• اخر تحديث : 2024-07-25 13:39
news-details
قراءات

مستقبل العلاقات البريطانية الأوروبية في ظل حكومة العمال


قبل وصوله إلى السلطة بعد الفوز في الانتخابات التشريعية التي جرت يوم 4 يوليو 2024، أعلن ستارمر في برنامجه الانتخابي، أن سياسته الخارجية سوف تهدف إلى إعادة بناء العلاقات الأوروبية، وتدشين تحالفات أوروبية–بريطانية بما يسمح لبريطانيا بأن تقود القارة الأوروبية مرة أخرى. وفي 8 يوليو – أي بعد أربعة أيام فقط من الانتخابات – أجرى وزير الخارجية الجديد ديفيد لامي زيارةً قصيرةً إلى ألمانيا وبولندا والسويد، وهو ما يعكس عزم حكومة العمال على إنعاش العلاقات البريطانية–الأوروبية؛ وذلك على النحو الذي يخدم المصالح البريطانية.

العوامل الداعمة
 
يرتبط مسار التقارب المحتمل في العلاقات البريطانية الأوروبية في عهد حكومة العمال بعدد من العوامل الرئيسية المتمثلة فيما يلي:
 
1– احتمالات حدوث تغيرات في السياسة الأمريكية حال فوز ترامب: ففي ظل احتمالات وصول دونالد ترامب مرة أخرى إلى البيت الأبيض، سوف يكون من الصعب توقع سلوك الولايات المتحدة الأمريكية كدولة عظمى، ومن ثم يصبح من المراهنة الاعتماد على الولايات المتحدة كحليف دولي تقليدي. أضف إلى ذلك حقيقة ميل السياسة الأمريكية مؤخراً إلى نوع من الحمائية الاقتصادية وعدم الانخراط، وهو ما يعني مرة أخرى أن تطبيق اتفاقيات التجارة والسوق الحر يمكن أن تعاني في المرحلة القادمة. وفي المقابل، يصبح البديل السياسي الأفضل هو تعزيز العلاقات البريطانية الأوروبية؛ حيث تعمل بريطانيا على الحفاظ على دورها الإقليمي أوروبياً والاستثمار فيه كخطوة ضرورية للحفاظ على صورتها الدولية كحليف موثوق فيه ويمكن الاعتماد عليه في الساحة الدولية وإن تراجع الدور الأمريكي.
 
2– استمرار الحرب الروسية الأوكرانية: فتلك الحرب تهديد مباشر للأمن والسلم الإقليميَّين ونافذة فرصة لبريطانيا لتثبت قيادتها للقارة الأوروبية بعيداً عن الاتحاد الأوروبي كإطار مؤسسي؛ حيث كان دعم أوكرانيا ومواجهة الخطر الروسي هي نقطة التقاء بريطانيا والدول الأوروبية، ودافعاً للاصطفاف الأوروبي الذي تسعى بريطانيا إلى الوقوف على رأسه، ولعل هذا ما يفسر اختيار ديفيد لامي ألمانيا وبولندا والسويد في زيارته الأولى خارجياً بصفته وزيراً للخارجية؛ فالدول الثلاثة هي أساس استمرار قدرة كييف على مقاومة روسيا.
 
أما وزير الدفاع البريطاني جون هيلي، فقد التقى الرئيس الأوكراني زيلينسكي ونظيره رستم أوميروف في خلال زيارته للمشاركة في احتفال يوم البحرية الأوكرانية، وتعهد بإرسال المزيد من أسلحة المدفعية وربع مليون طلقة ونحو 100 صاروخ دقيق من طراز بريمستون خلال المائة يوم القادمة. علاوة على ذلك، كان هيلي واضحاً في تأكيده أن تغيير الحكومة في بريطانيا لا يعني تغيير الموقف من الحرب الأوكرانية؛ "فبريطانيا متحدة من أجل دعم أوكرانيا".
 
3– توجهات رئيس الوزراء البريطاني ووزير خارجيته: فقد أكد كل من رئيس الوزراء البريطاني "ستارمر" ووزير خارجيته "ديفيد لامي"، في أكثر من مناسبة، أن السياقَين الإقليمي والدولي يمثلان مرحلة جيوسياسية حرجة، وأنه يجب تمييز الاختلاف بين الدول الديمقراطية بعضها وبعض، عن الاختلاف بين الدول الديمقراطية والسلطوية التي تمثلها روسيا. وتمثل الواقعية التقدمية Progressive Realism الإطار الفكري الأوسع الذي ينطلق منه ديفيد لامي في صياغة السياسة الخارجية، والذي عبر عنه في مقال بمجلة الشؤون الخارجية في أبريل 2024 منذ أن كان وزير خارجية الظل.
 
وبموجب الواقعية التقدمية، يتعامل صانع القرار مع العالم كما هو لا كما يجب أن يكون، ولكنه يختلف عن الصورة الكلاسيكية للواقعية في أن هدفه ليس تراكم القوة، بل توظيف هذه القوة لتحقيق أهداف وقيم بشكل ملموس ومخرجات قابلة للقياس على نطاق واسع في قضايا دعم الديمقراطيات، ومواجهة التغيرات المناخية، وتعزيز الحوكمة والمؤسسات الدولية وتحقيق التنمية.
 
وعليه فإن مفهوم الأمن الأوروبي يتحقق – من وجهة نظر لامي – من خلال تشبيك العلاقات والتنسيق المتبادل والأطر المؤسسية، وبذلك يصبح الأمن الأوروبي أداة لتحقيق الأمن البريطاني. ربما هذا ما دفع لامي إلى طلب حضوره اجتماعات مجلس الشؤون الخارجية للاتحاد الأوروبي بحسب الموضوعات المطروحة وإن قوبل هذا الطلب بالرفض، غير أن جوهر الطلب يعكس تطلع لامي إلى وجود إطار مؤسسي للحوار البريطاني–الأوروبي بخلاف العضوية في الاتحاد الأوروبي.
 
4– قدرة لندن على تحمل فاتورة الدور البريطاني في أوروبا: ذلك لأن الانخراط الإقليمي – ثنائياً كان أو متعدد الأطراف – يتطلب تفعيلُه زيادةَ مستويات الإنفاق لضمان تحقيق الأهداف المطلوبة. على سبيل المثال، تلتزم الحكومة البريطانية بالحفاظ على مستوى الإنفاق العسكري عند 2.5% من الناتج المحلي الإجمالي وفقاً للنسب المقررة من قِبل حلف شمال الأطلنطي. كذلك فإن اتفاقيتي لانكستر هاوس مع فرنسا والاتفاقية الثلاثية مع أستراليا والولايات المتحدة، وتقديم المساعدات العسكرية لأوكرانيا، جميعها التزامات تتطلب موارد مالية.
 
وفي ظل تذبذب مستويات التضخم، والصعوبات الاقتصادية في بريطانيا، فإن توفير الموارد المالية اللازمة لتفعيل وتنفيذ الالتزامات الإقليمية الأوروبية يعني ضرورة البحث عن سبل زيادة الدخل الحكومي، وربما يعني إعادة النظر في صفقات المشتريات الحكومية العسكرية أو إعادة النظر في توظيف الموارد البشرية غير الملائمة – وفق ما ذهب إليه تشاثام هاوس – التي يمكن أن توفر للحكومة دخلاً إضافياً.
 
5– رغبة لندن في تسوية الخلافات مع اسكتلندا: فجزء من تحقيق الاستقرار الداخلي في بريطانيا يعتمد على ضمان بسط سيادة الدولة على الأقاليم البريطانية، خاصةً اسكتلندا التي تتمتع بحكم ذاتي، والتي طالبت بالانفصال مراراً وتكراراً بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي؛ لذلك، فإن جزءاً كبيراً من إدارة حكومة ستارمر للعلاقات الأوروبية البريطانية يعتمد أولاً على إدارة العلاقة مع اسكتلندا؛ ليس فقط من منطلق ترتيب المنزل من الداخل، بل لتسوية الاعتراضات الاسكتلندية على اتفاق التجارة والحدود التي أُبرمت بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي في مرحلة ما بعد البريكست. وهذا ما يفسر قيام ستارمر بزيارة إلى الأقاليم البريطانية المفوضة: اسكتلندا وشمال أيرلندا وويلز في 7 يوليو 2024؛ فالاتفاق على الجوانب التجارية مع هذه الأقاليم يعطي حكومة ستارمر قوة تفاوضية أمام دول الاتحاد الأوروبي في اتفاقية التجارة والتعاون ومراجعاتها المتوقعة في 2026.
 
علاقات متنوعة
 
يستدعي مستقبل العلاقات البريطانية–الأوروبية عدداً من الملامح الرئيسية المتمثلة فيما يلي:
 
1– تمسك ستارمر بعدم العودة للاتحاد الأوروبي: وهو الأمر الذي يحدد المناخ العام والإطار الأوسع للتعامل البريطاني مع أوروبا وأهدافه. وفي هذا الصدد، كان ستارمر واضحاً في وجوب الالتزام بانسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (البريكست)، وعدم العودة مرة أخرى إلى السوق الواحدة أو الاتحاد الجمركي أو حرية الحركة، وأنه لا مجال لتغيير ذلك، وإنما العمل على تجاوز الاختلافات مع دول الجوار والتركيز على الاهتمامات المشتركة.
 
2– دعم العلاقات التجارية والاستثمارات المتبادلة: سوف تسعى الحكومة الحالية إلى إزالة الحواجز التجارية، والحد من إجراءات التفتيش على الحدود، من خلال تدشين اتفاقية التفتيش البيطري والغذاء بحيث يقلل ذلك من تكلفة الأغذية الواردة والصادرة، كما ذهب ستارمر إلى ضرورة تعميق الدور البريطاني في إطار مجموعة العشرين، ومجموعة السبعة والكومنولث. علاوةً على ذلك، فإن حكومة العمال قد جعلت من أولوياتها العمل على مكافحة الفساد وغسيل الأموال من خلال العمل المشترك مع الدول الأوروبية وتنسيق الجهود وتبادل المعلومات في مجال الجريمة الاقتصادية. ودعماً لتصدير الخدمات البريطانية، سوف تعمل حكومة ستارمر على التفاوض لعقد صفقات قطاعية مستقلة مع دول الجوار الأوروبية مثل الاتفاقيات الرقمية.
 
كما أن من المتوقع أن تسعى بريطانيا إلى مراجعة "اتفاقية التعاون والتجارة" التي وقَّعتها مع الاتحاد الأوروبي في 2020 كجزء من إجراءات إنهاء عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي. وبموجب هذه الاتفاقية، ألغيت التعريفات الجمركية والحصص، لكنها خلقت عوائق أمام تجارة السلع عبر الحدود (وهي محور اعتراض البرلمان الاسكتلندي) التي بموجبها حدَّدت بريطانيا بعض المتطلبات بشأن الإجراءات الجمركية والتنظيمية وقواعد خاصة بدول المنشأ، وجميعها متطلبات ترفع من تكلفة الإجراءات البيروقراطية في تجارة السلع؛ لذلك فإن من المتوقع أن تسعى بريطانيا إلى مراجعة بنود هذه الاتفاقية مع الاتحاد الأوروبي.
 
3– تطوير التعاون في مجال التعليم والثقافة: من المتوقع أن توقع بريطانيا اتفاقاً للاعتراف المتبادل بالمؤهلات المهنية، بما يساعد على فتح أسواق عمل للأفراد ولمُصدِّري الخدمات في الدول الأوروبية. علاوةً على ذلك، فإن جزءاً من اتفاقية إجراءات التفتيش على الحدود مع الدول الأوروبية سوف تشمل الفنانين المتنقلين لتسهيل انتقالهم وعملهم داخل وخارج بريطانيا والدول الأوروبية.
 
4– توسيع التفاهمات الأمنية والدفاعية البريطانية الأوروبية: سوف تسعى حكومة حزب العمال إلى توقيع تحالف أمني جديد مع الاتحاد الأوروبي لمواجهة التحديات الإقليمية الراهنة والمحتملة، وإعادة بناء العلاقات الأمنية مع فرنسا وألمانيا من خلال توقيع اتفاقيات دفاع ثنائية، وفق ما ذكره ديفيد لامي وزير الخارجية البريطاني في حكومة ستارمر. وفي إطار حلف شمال الأطلنطي (الناتو)، فإن من المتوقع أن ترفع بريطانيا حجم التعاون الدفاعي مع الدول الشريكة في قوة التدخل المشتركة Joint Expeditionary Force (JEF) التي أُطلقت في قمة الناتو بويلز في 2014، وتقودها بريطانيا بالتعاون مع ثمانية دول أوروبية هي: الدنمارك وإستونيا وفنلندا ولاتفيا وليتوانيا وهولندا والنرويج والسويد.
 
علاوة على ذلك، فإن بريطانيا سوف تعمل على تحقيق المخرجات المتوقعة من الشراكة الثلاثية لمنطقة الهندوباسيفيك AUKUS بينها وبين أستراليا والولايات المتحدة الأمريكية، التي أعلنت في سبتمبر 2021، والتي بموجبها سوف تحصل أستراليا على غواصات حربية بمساعدة الولايات المتحدة وبريطانيا التي سوف تقدم المكونات الفولاذية من شيفلد ومقاطعة يورك؛ الأمر الذي سوف يخلق 7000– 21000 فرصة عمل للبريطانيين، وهو ما يساعد على النمو الاقتصادي، وفق ما أكده وزير الدفاع جون هيلي خلال تفقده شركة تصنيع الصلب "شيفلد فورجماسترز" المملوكة لوزارة الدفاع البريطانية، والمسؤولة عن توفير أجزاء الصلب والفولاذ لصنع الغواصات الحاملة للأسلحة التقليدية التي تعمل بالطاقة النووية؛ وذلك بصحبة نائب رئيس الوزراء ووزير الدفاع الأستراليَّين في 16 يوليو 2024، كما تقدم بريطانيا لأستراليا نقل الخبرات في مجال إدارة وتشغيل تلك الغواصات، وهو ما يفسر زيارة الوفد الأسترالي إلى اسكتلندا ليرى كيف تدار قواعد الغواصات النووية، بما في ذلك تشغيل وصيانة وإدارة غواصات Astute–Class الهجومية.
 
كما عبر ماكرون، قبيل الانتخابات الفرنسية، عن أن العلاقات البريطانية الفرنسية في مجال التعاون الأمني والدفاع، التي تم تأطيرها بمعاهدتي لانكستر هاوس في 2010، أساس ركين في الأمن الأوروبي.
 
وأخيراً، وكجزء من الاتفاقيات الأمنية التي تتقاطع مع أمن الحدود والهجرة، وتكريماً لتضحيات أفراد القوات المسلحة الأوروبيين في الحفاظ على السلام الأوروبي؛ تعتزم بريطانيا إعفاء المحاربين القدامى غير البريطانيين الذين خدموا في القوات المسلحة وأسرهم من رسوم تأشيرة دخول بريطانيا.
 
5– مواصلة التوافق حول دعم أوكرانيا في حربها ضد روسيا: سوف يستمر التزام بريطانيا في دعم أوكرانيا ضد روسيا على ما كان عليه وقت المحافظين، بالإضافة إلى بدء محاولات إنشاء محكمة خاصة لجريمة العدوان على أوكرانيا لمحاسبة الرئيس الروسي على هذه الحرب، والسعي إلى الاستيلاء على أصول روسيا المجمدة وإعادة استخدامها في دعم أوكرانيا، وتقديم الدعم لكييف لتصبح عضواً في حلف شمال الأطلنطي.
 
ولا شك أن زيارة وزير الدفاع إلى أوكرانيا وتصريحاته حول مضاعفة الدعم لأوكرانيا، وزيارة وزير الخارجية إلى ألمانيا وبولندا والسويد؛ هي بمنزلة تحضير للساحة وإعداد للدول الأوروبية لاستقبال الدور البريطاني الذي سوف ترفع بريطانيا الستار عنه وتفتتحه في 18 يوليو 2024 باستضافتها قمة "المجموعة السياسية الأوروبية" بمشاركة 44 دولة أوروبية ورئيسَي المجلس الأوروبي واللجنة الأوروبية، وهي اللجنة التي أطلقها الرئيس الفرنسي ماكرون في 2022 لمناقشة الحرب الروسية على أوكرانيا، وبحث سبل التعاون الأمني الأوروبي بالمفهوم الواسع للأمن. ووفق ما ذهبت إليه مجموعة السياسة الخارجية البريطانية، فإن استمرار الدعم الأوروبي إلى أوكرانيا، بالإضافة إلى بحث انضمام أوكرانيا وجورجيا ومولدوفا إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلنطي، سوف يكونان أول الموضوعات الرئيسية على أجندة القمة.
 
6– التعاون في مواجهة الهجرة غير الشرعية: فبالمخالفة مع ريشي سوناك الذي أبدى استعداداً للخروج من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان بعد تمرير خطة رواندا في البرلمان؛ أكد ستارمر مراراً التزام بريطانيا بالقانون الدولي وبعضوية ومواد الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان؛ لذلك فإن من المتوقع أن يكون ملف الهجرة غير الشرعية هو ثالث الموضوعات الرئيسية في قمة المجموعة السياسية الأوروبية، بحيث يسعى ستارمر إلى البحث عن سبل حل للهجرة غير الشرعية أكثر فاعليةً وإنسانيةً من خطة رواندا التي قام بإلغائها ودشن بعض الاتفاقيات مع فرنسا ودول الجوار حول هذه القضية.
 
والخلاصة أن بريطانيا هي أكبر دولة من الناحيتين الاقتصادية والعسكرية خارج إطار الاتحاد الأوروبي، وهو ما يجعل أمام الدول الأوروبية – فرادى أو مجتمعةً في إطار مؤسسي– مثل الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلنطي – حافزاً للتعاون معها في أكثر من مجال. أما بريطانيا، فأمامها معطيات دولية وإقليمية يسمح لها بلعب دور إقليمي قيادي، وحكومة جديدة لديها الرغبة في إثبات جدارتها بالسلطة بعد غياب دام أربعة عشر عاماً.