• اخر تحديث : 2024-09-25 18:05
news-details
قراءات

كيف تؤثر مناورات الهندوباسيفيك على نموذجي الردع الروسي والصيني إزاء واشنطن؟


يبدو أن تدشين موسكو وبكين مناورات عسكرية في بحر اليابان، وكذلك في بحر أوخوتسك، كجزء من مناورات بحرية روسية واسعة النطاق، تحت اسم مناورات "Ocean-2024" خلال الفترة 10-16 سبتمبر 2024، سيلقي بظلاله على بعض نماذج الردع الاستراتيجي التي ظلت سائدة لعقود في ضبط العلاقات بين القوى الدولية الكبرى، ولا سيما الولايات المتحدة، والصين، وروسيا، وذلك بالنظر إلى سياقات ودلالات تلك المناورات على الصعيدين العسكري والجيوستراتيجي. فالمناورات الأضخم لروسيا منذ انهيار الاتحاد السوفيتي السابق قبل أكثر من 30 عاماً، جاءت متقاطعة مع خطاب افتتاحي كلاسيكي للرئيس فلاديمير بوتين الذي غمز من قناة الولايات المتحدة التي اعتبر أن سياساتها "تهديد لتوازن القوى" بمنطقة آسيا والمحيط الهادئ، كما جاءت متوازية مع غموض صيني تقليدي حتى على صعيد التسميات باستباق وزارة الدفاع في بكين بدء المناورات بإعلانها المشاركة مع الجيش الروسي في تدريبات بحرية جوية أطلقت عليها اسم "شمال متحد 2024".
 
استعارات رمزية
 
على الرغم من أهمية الوصف الكمي لمناورات "محيط-2024"، إلا أن التشريح الرمزي لدلالات التسميات يضيف عمقاً كيفياً لوصف تلك المناورات البحرية الكبرى، وهو ما يمكن تناوله في إطار بعض اللمحات العاجلة، وذلك على النحو التالي:
 
1- حنين روسي لحقبة القطبية السوفيتية: مع إطلاق موسكو مناورتها الأكبر "Ocean-2024" حرصت القيادة الروسية على استعارة رمزية الماضي لتلبسها ثوب الحاضر، ربما آملة في ديمومتها لتشمل آفاق المستقبل. فمسمى "Ocean" أو "محيط" لطالما كان الاسم الرمزي للمناورات البحرية التي أجرتها البحرية السوفيتية في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، والتي كانت أكبر فعاليات التدريب العملياتي والقتالي للبحرية السوفيتية خلال حقبة الحرب الباردة. ولربط الحاضر بالماضي قالت وزارة الدفاع الروسية إن تلك المناورات ستكون أهم أنشطة التدريب العملياتي والقتالي للقوات المسلحة الروسية في عام 2024، وتحت القيادة العامة لرئيس البحرية الروسية الأدميرال ألكسندر مويسييف.
 
2- تأكيد صيني على مركزية بكين الجغرافية: الشريك الصيني أضاف بعداً جغرافياً رمزياً حينما أطلق على المناورات المشتركة مع روسيا اسم "شمال متحد 2024"، من دون توضيح لماهية وتوقيت تلك المناورات، وسواء كان "شمال متحد 2024" إطاراً تدريبياً موازياً بين بكين وموسكو أو كان جزءاً من مناورات "محيط-2024"، فإن دلالتي الوصف المتمثلتين في "شمال" و"متحد" تحملان من الرمزية الكثير أيضاً، بالنظر إلى تفرد الصين بخرائط جغرافية تبدو غير معتادة، تعيد توزيع العالم بين مركز وهامش، لتجعل من بكين واسطة العقد العالمي. فالشمال من وجهة نظر بكين ليس هو الشمال المركزي الغربي الأمريكي الأوروبي، الذي طالما جعل من الصين "دولة جنوب" بالمفهوم القيمي التنموي لا بالمفهوم الجغرافي الأرضي، كما أن "متحد" ربما يشير إلى وحدة التوجهات والأهداف بين موسكو وبكين لبناء عالم متعدد الأقطاب غير خاضع للهيمنة الغربية؛ الأمريكية الأوروبية.
 
3- إبراز التكامل العسكري للشراكة الروسية الصينية: بحسب وزارة الدفاع الروسية فإن مناورات "Ocean-2024" جاءت بمشاركة أكثر من 400 سفينة حربية وغواصة وسفينة دعم، وما يزيد على 120 طائرة بحرية، كما أنها على الصعيد البشري قد شارك فيها أكثر من 90 ألف فرد. مكانياً، شملت التدريبات إطاراً جغرافياً واسعاً شمل مياه المحيط الهادئ والمحيط المتجمد الشمالي والبحر الأبيض المتوسط ​​وبحر قزوين وبحر البلطيق. وفي هذا الإطار أوضح رئيس البحرية الروسية، الأدميرال ألكسندر مويسييف، أن المشاركة الصينية تمثلت في 4 سفن و15 طائرة، إلى جانب الطراد CNS Wuxi (104)، والمدمرة CNS Xining (117)، والفرقاطة CNS Linyi (547)، ومركبة النفط CNS Taihu (889).
 
الردع المغاير
 
إلى جانب الدلالات الرمزية سالفة الإشارة لمناورات "محيط-2024"، فإن ثمة دلالات أخرى تتعلق بمنظومة "الردع الاستراتيجي" لكل من روسيا والصين، في إطار تبشير الرئيسين؛ الروسي فلاديمير بوتين، والصيني شي جين بينج، في 17 مايو 2024، بـ"عصر جديد" من الشراكة بين موسكو وبكين، وذلك إبان توقيعهما إعلاناً مشتركاً لتعميق الشراكة الاستراتيجية، وهو ما يمكن إلقاء الضوء عليه على النحو التالي:
 
1- تأكيد البعد الهجومي للردع الاستراتيجي الروسي: تؤشر مناورات "محيط-2024" إلى حرص القيادة الروسية على تأكيد التحول الهجومي الحاصل في مفهوم الردع الاستراتيجي الروسي، وهو التحول الذي انتهجته موسكو في إطار استراتيجيتها العسكرية الجديدة التي أقرها الرئيس بوتين نهاية العام 2015، كإطار تجميعي لاستراتيجية الأمن الروسي التي صيغت خلال حقبة الرئيس ديميتري ميدفيديف في عام 2009، ووثيقة التخطيط الاستراتيجي التي صيغت في العام 2014، والتي حولت العقيدة العسكرية لروسيا بعد الاتحاد السوفيتي من الدفاع إلى الهجوم في إطار ثلاثة مرتكزات أساسية تتمثل في: العالمية، والاستمرارية، والجمع بين التهديد والإكراه.
 
2- إبقاء الهجوم خياراً للردع الاستراتيجي الصيني المحافظ: على الرغم من اتسام نموذج الردع الاستراتيجي الصيني بالاعتماد على العامل الانتقامي أو استراتيجية تطوير قدرات الضربة الثانية الانتقامية بدلاً من قدرات وعقائد قتال الحرب الاستباقية أو الوقائية، إلا أن مناورات "محيط-2024" تحمل دلالة تأكيدية مفادها أن التوجه الدفاعي لنموذج الردع الاستراتيجي لبكين لا يمنع من استعدادها الحثيث لأخذ المبادرة الهجومية حال تعرض الدولة لتهديد وجودي، أو المساس بمصالحها الحيوية والاستراتيجية العليا.
 
3- تقوية الردع المنفرد من خلال "تحالف الضرورة": تحمل مناورات "محيط-2024" إشارات لافتة باتجاه روسيا والصين إلى تقوية نموذجيهما للردع الاستراتيجي ليتآزرا معاً لبناء نموذج ردع ثنائي في إطار "تحالف الضرورة" الذي ارتأته قيادتا الدولتين لتنحية أي خلافات تاريخية بينهما بما تمليه حاجة كلا الطرفين للآخر لإنشاء تعددية قطبية على مستوى القرار الدولي وخدمة المصالح الحيوية المشتركة إزاء الاستراتيجيات الغربية الأمريكية الأوروبية المناوئة.
 
4- السماح للحليف بالولوج للفناء الخلفي التقليدي: كشفت مناورات "محيط-2024" عن سماح كل من روسيا والصين للآخر بالانخراط في أنشطة استراتيجية غير تقليدية بمناطق نفوذه وأفنيته الخلفية الحيوية التقليدية، وهو ما اتضح جلياً في اتخاذ بحر اليابان والمحيط الهادئ، الفناء الخلفي لبكين، مسرحاً لتلك المناورات الروسية الكبرى غير المسبوقة منذ الحقبة السوفيتية، وقبلها انخرطت بكين في يوليو 2024 في المناورات العسكرية المشتركة "هجوم الصقور 2024"، مع بيلاروسيا في بريست جنوب غرب بيلاروسيا وعلى الحدود البولندية، التي طالما ظلت فناء خلفياً لروسيا قبل وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي.
 
تطويق الغرماء
 
على الصعيد العملياتي، تحمل المناورات الروسية الصينية، عدداً من الدلالات الاستراتيجية العميقة تتقاطع مع ما سبق بيانه من تأطير للاستعارات الرمزية وتحولات استراتيجيات الردع المتعلقة بالحدث، وهو ما يمكن تناوله في إطار النقاط التالية:
 
1- توظيف الهندوباسيفك لفك ضغوط الجبهة الأوكرانية: ربما ينظر إلى مناورات "محيط-2024"، على صعيد سياقها الجغرافي العملياتي، الذي يتضمن مناطق مختلفة بما فيها مناطق بالمحيط الهادئ وبحر اليابان، في إطار استراتيجية موسكو لفك الخناق الأمريكي الأوروبي عن الجبهة الأوكرانية، من خلال رسالة مفادها أن مزيداً من الانخراط الأمريكي الأوروبي في الأزمة الأوكرانية سيقابله مزيدٌ من التدخل الروسي في الهندوباسيفيك، وهو الأمر الذي من شأنه أن يمنح الصين نقطة إضافية في إطار حرب التحالفات الاستراتيجية القائمة بين واشنطن وبكين لكسب المزيد من الشركاء وربما المناصرين في المنطقة.
 
2- منح الصين عمقاً أوروبياً لفك الارتباط مع واشنطن: على الصعيد ذاته فإن استغراق مناورات "محيط-2024" بمناطق جغرافية تمس التخوم الأوروبية في منطقة بحر البلطيق، يمنح الصين انخراطاً استراتيجياً ذا بعد عسكري في القارة الأوروبية، يضاف إلى انخراط مشابه للصين في مناورات "هجوم الصقور 2024" مع بيلاروسيا، في يوليو 2024، ما يعني نفاذ بكين إلى حدود الناتو الشمالية، ما قد يمس بتوازنات القوى الأوروبية ويزيد من عمق الخلافات الأوروبية بشأن الموقف من الصين، في ظل الضغوط الأمريكية على حلفاء واشنطن الأوروبيين للانضواء تحت لوائها في الحرب التجارية الدائرة بين الولايات المتحدة والصين على اتساع الرقعة العالمية.
 
3- دعم الصين خطط روسيا للتحول لقوة "باسيفيكية": ربما يمكن النظر إلى مشاركة الصين في مناورات "محيط-2024" مع روسيا باعتبارها دعماً ضمنياً من بكين للخطط الروسية طويلة الأجل للتحول إلى قوة فاعلة بالمحيط الهادئ؛ ومن ثم منطقة الهندوباسيفيك الاستراتيجية ككل. وتتعزز الرغبة الروسية لتحقيق ذلك الهدف من خلال بناء أطر تحالفية وتشاركية وثيقة مع القوتين البارزتين في الهندوباسيفيك، وهما الصين والهند، فقبل مناورات "محيط-2024" الروسية الصينية الحالية بأقل من عام، أجرت روسيا مناورات مهمة مع الهند بخليج البنغال، خلال نوفمبر 2023، في إطار تطوير وتعزيز التعاون البحري الشامل بين البلدين. وفي ذلك الإطار أيضاً قامت البحرية الروسية بإجراء مناورات مع ميانمار، في نوفمبر 2023، ووصفت وزارة الدفاع الروسية تلك التدريبات البحرية التي أجريت في بحر أندامان بأنها "أول مناورة بحرية روسية ميانمارية في التاريخ الحديث".
 
4- موازنة تحالفات واشنطن وشركائها بالهندوباسيفيك: ثمة قلق صيني متزايد من استراتيجيات واشنطن التطويقية لها بمحيطها الاستراتيجي بمنطقة الهندوباسيفيك وذلك عبر استحداث تحالفات جديدة مع شركاء إقليميين وغربيين من ذوي الحضور بالمنطقة، على غرار الحوار الأمني الرباعي المعروف باسم تحالف Quad، الذي يجمع الولايات المتحدة إلى جانب كل من اليابان وأستراليا والهند، وكذلك اتفاقية AUKUS بين الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا والتي تهدف إلى إنشاء أسطول جديد من الغواصات التي تعمل بالطاقة النووية لمواجهة النفوذ الصيني بالهندوباسيفيك، مع بروز اتجاهات تدعو إلى توسيع الاتفاقية لتشمل اليابان في المستقبل القريب. ومن ثم تعمل الصين من خلال تعميق تحالفها وشراكتها الاستراتيجية مع روسيا الراغبة في فك الطوق الغربي عنها على الجبهة الأوكرانية وتحقيق مزيد من الحضور بالهندوباسيفيك، إلى بناء إطار تحالفي موازن ورادع للتحالفات الأمريكية المتصاعدة بالمنطقة، بما يزيد من أوراق الضغط لدى بكين التي تخوض حرباً ليست أقل ضراوة مع واشنطن على الصعيد التجاري والاقتصادي.
 
وأخيراً، يبدو أن مناورات "Ocean-2024" ستُلقي بظلالها على مساعي الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين الرامية إلى نشر صواريخ قصيرة ومتوسطة المدى بمنطقة آسيا والمحيط الهادئ، وكذلك محاولة واشنطن توسيع دائرة الردع الإقليمي بالهندوباسيفيك عبر استراتيجية أسطول الغواصات النووية تحت مظلة AUKUS، لا سيما وأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كان قد استهل افتتاحه لمناورات "Ocean-2024" بقوله: إن الولايات المتحدة وحلفاءها يعلنون صراحة عن خططهم لنشر صواريخ متوسطة وقصيرة المدى فيما تسميه واشنطن "المناطق الأمامية في الجزء الغربي من المحيط الهادئ"، إلى جانب بعض دول آسيا، محذراً من أن موسكو ستواصل مساعيها الرامية إلى تعزيز قدرات القوات البحرية الروسية، بما في ذلك مكونها "النووي الاستراتيجي"، بهدف الحفاظ على الاستقرار الاستراتيجي وتوازن القوى العالمي.