تتزايد الانقسامات والانشقاقات المتتالية داخل حزب العدالة والتنمية الحاكم، وكان أبرزها انشقاق نائب رئيس الوزراء علي باباجان، ورئيس الوزراء الأسبق أحمد داود أوغلو اللذان أعلنا عن تحركات لتأسيس حزب جديد؛ بالإضافة إلى استقالة من يُعتبر المؤسس الفخري لحزب العدالة والتنمية رستم زايدان في آب \أغسطس الماضي.
فما الذي يجري في تركيا ؟، وما هي طبيعة التداعيات الناجمة عن تلك التطورات على السياسات التركية الإقليمية والدولية؟.
هذه الأسئلة وغيرها تناولتها حلقة نقاش نظّمتها الرابطة الدولية للخبراء والمحللين السياسيين ضمن المحاور الآتية:
المحور الأول ـ الوضع السياسي الراهن في تركيا، والتطورات المتوقعة (عضو المجلس المركزي لحزب الشعوب الديمقراطي الأستاذ بركات قار ، تركيا).
المحور الثاني ـ التموضع التركي بين الشرق والغرب في ضوء المتغيرات الداخلية والدولية (الأكاديمي والباحث المتخصص في الشؤون التركية د. محمد نور الدين – لبنان).
المحور الثالث ـ العلاقات التركية – الإسرائيلية: بين التحالف والتنافس (الأستاذ هادي قبيسي ـ لبنان).
وقائع الجلسة:
افتتح رئيس الرابطة د.طلال عتريسي الحلقة بالترحيب بالحضور؛ ثم قدم موضوع الحلقة، وأبرز التساؤلات التي تدور حوله؛ معتبرًا أن الوضع التركي أكثر تعقيدًا في محاولة فهم تأثير الاستقالات داخل حزب العدالة والتنمية في الداخل التركي.
وقال: هناك أكثر من وجهة نظر حيال ما تشهده تركيا من تطورات، فهناك وجهة النظر المتعلقة بالزاوية الكردية التي يمكن أن تكون حادة، وهناك الناحية السورية من العام 2011 وحتى اليوم؛ هناك وجهة نظر تتعاطى مع تركيا كقومية مختلفة عن القومية العربية قومية، وهناك من يحاسب تركيا على علاقاتها بإسرائيل، وهناك وجهة نظر عربية قومية لتركيا تتعاطى معها كقومية مختلفة، ورؤية ايرانية ايجابية منذ انتصار الثورة حتى 2011، وإن حصل الاشكال في ما يتعلق بسوريا ولا مانع من عودة العلاقات لان الحدث ظرفي وله تداعياته.
ورقة الأستاذ بركات قار
بعنوان: الوضع السياسي الراهن في تركيا، والتطورات المتوقعة:
بعدها قدّم الأستاذ بركات قار مداخلته، ومن أبرز النقاط التي وردت فيها:
يقود حزب العدالة والتنمية تركيا منذ 17 عامًا في معزل عن بقية الأحزاب المتمثلة في البرلمان، وبالإعتماد على الطرق والزوايا الدينية والطائفة السنية تحت شعار " الأطروحة الاسلامية التركية "، وبرنامج سياسي جمع بين الليبراليين والقوميين والاسلاميين والمحافظين واليمين المركزي التقليدي. والاطروحة الاسلامية التركية التي اتى على ارضيتها ليست خاصة بتركيا، بل لها جذور بالعثمانية الجديدة.
اتفق اردوغان، وعبدالله كول، وداود اغلو، وباباجان، وبولنت ارج والمؤسسون الاخرون على تغيير أسس الدولة العلمانية بدولة اسلامية اخوانية سنية، والانتقام من العلمانيين الذين قادوا تركيا 80 عامًا متجهين إلى الغرب مع مقاطعتهم وعدم اتاحة الفرص للطرق الدينية والزوايا وما يتبعها من أذرع في كل أنحاء تركيا، عدا عن تشكيلات أخرى هنا وهناك.
علما أنه يوجد اليوم حوالي 30 طريقة دينية و 400 ذراع تابع له، وأغلبها يعمل من خلال الشركات والاوقاف التي أسستها في قطاع التجارة والاعلام والصناعة حتى أصبحت قوة اقتصادية تفرض ما تريده في مجال السياسة. وعمل حزب العدالة على حماية هذه القوى كرصيد جماهيري ومخزن للتصويت في الانتخابات. ويوجد 575 تنظيم علوي في تركيا، وهؤلاء بنوا اتحادات في تركيا وخارجها وشكلوا كتلة كبيرة ضده.
اردوغان بحكم وجوده كرئيس وعلاقاته الدولية استطاع اكتساب الرأي العام الخارجي والداخلي ضد شريكه الرأسمالي وقائده الروحي جولان وتغلب عليه بافشال الانقلاب الذي قام به (15/ تموز 2016) ، والانقلاب ضد جميع معارضيه وبالاخص الديمقراطيين والعلمنين وحتى الاسلاميين المعادين للرأسمالية. وذلك من خلال اعلانه حالة الطوارئ و البدء بالاعتقالات وطرد كل معارض له من الوظيفة من خلال المراسيم الرئاسية تحت ذريعة الانتماء لحركة جولان او حزب العمال الكردستاني. وتم العمل على تغيير النظام عبر استبداله بالنظام الرئاسي لاحتكار السلطة القضائية والتشريعية والتنفيذية.
ان تزامن الازمة الاقتصادية والسياسية وفشل السياسات الخارجية وبالاخص الرهان على اسقاط النظام في سوريا الذي كان من اهم المطبات التي انعكست على داخل حزب العدالة والتنمية أولًا والمجتمع ثانيًا.
اذا نظرنا على الخارطة السياسية التركية موضوعيا نرى التالي:
ـ الازمة الاقتصادية
ـ المجتمع بحالة استقطاب بين كردي وتركي، وعلوي وسني، واسلامي وعلماني، ومعارض وموالٍ للنظام والسلطة الحالية.
ـ استهداف حزب الشعوب الديمقراطي وتجريمه تحت ذرائع باطلة كوصفه بأنه امتداد لحزب العمال الكردستاني؛ علمًا أنه يحتفظ ب62 نائبًا بالبرلمان عدا عن النواب ال 6 المعتقلين، وحصوله على 6.5 ملاين من صوت في الانتخابات الاخيرة التي فاز فيها بالحصول على 65 رئيس بلدية منهم ثلاث بلديات كبرى.
ـ الاصرار على حل القضية الكردية عسكريًا، ومحاربة القوى التي تنادي بالحل السياسي السلمي.
ـ الاصرار على الاستمرار بالسياسة الخارجية الفاشلة تجاه سوريا واستغلال قضية الامن القومي لاخضاع الرأي العام تحت ذريعة الأخطار المحدقة بتركيا من سوريا الى العراق الى اليونان وشرق جزيرة قبرص.
ـ اعطاء المحافظين الصلاحيات الكاملة حتى يتسنى لهم منع جميع الفعاليات المعارضة وحظر الحريات والتظاهر وحق التعبير.
ـ التدخل الفعلي في شؤون القضاء والبرلمان من خلال الاغلبية نتيجة التحالف مع حزب الحركة القومي(الفاشي).
ـ لايزال 285 الف انسان في السجون في أسوأ الحالات و الحد الادنى للأجور لايزال 2020 ليرة تركي. والبطالة بحسب الارقام المعلنة 4 ملايين ونصف عاطل عن العمل، لكن الرقم بحسب الاحصاءات النقابية تجاوز الـ 8 ملايين، والحقوق انعدمت، وبعد محاولة الانقلاب في 2016 ضرب اردوغان المعارضة ضده من خلال انقلاب مضاد سياسي.
على ضوء هذه المعطيات الموضوعية اذا ما تم تأسيس الأحزبين الجديدين بزعامة داود اوغلو وباباجان لا شك سيكون التداعيات والتغيرات مهمة على صعيد الخارطة السياسية وسياسة حزب العدالة والتنمية الخارجية. الواضح ان علي باباجان وداوود اوغلو لن يتفقا وكل واحد منهما سيذهب الى انشاء حزب وحده، واردوغان يحاول قطع الطريق عليهما.
ان نقطة ضعف داود اوغلو الكبيرة تكمن بتقاسم المسؤولية مع اردوغان وتحمل مسؤولية السياسات التي مورست من قبل سلطات حزب العدالة وعدم معارضته حتى عزله من الحزب؛ وعلى الرغم من معارضته وتمرده إلا أنه لم يفصح عن برنامج يتخطى نهج حزب العدالة الذي يتمسك بالاسلام السياسي السني، و فكرة احياء العثمانية الجديدة.و
المعطيات تشير الى انطلاقته على ارضية حزب العدالة وأخطائه فقط . هذا الامر لا يمكنه من تشكيل هالة خطيرة على اردوغان واضعاف حزب العدالة. حقيقة الامر لايزال يوجد غموض كبيرة حول داود اوغلو و مسار طريقه من جوانب كثيرة.
اما بالنسبة ل باباجان وعبدالله كول فالأمر يختلف تمامًا؛ من خلال تصرحاتم المتكررة يتبين أنهما يعارضان النظام الرئاسي وتجميع السلطات الثلاثة: القضائية، والتشريعية والتنفيذية بيد واحدة. يتبنيان النهج الليبرالي على كل الاصعدة من دون التقوقع في اطار الاسلام السياسة الاخواني ويعتبران ان تركيا عزلت نفسها، ولا يوافقان اردوغان على سياسته التعسفية تجاه المعارضة بما فيهم الاكراد.
بالاغلب في المستقبل القريب اردوغان سيتراجع ويقيم العلاقات الدبلوماسية مع دمشق.
ورقة د.محمد نورالدين بعنوان:
التموضع التركي بين الشرق والغرب في ضوء المتغيرات الداخلية والدولية
أثار التعاون التركي مع روسيا وإيران بشأن الأزمة السورية في إطار ما يسمى بـ "مسار أستانا" وإبرام صفقة اس 400 مع روسيا، ومن ثم استمرار الخلاف التركي مع الولايات المتحدة وما يواكبه من عقوبات وتوترات، تساؤلات كثيرة ومشروعة عما إذا كانت تركيا بصدد إحداث تغيير جذري في خياراتها السياسية بين "الغرب" الأميركي- الأوروبي وبين "الشرق" المتمثل في هذه الحقبة بروسيا وإيران.
والإجابة عن مثل هذا السؤال أمر يوجب استحضار مختلف العوامل المحددة لسياسات وخيارات تركيا الخارجية،من زوايا تاريخية ومصالح راهنة.
مع أن تركيا العثمانية حتى الحرب العالمية الأولى كانت تتحالف مع جزء من اوروبا دون الآخر، فإنه بعد الحرب العالمية الثانية تحديدا باتت تركيا قبالة كتلة اوروبية واحدة المسماة اليوم بـ "الإتحاد الأوروبي"،وامام "غرب واحد" يشمل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.
في المقابل تركيا ليست أمام "شرق واحد" أي إن إيران ليست وروسيا في حلف واحد بنيوي على غرار الاتحاد الأوروبي او حلف شمال الأطلسي.كما إن الشرق الاسلامي ليس واحدا حتى داخل الكتلة السنّية.فيكون الحديث عن مصطلح "شرق" او مشرق" واحد، غير علمي وغير عملي. لكن العلاقات مع الغرب شهدت مسارين مهمين: الأول فكري والثاني بنيوي.
بعد الحرب العالمية الثانية كانت تركيا تدخل في منظومة بنيوية تتجاوز أفكار الإصلاح لتصبح عام 1952عضوا في حلف شمال الأطلسي ولتبدأ منذ نهاية الخمسينيات وخصوصا مع بروتوكول أنقرة 1963 مسار الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، والذي لم يصل بعد إلى نهايته.
في المقابل لم يكن هناك أي مسار إصلاحي ولا فكري ولا بنيوي مع "الشرق" الروسي او الإيراني او العربي.بل كانت إقامة علاقات تركية مبكرة مع الكيان الصهيوني تأكيدًا على خيارات تركيا "غير المشرقية" بعد الحرب العالمية الثانية.
لم يكن انتصار حزب العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب إردوغان في العام 2002 عاديا.فللمرة الأولى يصل حزب إسلامي إلى السلطة بمفرده أي يسيطرعلى البرلمان ويشكل حكومة بمفرده ويوصل عام 2007 رئيسا للجمهورية من بين صفوفه هو عبدالله غول.أي إنه قادر على اتخاذ القرارات الحاسمة بحرية.
لم تكن لدى العدالة والتنمية أي مشكلة فكرية او سياسية أو امنية مع الغرب تختلف عن تلك التي كانت قائمة في ظل الأحزاب العلمانية التي سبقته إلى السلطة على امتداد عقود. كان لدى الحزب مشكلة – عقدة مع المؤسسة العلمانية المتشددة وحارستها المؤسسة العسكرية.لذا ركّز في تحركه على محاولة كسر نفوذ المؤسسة العسكرية ونجح في ذلك في استفتاء عام 2010 وفي إفشال المحاولة الانقلابية في 15 تموز 2016.
في المقابل كان حزب العدالة والتنمية مؤيدًا لمشاركة تركيا في غزو العراق عام 2003 لكن تمرد بعض نوابه مع نواب المعارضة أفشل القرار في البرلمان ما ازعج إردوغان. كذلك انخرط إردوغان في مشروع "الشرق الأوسط الكبير" ونصّب نفسه عام 2005 رئيسًا إقليميًا للمشروع في ظل رئاسة جورج دبليو بوش العامة له.
وفي خطوة لم يتجرأ حتى العلمانيون عليها، كان إردوغان ـ ومعه رئيس الجمهورية عبدالله غول وكبير المستشارين حينها احمد داود اوغلو ـ اول زعيم تركي يدعو رئيس الدولة العبرية شمعون بيريز لإلقاء كلمة امام البرلمان التركي في خريف 2007 وينال جائزة الشجاعة من اللوبي اليهودي في اميركا.
ومع دخول المنطقة في حقبة ما يسمى بـ "الربيع العربي" كان التعاون التركي – الأميركي – الأوروبي كاملًا ميدانيًا وديبلوماسيًا لإسقاط النظام السوري وإضعاف إيران. ووصل الأمر إلى إعلان تركيا سوريا "عدوا" وإلى إسقاط طائرة روسية خريف 2014.
وحده الخلاف على دعم قوات الحماية الكردية في سوريا كان شرارة التوتر في العلاقات بين أنقرة وواشنطن اذ اعتبرت تركيا ان كيانًا كرديًا على حدودها الجنوبية يشكل تهديدًا لها.
من هنا بدأت لعبة عض الأصابع بين الطرفين: محاولات تركية لثني واشنطن عن دعم الأكراد وسعي اميركي لتكريس انقسام سوريا منطلقا لتقسيم المنطقة.
لم تخرج تركيا من العباءة الأميركية ولم تكن هي البادئة.لكن لم يكن لها ان تقف متفرجة دون اللجوء إلى خطوات ضغط مقابلة.فكان التهديد بشراء أس 400 من روسيا كورقة ضغط على واشنطن منذ عهد باراك اوباما واستمر التلويح بهذه الورقة 3 سنوات كاملة، من دون ان تغير أميركا موقفها من الأكراد ومن رفضها بيع تركيا منظومة باتريوت بدلا من أس 400.
في المقابل فإن انخراط تركيا في مسار أستانا لم يكن خيارًا، بل ردة فعل على مواقف واشنطن من سوريا خصوصًا أكراد الشمال.
إذا كان "السماح" لتركيا باحتلال الشريط من جرابلس إلى عفرين فإدلب يضعف الانفصالية الكردية والنفوذ الأميركي، فإن الأطماع التركية في استعادة حدود "الميثاق الملّي" لعام 1920 غير خافية وأنقرة تجاهر بها علنًا.
مسار أستانا يحقق لتركيا وروسيا مكاسب عملية بينما يقدم مكاسب وهمية للمحور الإيراني- السوري إلى حد إقامة منطقة منزوعة من السلاح لم تتحقق بعد بين "دولة" هي الدولة السورية، وبين جماعات وعصابات إرهابية تدعمها تركيا، وهذا غير مقبول ومضر معنويًا للدولة السورية.
تحقق تركيا مكاسب من صحن "المشرق" فيما لا تزال جزءًا كاملًا من الالتصاق البنيوي بالغرب:
1- اقتصاديا ترتبط تركيا بالاتحاد الأوروبي واميركا.45 في المئة من تجارة تركيا الخارجية مع الاتحاد الأوروبي و5.2 في المئة مع الولايات المتحدة.49 في المئة من تجارة تركيا الخارجية بالدولار و42 في المئة باليورو.80 في المئة من الاستثمارات الخارجية في تركيا غربية.بينما قيمة التعاملات التركية بالروبل الروسي 0.1 في المئة.
2- عسكريا وأمنيا فإن أكثر من 80 في المئة من سلاح الجيش التركي هو من الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا.
3- وعلى الصعيد السياسي تعرف تركيا أن كلفة الانفصال عن الغرب بل حتى الخروج من حلف شمال الأطلسي فضلًا من مسار الاصلاحات الأوروبية، وإن كانت بطيئة احيانا ومتعثرة أحيانا أخرى كبيرة جدًا على الأمن القومي لتركيا ووحدة أراضيها،خصوصًا أن جانبًا مهمًا من مشكلات تركيا هي ذات طابع غربي حضاري، مثل المسألة الأرمنية وقضية قبرص والصراع مع اليونان والعلاقة المتشنجة مع الكنيسة الأرثوذكسية في اسطنبول.
4- حلف شمال الأطلسي لن يسمح لتركيا لدورها الطليعي والوازن داخل الحلف أن تخرج منه بسبب خلافات ظرفية أومزاجات رئيس معين سواء في "بش تبه" او البيت الأبيض. ولو تطلب الأمر أكثر من محاولة انقلابية او اغتيالات كما حصل في 15 تموز 2016 أو حتى تنازلات كما حصل في الإتفاق الأولي على "المنطقة الآمنة" بين انقرة وواشنطن في 7 آب 2019.
5- وفي الوقت نفسه ليست إيران ولا روسيا بديلا اقتصاديًا مغريًا عن الغرب، ولم تخرجا بعد من صورة "العدو" المتشكلة عبر التاريخ في الوعي التركي. فتركيا تحاول الاستفادة منهما قدر الإمكان كورقة ضغط على الغرب من جهة،ولتحقيق مصالح اقتصادية وامنية من جهة أخرى، لكن ليس على حساب العلاقات الاستراتيجية مع الغرب(بما فيه إسرائيل).
5- لا تختلف كثيرًا مواقف العلمانيين والمؤسسة العسكرية وفي السياق أحزاب المعارضة،وفي رأسها حزب الشعب الجمهوري عن موقف الإسلاميين.فالجميع مع استمرار العضوية في "الأطلسي" والعلاقات مع أميركا واستمرار المسار الأوروبي في الإصلاح وإقامة أفضل العلاقات مع إسرائيل والنظر إلى إيران وروسيا كـ خطرين و"عدوين" واعتبار المسألة الكردية داخل تركيا وشمال سوريا والعراق مسألة إرهاب وانفصال.جل ما أقدمت عليه المعارضة هو الاعتراض على سياسات تكتيكية لأردوغان أوصلت إلى نتائج لا تخدم مصلحة تركيا مثل الوضع في شمال سوريا واللاجئين السوريين والخلاف مع أميركا فضلا عن قضايا داخلية مثل محاولات أسلمة الدولة.
في الخلاصة إن الحديث عن انحياز أو انزياح لتركيا عن تموضعها الغربي ليس واقعيًا.
ورقة الأستاذ هادي قبيسي
بعنوان: العلاقات التركية الإسرائيلية من التحالف إلى التنافس:
ثمة عوامل عديدة تدفع تركيا إلى المنافسة مع النفوذ الإسرائيلي الإقليمي، أهمها :
نتيجة لتلك الظروف والعوامل وكذلك السياسات وصلت تركيا إلى تموضع غير محسوم ومحاولة المحافظة على التوازن في العلاقات مع الجميع، لكن هناك ميل حاد واضطراري وغير إرادي لدى تركيا بما يعارض الرؤية الإسرائيلية للأمن القومي للكيان، حيث ترى تركيا أنها ضعفت لصالح إسرائيل بعد الربيع العربي، ودفعت ثمن الحرب السورية هي وقطر، والمستفيد الأول هو إسرائيل التي لم تدفع أي ثمن.
وقسّم قبيسي الخلافات بين الطرفين إلى ثلاثة مستويات :
1)مشكلة أصدقاء : صديق لطرف هو عدو للطرف الآخر،
2)مشكلة قوة : عوامل تخل بالتوازن أو مساحات تنافس بين الطرفين،
3) مشكلة موارد : صراع على الموارد والتصريف في الأسواق.
كما صنّف هذه المشكلات إلى مراتب ثلاثة : وجودي، ومؤثر، وجانبي؛ بحيث نتمكن من تقدير وتقييم حجم المشكلة بينهما وأثرها على مجمل العلاقة حالياً ومستقبلياً.
وقال تبدو مشكلات العلاقات مع الأصدقاء بين كل من تركيا وإسرائيل معقدة وكلها يصعب حلها، ويدخل دور اللاعب الأمريكي في التخفيف من النزاعات أو ضبط مستوى التأزم فيها أو تبريد حرارتها كعامل مؤثر ومهم، لكنه يتأثر باضطراب العلاقات التركية الخارجية التي تتميز في هذه المرحلة بالتقلب وإمساك العصا من الوسط وازداد عدم استقرارها بعد الدخول الروسي المؤثر إلى الشرق الأوسط، وتمكن سياسة العلاقات الخارجية المتعددة المنظورات في تركيا.
وفي سياق استعراض مشكلات القوة، أشار الأستاذ قبيسي إلى أن أردوغان يحاول أن يقدم تركيا كدولة حرة الحركة وقادرة على استخدام القوة خارج أراضيها وذات مدى حيوي، كما تتصرف إسرائيل نسبياً مع الجوار. هنا تحتك تركيا مع الصورة الإسرائيلية، ولم تقبل أن تكون في ظلها يوماً مثل الإمارات والسعودية مثلاً. وعليه فمستقبلاً، لا يمكن أن يتغير أسلوب الطرفين في تقديم صورتهما في الإقليم نتيجة الثقة الذاتية لديهما، والجذور التاريخية للمشروع القومي في الدولتين.
ولفت قبيسي إلى قضية التسلح إثر الأزمة الأمريكية التركية حول طائرات أف 35 والمنظومة الدفاعية الروسية أس 400، ودخلت إسرائيل على خط الأزمة، نظراً لأنها تريد التفرد في حيازة الأسلحة الأمريكية الأكثر حداثة، كذلك "عبر مسؤولون رسميون في الناتو عن قلق حقيقي حول تواجد أنظمة السلاح الروسية التي قد تسمح لروسيا بحيازة معلومات استخبارية حساسة حول طائرة الأف 35، وبالتالي تحدي تفوقها".
يضاف إلى هذه التعقيدات أنه قبل ذلك بسنوات و"في أكتوبر 2009، وبعد عدة أشهر من المحاولات من كلا الطرفين لتخفيف العداء المتنامي منع أردوغان إسرائيل من المشاركة في مناورات النسر الأناضولي العسكرية، فانسحبت كل من الولايات المتحدة وإيطاليا منها اعتراضاً ما أدى إلى إلغائها، لكن أردوغان لم يتزحزح، واختار تصعيد التوتر في العلاقات مع إسرائيل وفي داخل تركيا عبر سلوكيات معادية لإسرائيل والخطاب الحاد.
كما أشار إلى نقطة هامة في الخلاف التركي الإسرائيلي تعود إلى الإنقلاب العسكري الفاشل الذي حصل بتاريخ 15 تموز 2016 ضد أردوغان، حيث اتهم الأخير فتح الله غولن المقيم في أمريكا بالوقوف خلف المحاولة الفاشلة لإخراجه من السلطة، ولاحقاً اتهم أمريكا والإمارات بدعم الإنقلاب. وتفيد تقارير بوجود علاقة بين غولن وإسرائيل قد تكون بدأت "عام 1998 التقى غولن مع زعيم اليهود السفارديم الحاخام الياهو بكشي دورون في اسطنبول، في أول زيارة له إلى تركيا"، و "خلال لقاء في أواخر التسعينات مع لجنة الدفاع عن اليهود في الولايات المتحدة (Anti Defamation Legue) تحدث غولن حول اعتدال نظرته تجاه الإسلام، اليهود، إسرائيل، وعبر عن وجهة نظر معقولة وغير متطرفة"، ما يدل على استعداد غولن وحماسته لتصحيح العلاقة مع اليهود وإسرائيل، ويدعم هذه التقارير موقف غولن من أزمة مافي مرمرة فـ "في وقت هاجم فيه أردوغان رد الفعل الإسرائيلي على السفينة التركية مافي مرمرة، انتقد غولن المنظمين وفشلهم في التوصل إلى توافق مع إسرائيل : ما أراه ليس جيداً، بل أمر بشع، وهو فعل تحدٍّ لسلطة شرعية ولا يوصل إلى نتائج مثمرة"
يمكن حل هذه المشكلة من خلال تقديم إسرائيل ضمانات حول عدم التواصل مع غولن والمساعدة في تفكيك شبكاته وكذلك التوسط لدى الخليجيين في هذا الصدد، رغم أنها ستبقى مثار قلق بين الطرفين نظراً لخطورة ما جرى، وإمكانية وجود نوايا تركية للرد على هذا السلوك العدائي من إسرائيل تجاه أردوغان، خصوصاً إذا أخذنا بعين الإعتبار القضايا الخلافية الأخرى، مع الإلتفات إلى أن التحليلات ذهبت لربط الحماية الأمريكية لغولن ورفضها تسليمه لتركيا بالخلاف حول الملف الكردي في سوريا، ولا يخفى علينا مدى عمق الدور الإسرائيلي في القضية الكردية كما أشرنا سابقاً، وكونها العقدة الأساسية في النزاع التركي الإسرائيلي، وكذلك التركي الأمريكي.
وفي موضوع الخلاف في سوريا فيتمحور بحسب قبيسي حول عدة نقاط:
ـ مسألة كردستان،
ـ ورقة إدلب وإمكانية توظيفها ضد محور المقاومة،
ـ الموقف التركي من النفوذ الإيراني،
ـ ضم إسرائيل للجولان،
ـ التقارب التركي الروسي وما يمليه من تباعد مع الناتو في قضايا كثيرة.
الخلاف هنا معقد ومتشابك نظراً لتداخل الكثير من الأطراف والعوامل في الساحة السورية وتأزم الموقف التركي هناك بعد خسارة المشروع التركي وتفكك ما تبقى من الأوراق. لكن العامل الأمريكي يدخل هنا كمساهم في التخفيف من الخلاف وتداعياته بشكل يمنع التصادم ويبقي على التنافس.
وضمن مشكلات الموارد ذكر مسألة الغاز ، فقد فشلت تركيا وإسرائيل في التوصل إلى اتفاق حول تصدير الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا، وبدأت إسرائيل بالبحث عن شركاء لنقل الغاز وعثرت على بدائل ثلاث، تقف كلها على خط العداوة مع تركيا : قبرص، اليونان، مصر. فانتقلت أزمة الطاقة لتتحول إلى أزمة موازين قوى وتحالفات ناشئة تخلق القلق والإضطراب في المشهد والتركيب الإقليمي مضافاً إلى أسباب الأزمات الأخرى النشطة في المنطقة.
في الواقع، تركيا وبسياساتها الخارجية المتمحورة حول العثمانية الجديدة التي تتلافى اعتبارات ومتعلقات الواقعية السياسية، يبدو أنقرة بصراعها المستديم مع أثينا حول الخط القاري لبحر إيجة، ومع نيقوسيا حول المسائل القبرصية المؤلمة تعكس العدواة المتجذرة.
الآن هذه العداوة التاريخية يضاف إليها دعم أردوغان للإسلاميين، وموقفه المؤيد للفلسطينيين، وتدخله الإشكالي في قضايا القدس، ومحاولاته لاستهداف شرعية الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وعلاقاته المضطربة مع ترامب. كل هذا دفع القوى الإقليمية الأخرى لبناء ما يشبه تحالف ضد أنقرة. كما أن التدخل التركي العسكري شمال سوريا قد أثر سلباً على موقع تركيا في شرقي المتوسط"
لا بد من الإلتفات بشكل مستقل إلى الدور الأمريكي في التقريب بين الحليفين التاريخيين في المنطقة، خصوصاً في هذه المرحلة حيث تحتاج الولايات المتحدة بعد فشل مشروعها في كل من سوريا والعراق في الإمساك بالدولتين إلى الحفاظ على تقارب حلفائها وإمكانية تعاونهم فيما بينهم لمواجهة تمدد وتعاظم محور المقاومة .
وتبقى المساعي الأمريكية محكومة للشكوك والقلق فـ"المستقبل غير المؤكد للعلاقات التركية الإسرائيلية يمكن أن يضاعف الصعوبات، ويقوض الجهود الجارية في سبيل تحقيق الأهداف الأمريكية في المنطقة عبر تقليص دائرة إمكانية تجنيد حليفين تقليديين"، ويشير بولنت عليرزا من معهد الدراسات الإستراتيجية والدولية إلى أنه "يمكن المجادلة بأن قيام أردوغان بالتفاوض مع روسيا حول شراء صواريخ أس-400 كانت حركة تكتيكية لا تهدف فقط إلى التعبير عن طريقة اتخاذ القرار في تركيا، ولكن أيضاً محاولة لفرض تغيير في السياسات الأمريكية. التعاون الدفاعي مع روسيا بدأ بالتطور والزخم بالتوازي مع استمرارية المشكلات مع الولايات المتحدة دون حل"
بعد ذلك د.أمين حطيط مداخلة قال فيها: صراعنا في كل المنطقة هو بين مشروعين، ومشروعنا هو الاستقلالي التحرري لبناء شرق اوسط لأهله وكل اهله. والسؤال الذي ينبغي ان يطرح مع من يجب بناء الحوار في تركيا لبناء شرق اوسط لأهله؟ يجب ان نوجد بذكائنا وبراعتنا الاستراتيجية فريقًا آخر في الداخل التركي للحوار معهم. وليس من مصلحتنا ان تستمر تركيا رأس حربة الأطلسي ضدنا، ولا ان تُستعمل كقوة سنية بوجه الشيعة. واليوم نحن مجبرون بحكم الجغرافيا والديمغرافيا على البحث عن طرق تعقلن شرها وتُفعل خيرها.
أما الأستاذ قاسم قصير فقد تساءل: كيف نفسر العلاقة الايجابية بين تركيا وإيران طيلة فترة العقوبات على اميركا؟، وقال: إن الشخصيات التي تتولى الانقسام عن العدالة والتنمية مدعومة من الامارات والسعودية؛ فهناك سعي سعودي لاضعاف العدالة والتنمية وانشاء حزب جديد، لكن اضعاف اردوغان في هذه اللحظة قد يكون لصالح التحالف الاماراتي السعودي الاميركي. وعلى الرغم من كل الملاحظات على الاخوان المسلمين الا ان إيران تسعى الى ايجاد أفضل علاقة معهم؛ وإذا كانت تركيا هي الامتداد والحامي للإخوان المسلمين فهذا يعني ان إيران تحرص على اقامة علاقات متينة مع تركيا.
كما قدّم الأستاذ انيس نقاش مداخلة تحدث فيها عن دور الدول الطرفية في العالم، وقال: الدول الطرفية إذا تغيرت الموازين الدولية لا تتأثر كثيرًا. تركيا هي واحدة من هذه الدول، والنظر اليها تركيا او الامثالها بشكل جامد غير منطقي لأنها تميل مع الأحداث التاريخية. وهو ما أثبتته القيادة الايرانية التي تعمل منذ بداية الازمة السورية على منع تركيا من الاستمرار في مشروعها، وإعادتها إلى استقطاب آخر. وهو ما أفضى إلى الشراكة في سوتشي وآستانة، وانتقل دورها بالتالي من المعادي إلى الشريك في الحل. ولابد من امتلاك استراتيجية متكاملة في الحرب: السلاح والاقتصاد والمنظمات المدنية الاجتماعية والأحزاب واعادة التحالفات.
بدوره تناول الأستاذ وليد محمد علي الدور التركي من زاوية المشروع الصهيوني الاميركي الرامي إلى جعل المنطقة بشعوبها وثرواتها فائضًا بشريًا لخدمة الكيان الصهيوني، وقال: نحن في مرحلة حاسمة في مستقبل البشرية، والمطروح علينا خط تصادم بين مكونات هذه المنطقة الطبيعية من أجل فرض الكيان القوة التي تقود المنطقة.
فيما أشار الأستاذ عبد السلام احمد إلى ضرورة حل القضية الكردية، لأن هذه المنطقة لن تهدأ ولن تستقر من دون حلها. وقال: إن اردوغان عندما جمع السلفيين في جرابلس والباب خلق لنفسه مشكلة كبيرة. ليس من السهولة لاردوغان اجتياح منطقة شرق الفرات والقضية سوف تبقى ملتهبة، ومن المؤسف ربط الاكراد بمشاريع اسرائيل في المنطقة.وما أمام أردوغان سوى أحد خيارين: إيجاد حل سلمي للقضية الكردية ولشعب يعد 40 مليونًا وفق مقاربة انسانية تعتمد على اتفاقية اوجلان 2013، أو أن يذهب بتصعيد العنف ونشر الفوضى، وبالتالي الحرب الطويلة الأمد
أما الشيخ خضر نور الدين فقد اعتبر أن مشكلتنا في المنطقة عموما اننا نقدم التكتيك على الاستراتيجية ونحتاج للخلاص من المشروع القائم في المنطقة الى التماسك ووقف التناحر. وقال: سبب اضعاف اردوغان هو التغير في سياساته.
من جهته قال الأستاذ سركيس ابو زيد: إن زمن الحرب الباردة الذي قسم العالم اسود وابيض لم يعد موجودًا، نحن امام علاقات دولية فيها شيء جديد يجب ان نأخذها بعين الاعتبار. هناك تداخل بين الدول وتركيا نموذج بهذا الامر وعلينا ان نأخذ بعين الاعتبار العلاقات بين تركيا وروسيا ومدى تطورها. لكن هناك غياب كامل للدور العربي حول كيفية التعامل مع تركيا وفهمها. أمام كل هذه التحديات نحن معنيون بطرح مشاريع تحقق تكامل هذه المنطقة. كما أدعو غلى حوار عربي كردي.