مثلت منطقة المحيط الهادئ واحدة من مناطق الاهتمام الصيني في السنوات الماضية؛ ففي يوم 26 فبراير 2025 أعرب وزير الخارجية النيوزيلندي ونستون بيترز عن مخاوفه بشأن المناورات العسكرية الصينية الأخيرة التي جرت في بحر تسمان، في اجتماعه مع وزير الخارجية الصيني وانج يي في بكين. وذكر وزير الخارجية النيوزيلندي أن هذه التدريبات جرت بدون إخطار بلاده.
هذا الموقف من جانب نيوزيلندا جاء بعد زيارة رئيس وزراء جزر كوك إلى الصين، في شهر فبراير الجاري، لتسلط الضوء على المنافسة الجيوسياسية المتصاعدة بين القوى الدولية والإقليمية على النفوذ لدى جزر المنطقة؛ فقد التقى رئيس وزراء جزر كوك "مارك براون"، خلال زيارته إلى الصين، كبار الشخصيات السياسية، وأقدم على توقيع عدد من اتفاقيات الشراكة من دون التشاور المسبق مع نيوزيلندا.
وقد أثار هذا الأمر قلقاً لدى ويلينجتون؛ حيث ترتبط جزر كوك باتفاقية ارتباط حر مع نيوزيلندا؛ ما يسمح لها بإدارة شؤونها الخارجية، مع ضرورة التشاور مع ويلينجتون في القضايا المتعلقة بالسياسة الخارجية. وتبدو تلك التحركات الصينية جزءاً من حملة الصين لجذب الدول الجزرية الصغيرة في جنوب المحيط الهادئ؛ حيث استخدمت بكين نفوذها الاقتصادي والدبلوماسي في المنطقة، فيما يقول النقاد إن ذلك محاولةٌ من قبل الصين للحد من نفوذ الولايات المتحدة وحلفائها، ولكي تفتح لنفسها فرصة الوصول إلى الموارد المعدنية ومصايد الأسماك والمكانة العالمية بالمنطقة ككل، بالإضافة إلى سعي بكين إلى تحييد عدد من حلفاء تايوان في المنطقة، والتمتع بنفوذ ووجود عسكري هناك.
سياسات الصين
تتمثل الأهداف الكبرى لبكين في منطقة المحيط الهادئ في إبعاد شركاء تايوان الدبلوماسيين المتبقين لها في المنطقة، وتوسيع نفوذ الصين من خلال اتفاقيات إنفاذ القانون والتعاون العسكري؛ هذا بالإضافة إلى توسيع قدرة البحرية الصينية على العمل بعيداً عن البر الرئيسي، والاستفادة من الموارد الطبيعية الضخمة التي تُوجَد بهذه المنطقة. وفي سبيل تحقيق هذه الأهداف، تبنَّت بكين عدداً من السياسات يتمثل أبرزها في الآتي:
1– مساعي إضعاف علاقة تايبيه بدول المنطقة: فيما يتعلق بعلاقة تايوان بدول جزر المحيط الهادئ، تراجعت عدة دول في المنطقة عن اعترافها بتايوان لصالح مبدأ "الصين الواحدة"، وكان آخرها جزيرة ناورو التي حوَّلت علاقتها الدبلوماسية من تايبيه إلى بكين. وفي الوقت الحالي، لا يوجد سوى ثلاث دول جزرية في المحيط الهادئ تحافظ على علاقات دبلوماسية رسمية مع تايوان: جزر مارشال، وبالاو، وتوفالو، كما حذف منتدى جزر المحيط الهادئ، الذي انعقد في أغسطس 2024، والذي يضم 18 دولة، منها الدول الثلاثة التي تعترف بتايوان، الإشارة إلى تايوان من البيان الصادر عن دول المنتدى عقب انتهاء اجتماع زعماء دول المنطقة السنوي؛ وذلك بعد تلقي شكاوى من مبعوث الصين. وقد أقدمت عدد من الدول على تبني هذه السياسة؛ وذلك للتمتع بعلاقات اقتصادية وطيدة مع بكين التي ترفض الانخراط في أي نوع من التعاون الاقتصادي والتنموي مع الدول التي لا تعترف بسياسة الصين الواحدة.
2– تعزيز التعاون الأمني والعسكري الصيني مع دول المنطقة: تسعى الصين أيضاً إلى توقيع عدد من الاتفاقيات الأمنية مع دول المنطقة، وتعزيز وجودها العسكري في المحيط الهادئ، عبر توقيع عدد من اتفاقيات إنفاذ القانون مع هذه الدول؛ فقد وقَّعت جزر سليمان اتفاقية أمنية مع بكين في عام 2022 واتفاقية شرطة في عام 2023؛ ما أثار مخاوف من أن تسعى الصين إلى الوصول إلى مرافق الموانئ بسفنها البحرية، وتسبَّب في خلق تخوفات دبلوماسية كبرى في واشنطن وكانبيرا. في الوقت نفسه، برزت العديد من الشائعات التي تُفيد باقتراب الصين من إعادة بناء مدرج عسكري في جزيرة كيريباتي، يقع على بعد 2400 ميل فقط جنوب غرب هاواي. وفي الواقع، شوهد ضباط شرطة صينيون في كيريباتي في وقت سابق من عام 2024؛ ما دفع الولايات المتحدة إلى التعبير عن قلقها من هذه الخطوات في فبراير من العام ذاته.
3– دعم مشاريع البنى التحتية بجزر المحيط الهادئ: ساهمت الصين في تمويل وتنفيذ العديد من المشاريع التنموية والأبنية الهامة في الدول الجزرية؛ ففي ساموا – على سبيل المثال – بنت الصين مبنى حكومياً هاماً في قلب العاصمة أبيا في عام 1993. وقد تحوَّل هذا المبنى إلى مزار سياحي وأحد أهم رموز المدينة؛ وذلك عقب صموده أمام الزلزال الذي ضرب ساموا في 2009، بالإضافة إلى دعم الشركات الصينية تدشين مطار فاليولو الدولي في أبيا، الذي يُعَد واحداً من أكثر المطارات الدولية حداثةً في جنوب المحيط الهادئ، ومركز المؤتمرات الدولي، وأكبر منشأة رياضية شاملة في الجزيرة؛ هذا بجانب حديقة الصداقة الصينية الساموية ومركز الفنون الثقافية، وحديقة أبيا.
4– تقديم العديد من فرص التعاون الاقتصادي لجزر المنطقة: وعدت الصين بالعمل على تعزيز قطاع السياحة في بالاو عبر تشجيع السياح الصينيين على قضاء عطلاتهم المختلفة في هذه الدولة الجزرية؛ هذا بجانب تقديم حوافز اقتصادية لجزر مارشال، كما كشف تقرير صادر عن "معهد لوي"، وهو مجموعة بحثية مقرها أستراليا، خريطة المساعدات للمحيط الهادئ، التي تقوم بتتبع القروض والمنح الممنوحة للمنطقة بالتفصيل، عن تجاوُز الصين الولايات المتحدة، واستعادتها مكانتها باعتبارها ثاني أكبر مانح لجزر المحيط الهادئ. ووفقاً للتقرير الذي نُشر في نوفمبر 2024، فإن الصين قد استثمرت مليارات الدولارات في دول جزر المحيط الهادئ، في محاولةٍ لزيادة نفوذها في المنطقة وسط التنافس مع الولايات المتحدة وحلفائها. وبعد انخفاض الاستثمار خلال جائحة كوفيد–19 في عام 2020، استأنفت الصين تركيزها على المشاريع في جزر المحيط الهادئ في عام 2022، وهو العام الأخير المشمول في التقرير. وفي حين أن إجمالي التمويل التنموي من جميع الدول إلى الجزر انخفض بنسبة 18% في عام 2022 وسط الجائحة العالمية؛ ضاعفت الصين من تمويلها للجزر في ذلك العام بنسبة 6% بدعم بلغ 256 مليون دولار. وهذا يمثل زيادة تُقارِب 14% مقارنةً بثلاث سنوات سابقة.
5– توسيع اتفاقيات الشراكة الاستراتيجية مع دول المحيط الهادئ: تهتم الصين بتوقيع اتفاقيات الشراكة الاستراتيجية مع دول المحيط الهادئ، ولعل آخر هذه النماذج جزر كوك؛ حيث تم الإعلان في شهر فبراير الجاري، وبالتوازي مع زيارة رئيس وزراء جزر كوك إلى بكين، عن توقيع اتفاقية شراكة استراتيجية بين الطرفين، تشمل التعاون في مجالات مختلفة، تمتد من التعدين في أعماق البحار إلى المِنَح الدراسية التعليمية، ولكنها تستبعد العلاقات الأمنية، كما أشارت تقارير إلى أن وثيقة الشراكة تشمل التعهُّد بالمزيد من التمويل من الصين لمشاريع البنية التحتية والمِنَح الدراسية التعليمية. وستساعد جزر كوك الصينَ في تأمين معاملة تفضيلية في الاجتماعات الإقليمية لدول المحيط الهادئ.
6– مساعي بكين لتوسيع المناورات والتدريبات العسكرية في المنطقة: سعت الصين خلال الفترة الماضية إلى تمديد نطاق مناوراتها وتدريباتها العسكرية في منطقة المحيط الهادئ؛ ففي يوم 21 فبراير الجاري، أجرت الصين تدريبات بحرية في بحر تسمان بالمحيط الهادئ، وهو ما أثار انتقادات من جانب أستراليا ونيوزيلندا؛ حيث ذكرت وزيرة الدفاع النيوزيلندية جوديث كولينز لراديو نيوزيلندا، يوم 24 فبراير الجاري، أن التدريبات بالذخيرة الحية جرت بعد إشعار لم يتجاوز "بضع ساعات" بدلاً من الإشعار المتوقع الذي يتراوح بين 12 و24 ساعة، وأضافت أن حكومتها "تسعى إلى الحصول على ضمانات من السفارة الصينية بشأن الأنشطة المستقبلية".
تحديات رئيسية
على الرغم من نجاح الصين خلال الآونة الأخيرة في تعزيز نفوذها لدى دول جزر المحيط الهادئ، فإن سياسات الصين تجاه هذه المنطقة تواجه العديد من التحديات التي يمكن تلخيص أبرزها في:
1– الحضور الأمريكي الكبير في المنطقة: يبدو أن التحدي الكبير الذي تواجهه الصين في علاقتها مع جزر المحيط الهادئ، يتمثل في عدم قدرتها على تشكيل وبناء نظام إقليمي جديد يحل محل النظام الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة في المنطقة؛ فمن المرجح أن يظل دور الصين في جنوب المحيط الهادئ دوراً تعديلياً بشكل أساسي، يقتصر على تعطيل النظام القائم بدلاً من إنشاء نظام جديد. يعود هذا إلى حقيقة أن الولايات المتحدة تمتلك نفوذاً تقليدياً وقوة ناعمة كبيرة في جنوب المحيط الهادئ؛ لأسباب عديدة، منها وجودها الأمني القوي عبر أراضيها في جوام وساموا الأمريكية، واتفاقيات الارتباط الحر التي تجمع الدول الجزرية بالولايات المتحدة، وتقاليدها الطويلة في الدبلوماسية العامة، التي تشمل منح المواطنين من ميكرونيزيا، وجزر مارشال، وجمهورية بالاو، سهولة الوصول والعمل والإقامة في الولايات المتحدة.
2– دخول بكين في منافسة على النفوذ مع أستراليا ونيوزيلندا: يؤدي توقيع عدد من الاتفاقيات مع الدول الجزرية في المحيط الهادئ، إلى دخول بكين في منافسة حقيقية مع أستراليا ونيوزيلاندا، اللتين عملتا على إنشاء نظام إقليمي أمني قوي بين جزر المنطقة منذ انتهاء سيطرة النظام الإمبراطوري الياباني على هذه الجزر؛ فمع تقارُب الصين مع جزر المحيط الهادئ، سرَّعت الدولتان خطواتهما الرامية إلى تعزيز روابطهما الثنائية مع دول المنطقة؛ فعلى سبيل المثال، أبرمت أستراليا معاهدة اقتصادية وأمنية مع ناورو في ديسمبر 2024، وتعهَّدت بتقديم 100 مليون دولار أسترالي (64 مليون دولار) لدعم الميزانية المباشر على مدى خمس سنوات، و40 مليون دولار أسترالي لتعزيز الأمن في الدولة الجزرية النائية في المحيط الهادئ، التي تتودَّد إليها الصين أيضاً خلال هذه الفترة. هذه هي الصفقة الأمنية الثانية التي أبرمتها أستراليا في جزر المحيط الهادئ، والتي تمنع الصين فعلياً من تشكيل علاقات شرطية بعد صفقة مماثلة مع توفالو، وتمنح أستراليا حق النقض على المشاركة الصينية في أمن ناورو أو في قطاعها المصرفي أو قطاع الاتصالات.
3– تعارُض أنشطة الصين العسكرية مع متطلبات الأمن للدول الجزرية: على الرغم من دخول بعض جزر المنطقة في اتفاقيات عسكرية وأمنية متنوعة مع الصين، فإن أنشطة الصين العسكرية في المنطقة قد تهدد أمن الدول الجزرية، وهو ما قد يقلل من إقبال الجزر على التعاون الكبير مع بكين في شتى المجالات؛ فعلى سبيل المثال، وجهت دولة كيريباتي الواقعة في المحيط الهادئ انتقادات هي الأولى من نوعها للصين بشأن إطلاق صاروخ باليستي عابر للقارات في أكتوبر 2024، قائلةً إن المحيط الهادئ لا يعد بمنزلة "جيوب معزولة، ولا نرحب بتحركات بكين". الجدير بالذكر أن جزيرة كيريباتي – وهي دولة في المحيط الهادئ في هاواي مع منطقة اقتصادية خالصة شاسعة تبلغ مساحتها 3.6 مليون كيلومتر مربع (1.4 مليون ميل مربع) – قد أقامت علاقات وثيقة مع بكين في السنوات الأخيرة، تشمل استضافة الشرطة الصينية عبر أراضيها، إلا أن اختبار الصين الأخير للصواريخ في المنطقة دفع الحكومة إلى انتقاد بكين.
4– تخوفات من وقوع الدول الجزرية في فخ الديون الصيني: بين عامي 2008 و2016، أقرضت البنوك الصينية أكثر من 1.1 مليار دولار للمنطقة؛ ما أثار مخاوف من أن تصبح المنطقة أكثر عرضةً للضغوط الدبلوماسية من بكين، إلا أن تقارير لمعاهد بحثية أكدت أن الصين اتخذت في الآونة الأخيرة نهجاً أكثر استراتيجيةً تجاه تمويلها؛ حيث تحوَّلت بعيداً عن التمويل عبر الديون، باتجاه توفير المِنَح الكبيرة والمشاريع على مستوى المجتمعات المحلية. ومن أمثلة المشاريع على مستوى المجتمعات المحلية، التبرع بالمركبات للحكومات المحلية، والمِنَح النقدية للمدارس، وتقديم معدات زراعية للمزارعين المحليين. وعلى الرغم من هذا التحول في استراتيجيات المساعدات، لا تزال الصين تشارك في تمويل الديون الذي قد يكون محفوفاً بالمخاطر، مثلما حدث في جزر سليمان وفانواتو؛ حيث تفاقمت مخاطر الديون بشكل كبير على مدى السنوات الأخيرة.
خلاصة القول: يُتوقَّع أن تستمر الصين في تبني سياسة خارجية نشِطة تجاه دول المحيط الهادئ، والسعي إلى تعويض الفراغ الذي تركته الولايات المتحدة بإلغاء عدد من البرامج التنموية التي كانت تُقدِّمها وكالة التنمية الأمريكية للدول الجزرية.