نايشن" الأميركية في تقرير خاص، إنّ وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينك، "جيد جداً في إظهار التعاطف مع الرعب في غزة"، لكن "أفعاله تتحدث بصوت أعلى بكثير من كلماته".
وتناولت المجلة تصريحات بلينكن الاعلامية بخصوص العدوان الإسرائيلي على غزة منذ السابع من أكتوبر 2023، وأشارت إلى أنّ بلينكن بارع في إظهار نظرته الصادقة المميزة، وصوته المرتعش وعيونه الدامعة، وأتقن جواً من التعاطف مع الفلسطينيين، في حين أنه يمارس أسلوب وزير الخارجية الأميركي آنذاك هنري كيسنجر، في تصريحات مسرحية سياسية ضرورية".
وأضافت أنه "لا يسير على خطى كيسنجر فحسب، بل يعمل على تحسين حرفته، وهو يحاول التوفيق بين دعم واشنطن غير المشروط للهجوم الإسرائيلي على غزة والتزامها المعلن بالنظام "المبني على القواعد".. وهذا الأمر تقليد للولايات المتحدة الدائم بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي المتمثل في "الدفاع عن حقوق الإنسان والقانون الدولي والديمقراطية".
لكن مجرد كون نسخة بلينكن من الدبلوماسية تأتي بواجهة متعاطفة، لا يعني أنها أقلّ خطورة من نسخة كيسنجر. في بعض النواحي، هذه اللمسة الإنسانية المفترضة تجعل بلينكن عميلاً أكثر غدراً بكثير...!
وفيما يلي النص منقولاً إلى العربية:
في 8 حزيران/يونيو 1976، وقف وزير الخارجية الأميركي آنذاك هنري كيسنجر أمام اجتماع لمنظمة الدول الأميركية في سانتياغو بتشيلي، وحذّر الجنرال أوغستو بينوشيه من أنّ انتهاكات نظامه المروّعة لحقوق الإنسان قد "أضعفت علاقة الولايات المتحدة مع تشيلي".
كان بينوشيه قد استولى على السلطة قبل ثلاث سنوات في انقلاب دعمته وكالة المخابرات المركزية الأميركية، والذي أنهى الحكم المدني في تشيلي، وكان بمثابة بداية دكتاتورية استمرت 17 عاماً اتسمت بانتهاكات واسعة النطاق لحقوق الإنسان، والقمع السياسي، وعدم الاستقرار الاقتصادي. وكانت المنطقة تترنّح، وانتهز كيسنجر الفرصة لدعوة بينوشيه إلى احترام "المعايير الأساسية للسلوك الإنساني".
لكن كيسنجر أرسل رسالة مختلفة تماماً خلف الكواليس. وفي اجتماع خاص في اليوم السابق لإلقاء خطابه أمام منظمة الدول الأميركية، طمأن بينوشيه على دعمه الكامل، وأنّ تصريحاته العلنية لن تكون أكثر من مسرحية سياسية ضرورية. وقال كيسنجر: "نريد مساعدتكم، وليس تقويضكم"، مضيفاً: "لقد قدمتم خدمة جليلة للغرب بإسقاط أليندي".
إذا كان هذا الخداع يبدو مألوفاً، فيجب أن يكون كذلك. إنه يمثل تقليد الولايات المتحدة الدائم بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي المتمثل في "الدفاع عن حقوق الإنسان والقانون الدولي والديمقراطية"، كل ذلك مع دعم الأنظمة القمعية الموالية لمصالحها الجيوسياسية. وينظر البعض إلى كيسنجر باعتباره المهندس الرئيسي لهذه الاستراتيجية. يحظى باحترام كبير باعتباره أحد ممارسيها الأكثر فاعلية.
وكذلك.. فإنّ وزير الخارجية أنتوني بلينكن - الذي قال بعد وفاة كيسنجر إنّ سلفه "وضع المعيار لكل من تبعه في هذا المنصب" - لا يسير على خطى كيسنجر فحسب، بل يعمل على تحسين حرفته، وهو يحاول التوفيق بين دعم واشنطن غير المشروط للهجوم الإسرائيلي على غزة والتزامها المعلن بالنظام "المبني على القواعد".
وينتهز بلينكن كل فرصة لحثّ "إسرائيل" على تنفيذ إجراءات للحد من الضحايا المدنيين في غزة. بفضل نظرته الصادقة المميزة، وصوته المرتعش وعيونه الدامعة، أتقن جواً من التعاطف الذي لم يكن كيسنجر يحلم به. وقال بلينكن في مؤتمر صحافي عقده في تشرين الثاني/نوفمبر 2023 "لقد رأيت صوراً لأطفال وفتيان وفتيات فلسطينيين يتم انتشالهم من تحت أنقاض المباني"، مضيفاً: "عندما أرى ذلك، عندما أنظر إلى عيونهم، من خلال شاشة التلفزيون، أرى أطفالي".
لا نعرف حتى الآن ما قاله بلينكن للمسؤولين الإسرائيليين خلف الأبواب المغلقة - وربما يتعين عليهم الانتظار حتى تبدأ المذكرات الحتمية في الظهور - لكن "الأفعال تتحدث بصوت أعلى من الكلمات".
وفي حين بنى كيسنجر سمعته الشخصية حول احتضانه للسياسة الواقعية الوحشية، وافتقاره إلى التعاطف، فإنّ أسلوب بلينكن يبدو مختلفاً تماماً. لكن مجرد كون نسخة بلينكن من الدبلوماسية تأتي بواجهة متعاطفة، لا يعني أنها أقل خطورة من نسخة كيسنجر. في بعض النواحي، هذه اللمسة الإنسانية المفترضة تجعل بلينكن عميلاً أكثر غدراً بكثير.
من خلال استخدام خطاب منمق وشخصي مكثّف للترويج لفكرة أنّ حقوق الإنسان هي أولوية قصوى في غزة، فإنّ صورة الصدق التي رسمها بلينكن بعناية لا تؤدي إلى حجب الدعم المادي الذي تقدمه الولايات المتحدة لـ"إسرائيل" فحسب، بل أيضاً تسهيل واشنطن النشط للإبادة الجماعية للفلسطينيين في غزة. يؤدي هذا التلاعب المحسوب بالتصور العام إلى إدامة دورة الإفلات من العقاب، مما يضمن أنه إذا جاء يوم تتم فيه محاسبة "إسرائيل" وداعميها، فإنّ إدارة بايدن يمكنها أن تدافع عن البراءة.
وعلى عكس كيسنجر، لا يبدو بلينكن فخوراً بالدماء التي لطخت يديه.. في الواقع، لا ينبغي لنا أن نتفاجأ إذا أصبح بلينكن، بمجرد الاعتراف بحجم جرائم "إسرائيل" على نطاق أوسع، إلى جانب دور واشنطن في تمكينها، يعتذر بغزارة عن الدور الذي لعبه ويطلب المغفرة. ولكن الدم لا يزال هناك. بلينكن مهتم بإخفائه أكثر من كيسنجر. ولأنه يمثل إدارة ديمقراطية، فإنّ أولئك الذين سيعارضون بشدة نفس السياسات إذا تمّ تقديمها من قبل المحافظين مثل سلف بلينكن، مايك بومبيو، هم أكثر استعداداً لمنح بلينكن فائدة الشك.
لكن تفعيل استراتيجية واشنطن ذات الوجهين تجاه "إسرائيل" وفلسطين قد تجاوز شخصية رجل الدولة الفردي. لقد تحوّل إلى جهد جماعي. عندما يعترف الرئيس الأميركي جو بايدن علناً بأنّ التكتيكات الإسرائيلية في غزة " تجاوزت الحدود " وتقوم إدارته بتسريب قصص إلى الصحافة حول "إحباطه المتزايد" تجاه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، فإنهم يلعبون نفس اللعبة.
تعمل إدارة بايدن على نشر ستار من الدخان وشراء الوقت لـ"إسرائيل" من خلال تشتيت انتباه الجمهور بالخطابات النبيلة حول حقوق الإنسان، والمخاوف المتعلقة بالمدنيين الفلسطينيين، بينما تفعل كل ما في وسعها لضمان استمرار تدفق الأسلحة إلى "إسرائيل" دون انقطاع. لأنه في نهاية المطاف، فإنّ حماية "إسرائيل" كاستثمار استراتيجي هي الأولوية القصوى.
إننا نشهد هذه المسرحية في الوقت الحقيقي بينما تتعهّد "إسرائيل" بغزو رفح، حيث اضطر أكثر من مليون ونصف المليون فلسطيني إلى الفرار في مواجهة هجومها. وقد أبدت إدارة بايدن احتجاجاً لفظياً، بدلاً من استخدام النفوذ الفعلي لثني "إسرائيل" قبل فوات الأوان، يواصل بايدن وبلينكن إعطاء نتنياهو كل الأدوات التي يحتاجها لتنفيذ مذبحته التالية.
ويظل المخطط كما كان في أيام كيسنجر.. دعوات فارغة علنية لضبط النفس وحماية المدنيين، ولكن تدفقاً متواصلًا للأسلحة خلف الكواليس.
لقد أصبح أسلوب كيسنجر بمثابة دليل "لعب" للإدارات الأميركية المتعاقبة، حيث نجحت كل واحدة منها في إتقان وتبسيط فن الازدواجية. إنّ أولئك الذين احتفلوا بوفاة كيسنجر، والذين يعتبرونه شر كل الشرور، يغيب عنهم الصورة الأكبر.. إنّ إرث كيسنجر ما زال حياً وبصحة جيدة، بمجرّد إلقاء نظرة على أنتوني بلينكن.