• اخر تحديث : 2025-02-05 02:35
news-details
تقدير موقف

منذ عقود، واصل الاحتلال الإسرائيلي ارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان في فلسطين ولبنان، ويزداد هذا السلوك العدواني وضوحاً مع كل حرب جديدة في المنطقة. ولم تكن حرب الإبادة التي بدأت في تشرين الأول/أكتوبر 2023 استثناءً، إنما كانت ذروة في سلسلة من العمليات العسكرية التي أودت بحياة العديد من المدنيين الفلسطينيين واللبنانيين. وقد أثارت مجازر غزة ولبنان التي ارتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي بعد هذا التاريخ موجة من الانتقادات الدولية، وهو ما دفع المجتمع الدولي إلى الضغط من أجل محاسبة الجنود الإسرائيليين الذين شاركوا في تلك العمليات. ومع كل خطوة نحو المحاسبة، تتصاعد التساؤلات بشأن تأثير هذه المحاسبة في صورة الاحتلال الإسرائيلي، والضغوط السياسية التي يمكن أن تواجهها منظمات حقوق الإنسان، وكذلك التداعيات القانونية لهذه الجرائم.
 
ركزت العمليات العسكرية الإسرائيلية على تدمير البنية التحتية المدنية في غزة ولبنان، بما في ذلك استهداف الأحياء السكنية، والأسواق، والمستشفيات، والمدارس، وهو ما دفع المنظمات الحقوقية الدولية، كمنظمة "العفو الدولية"، إلى التصريح بأن هذه العمليات تشكل جرائم حرب وفقاً للقانون الدولي. وعلى الرغم من التنديد الدولي والتقارير المستقلة التي أكدت وقوع هذه الجرائم، فقد كان الاحتلال يواصل نفي الاتهامات، وتبرير أعماله العسكرية تحت مسمى "الرد على 'الإرهاب‘".
 
وتُعد مؤسسة هند رجب من المنظمات البارزة في مجال محاسبة الجنود الإسرائيليين الذين ارتكبوا جرائم حرب ضد المدنيين الفلسطينيين واللبنانيين، وقد تأسست سنة 2024 في أثناء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وتهدف إلى متابعة قضايا الجنود المتورطين في الانتهاكات وتقديم الدعم القانوني واللوجستي إلى الضحايا، بالإضافة إلى العمل على توثيق الشهادات والأدلة التي يمكن أن تساهم في محاكمة المتورطين في محاكم دولية. وحتى الآن، فقد تقدمت هذه المؤسسة بطلبات اعتقال لـ 1000 جندي إسرائيلي مزدوجي الجنسية في 8 دول، منها جنوب أفريقيا وسريلانكا وبلجيكا وفرنسا والبرازيل.
 
وتُعتبر هذه المؤسسة جزءاً من حركة واسعة تهدف إلى محاسبة الاحتلال الإسرائيلي على جرائمه في المنطقة، وتعمل بصورة وثيقة مع منظمات حقوقية دولية كهيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية لضمان تقديم الجناة إلى العدالة.
 
محاسبة الجنود: تحديات قانونية وسياسية
تتمثل أبرز التحديات في محاسبة الجنود الإسرائيليين في أنه على الرغم من الأدلة المتزايدة على ارتكاب المجازر، فإن الاحتلال يرفض قبول التحقيقات الدولية، ويصر على أن نظام العدالة العسكري الإسرائيلي كافٍ لمعالجة القضايا المتعلقة بالجنود المتهَمين بارتكاب جرائم حرب. وعلى الرغم من بعض التحقيقات التي أطلقها الاحتلال، فإنها ظلت محدودة للغاية، ولم ترقَ إلى محاكمة قادة جيش الاحتلال أو الجنود المسؤولين عن تلك الجرائم. ومع ذلك، فهناك جهود دولية مستمرة لمحاسبة هؤلاء الجنود، إذ يطالب المجتمع الدولي بتشكيل لجنة تحقيق مستقلة لمراجعة الوثائق والشهادات المتعلقة بالجرائم.
 
وفي السياق السياسي، يُنظر إلى محاسبة الجنود الإسرائيليين على أنهم مرتكبون لجرائم ضد الإنسانية على أنها خطوة حاسمة تعني اعترافاً ضمنياً بأن الأعمال العسكرية التي تم تنفيذها كانت تهدف إلى إبادة الشعب الفلسطيني واللبناني، فقد شمل العديد من العمليات العسكرية التي أطلقها الجيش الإسرائيلي بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر قصفاً عشوائياً على الأحياء السكنية، وهو ما أدى إلى استشهاد الآلاف من المدنيين في غزة ولبنان، وهذا النمط من العمليات لا يمكن أن يُعتبر مجرد "أضرار جانبية" أو مجرد "خطأ عسكري"، إنما هو في جوهره يشكل جريمة إبادة جماعية. وعلى سبيل المثال لا الحصر، يشير تقرير منظمة هيومن رايتس ووتش إلى أن هذه الهجمات كانت تهدف إلى تدمير البنية الاجتماعية والفكرية في غزة، وهو ما يجعل محاسبة الجنود أمراً بالغ الأهمية من الناحية القانونية والسياسية.
 
وكشفت تسريبات من داخل الجيش الإسرائيلي عن حجم التلاعب بالأدلة التي يمكن أن تدين الجنود الإسرائيليين في هذه الجرائم. كما أن أحد الجنود تحدث إلى وسائل الإعلام العبرية تحت اسم مستعار، وأشار إلى أنه تم توجيههم إلى حذف صور ومقاطع فيديو التقطوها في أثناء العمليات العسكرية، والتي تُظهر قتل المدنيين، وأضاف أنه كان يتم "تنظيف" الهواتف المحمولة بطريقة منهجية، وهو ما يثير العديد من التساؤلات بشأن صدقية التحقيقات الداخلية للجيش.
 
وهذا التصرف يشير إلى أن الاحتلال الإسرائيلي يسعى دائماً لتغطية الجرائم المروعة التي ارتكبها جنوده خلال العمليات العسكرية، وهو ما يزيد من تعقيد المسألة القانونية. وفي تحقيق لها، تحققت صحيفة "واشنطن بوست" في كانون الأول/ديسمبر 2024 من صحة أكثر من 120 صورة ومقطع فيديو لحرب الإبادة في غزة نُشرت بين تشرين الأول/أكتوبر 2023 وتشرين الأول/أكتوبر 2024، ومعظمها تم توثيقه بواسطة جنود وشاركوه علناً عبر حساباتهم الشخصية على وسائل التواصل الاجتماعي.
 
أثر محاسبة الجنود في صورة الاحتلال
ستكون لمحاسبة الجنود الإسرائيليين على الجرائم التي ارتكبوها في غزة ولبنان تأثيرات عميقة في صورة الاحتلال الإسرائيلي في الساحة الدولية؛ إذ يمكن أن تعني أن العالم بدأ يتعرف على حقيقة سياسات الاحتلال الإسرائيلي ضد الفلسطينيين واللبنانيين. لكن، كما أشار بعض الخبراء، فإن هذا الاعتراف من جانب إسرائيل أو المجتمع الدولي ربما يؤدي إلى ضغوط دبلوماسية اقتصادية تتأثر بها دولة الاحتلال. وفي الوقت ذاته، يمكن أن تنقلب المواقف السياسية لبعض حلفاء إسرائيل، وخصوصاً بعد أن بدأت دول غربية في انتقاد ممارساتها العسكرية في الآونة الأخيرة.
 
وفيما يتعلق بالمسؤولية عن المجازر التي ارتكبتها قوات الاحتلال، لا يمكن تجاهل الأدوار القيادية التي اضطلع بها كل من وزير دفاع الاحتلال السابق يوآف غالانت، ورئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، بالإضافة إلى اللواء غسان عليان؛ فقد أظهرت التصريحات العلنية لغالانت بعد الحرب عزمه على استمرار العمليات العسكرية على الرغم من مقتل المدنيين، وهو ما يؤكد تواطؤه مع تنفيذ هذه الجرائم. أمّا نتنياهو، فقد ظل يرفض الدعوات الدولية إلى التحقيق، وتمسك بحديثه: "إسرائيل تدافع عن نفسها."
 
أمّا اللواء غسان عليان، فقد كانت تحت قيادته العمليات العسكرية في غزة، وكان له دور مباشر في اتخاذ القرارات التي استهدفت البنية التحتية المدنية في القطاع، وكانت مؤسسة هند رجب قد طالبت باعتقاله في إيطاليا بسبب جرائمه في غزة. وتكشف التقارير التي ظهرت لاحقاً أن عليان كان جزءاً من التوجيهات التي أبعدت المعايير الإنسانية عن حسابات العمليات العسكرية. والأهم هنا إذنه إذا تم تقديم هذه الشخصيات إلى المحاكمة الدولية، فإن ذلك سيشكل ضربة قوية للهيبة السياسية والعسكرية لإسرائيل؛ فالمطالبة بمحاكمة المسؤولين عن هذه الجرائم يشير إلى أن المجتمع الدولي لا ينظر إلى هذه الحروب كعمليات عسكرية فحسب، بل أيضاً كأفعال مدانة دولياً من أجل تدمير شعب بأسره.
 
الإعلام العبري: تبرير أم تحريض؟
أدى الإعلام العبري دوراً رئيسياً في تشكيل الرأي العام المحلي والدولي بشأن العمليات العسكرية في غزة ولبنان. في البداية، كان الإعلام الإسرائيلي يقدم العمليات العسكرية كردة فعل طبيعية على الهجمات الفلسطينية، مع التشديد على الدفاع عن النفس، ومع مرور الوقت وتزايُد الأدلة على وقوع مجازر بحق المدنيين، بدأت وسائل الإعلام العبرية تتجنب الإشارة إلى الأضرار الجانبية جدياً، إذ اعتمدت على مواقف دفاعية تبرر استخدام القوة المفرطة.
 
وتشير دراسات إعلامية إلى أن الإعلام الإسرائيلي استخدم أساليب تحريضية لتبرير القتل الجماعي في غزة ولبنان، إذ تم استهداف المدنيين بصورة متعمدة تحت شعارات مكافحة "الإرهاب". وهذه الأساليب الإعلامية كانت جزءاً من الحرب النفسية التي تروج لها إسرائيل، محاوِلة تحويل انتباه العالم عن الحقيقة المروعة لما يحدث على الأرض.
 
خاتمة
إن محاسبة الجنود الإسرائيليين على المجازر التي ارتكبوها في غزة ولبنان ستكون بمثابة بداية جديدة في مسار المحاسبة على جرائم الاحتلال الإسرائيلي. وعلى الرغم من التحديات القانونية والسياسية التي تواجه محاكمة هؤلاء الجنود، فإن المحاسبة ستساهم في تحوّل تاريخي في طريقة تعامُل العالم مع الاحتلال الإسرائيلي. ومع ذلك، لا يمكن أن تقتصر المحاسبة على الجنود فقط، بل أيضاً يجب أن تشمل المسؤولين السياسيين والعسكريين الذين ساهموا في توجيه العمليات العسكرية ضد المدنيين في كلَي البلدين.