في الأول من أغسطس 2025 صدر عن البيت الأبيض ما يفيد بإقالة السيدة إريكا ماكنتارفر، مفوضة إحصاءات العمل. وبدأ البيان الصادر عن البيت الأبيض بالعبارة التالية: "لقد أدى تاريخ طويل من عدم الدقة وعدم الكفاءة من جانب إريكا ماكنتارفر، مفوضة مكتب إحصاءات العمل التي عينها بايدن سابقاً، إلى تآكل الثقة العامة في الوكالة الحكومية المكلفة بنشر البيانات الرئيسية التي يستخدمها صناع السياسات والشركات لاتخاذ قرارات مهمة". وذكر البيان أنه في عهد ماكنتارفر، دأب مكتب إحصاءات العمل على نشر أرقام وظائف متفائلة للغاية، ليتم تعديلها لاحقاً بهدوء، كما عانى مكتب إحصاءات العمل باستمرار من أخطاء فنية وتسريب معلومات حساسة.
لم تكن مبررات هذا القرار الذي أورده البيت الأبيض من الأمور المتفق عليها سواء في الدوائر السياسية أم البيروقراطية، بل كانت إضافة لحالات عديدة تجسد الاستقطاب المتزايد الذي يشهده المجتمع الأمريكي. ولم يقتصر الجدل على الولايات المتحدة الأمريكية، فعلى الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، وفي 4 أغسطس 2025، أصدر المعهد الدولي للإحصاء (International Statistical Institute) بياناً يندد بالقرار، وأشار البيان إلى أنه على الرغم من أن القرار هو ضمن الصلاحيات المخولة للرئيس الأمريكي، إلا أن الدافع وراء القرار يثير تساؤلات جدية حول انتهاك المبادئ الأساسية للإحصاءات الرسمية للأمم المتحدة المتفق عليها دولياً، وتجاهل الأخلاقيات المهنية المتعارف عليها عالمياً للإحصائيين. وأشار البيان إلى أن الوكالات الإحصائية الوطنية ومفوضيها يجب أن يعملوا بمعزل عن الضغوط السياسية لضمان جودة ونزاهة عملهم.
كما أكد البيان أن الأداء الفعال للأسواق المالية يعتمد على إحصاءات موثوقة، ولا سيما تلك التي تتأثر بتقلبات السوق، مثل إحصاءات التوظيف وأسعار المستهلك، وأن التجربة أظهرت أن انعدام الثقة في الإحصاءات الرسمية يمكن أن يؤدي إلى زيادة تكلفة المخاطر على أسعار الاقتراض، على سبيل المثال. بالإضافة إلى ذلك، تعكس إحصاءات سوق العمل الحالة الاجتماعية والاقتصادية للبلد، ولها آثار حقيقية على السياسات العامة.
وأوضح البيان أنه في المجتمع المتحضر يجب أن تستند القرارات إلى الحقائق. وعندما تكون الحقائق محل شك، يلزم إجراء تقييم مستقل وعالي الجودة. وناشد الحكومة الأمريكية النظر في سبل معالجة أي شكوك حول عمل مكتب إحصاءات العمل (BLS) للحفاظ على ثقة الجمهور الراسخة في الإحصاءات الفدرالية في الولايات المتحدة، وذلك من خلال التقييم المستقل للحفاظ على مصداقيتها. وفي نهاية البيان ناشد المعهد الحكومة الأمريكية اتخاذ إجراءات حاسمة لاحترام واستعادة ثقة الجمهور في الإحصاءات الفدرالية في الولايات المتحدة.
كما أصدرت الجمعية الإحصائية الملكية البريطانية (Royal Statistical Society) في 5 أغسطس 2025 بياناً أعربت فيه عن قلقها إزاء إقالة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لمفوضة إحصاءات العمل، في وقت يشهد فيه الاقتصاد العالمي اضطرابات كبيرة. وأشار البيان إلى أنه ينبغي تقييم أي مخاوف تتعلق بالبيانات أو المنهجية بشكل مستقل لضمان الحفاظ على مصداقيتها، وأن هذا القرار يُقوّض الثقة الدولية بالإحصاءات الأمريكية؛ الأمر الذي تتجاوز آثاره القرارات السياسية داخل الولايات المتحدة بكثير؛ إذ يؤثر في الثقة العالمية بالاقتصاد العالمي. وأكد البيان معارضة جميع أشكال التدخل السياسي في إنتاج الإحصاءات الرسمية، وحثت الرئيس ترامب على ضمان الحفاظ على نزاهة المنصب دون أي انحياز. إضافة إلى ذلك، أكدت أن هناك حاجة إلى طمأنة الإحصائيين العاملين في الوكالات الفدرالية لضمان ثقتهم بمواصلة إنتاج المعلومات الإحصائية الموضوعية التي تُمكّن أصحاب السلطة من كسب ثقة مجتمعاتهم. واختتمت الجمعية بيانها بتأكيد أن هذه الإجراءات ضرورية لضمان ديمقراطية سليمة في الولايات المتحدة، وللحفاظ على المصداقية الدولية لإحصاءاتها.
ما أشبه الليلة بالبارحة:
تجدر الإشارة إلى إن الرئيس ترامب ليس استثناءً في شنه هذه الحرب على أحد قلاع الإحصاء في الولايات المتحدة، فالصراع بين الإحصاء والسياسة لا يتوقف، وما حدث أول أغسطس 2025 لم يكن إلا تكراراً لسيناريو حدث في الولايات المتحدة الأمريكية قبل أكثر من نصف قرن على يدي الرئيس الأمريكي نيكسون.
بدأت المواجهة عندما تضاربت التفسيرات للتغير في معدل البطالة لشهر يناير 1971، والذي بلغ 6% مقابل 5.8% في شهر ديسمبر 1970. وصف جيمس هودجسون، وزير العمل، الانخفاض بأنه "معنوي جداً" (very significant)، في حين وصفه هارولد غولدستاين، مساعد رئيس مكتب إحصاءات العمل بأنه "محدود" (Marginally significant). وكان تعليق غولدستاين متحفظاً؛ لأن معدل البطالة كان في اتجاه صعودي خلال الجزء الثاني من سنة 1970، وكان غير واثق من أن الانخفاض الذي شهده شهر يناير يعكس تغيراً في الاتجاه العام للبطالة. وفي المقابل كان وزير العمل حريصاً على أن تستفيد الإدارة الأمريكية سياسياً من هذا الانخفاض؛ مما دعاه ليصف هذا الانخفاض بالمعنوي جداً.
تكرر هذا التضارب في التفسيرات مرة ثانية في مارس 1971 عندما وصف الوزير الأمريكي الانخفاض بأنه "مشجع" (heartening)، في حين كان تعليق غولدستاين بأن هناك إشارات متضاربة (mixed signals) تمنعه من مشاركة الوزير رأيه، وذلك لأن عدد المشتغلين ومتوسط عدد ساعات عملهم قد انخفض، وركز مراسلو الصحف على الاختلافات في التفسير، واتهم البعض الإدارة الأمريكية بمحاولة تسييس بيانات البطالة.
في منتصف مارس أعلن وزير العمل إيقاف المؤتمرات الصحفية التي كان يعقدها مكتب إحصاءات العمل. وذكر في تفسير قراره أنه رغب في "تجنب الإحراج الناتج عن إخضاع الموظفين الفنيين في مكتب إحصاءات العمل لأسئلة لها تبعات على السياسات". أصرت وسائل الإعلام على أهمية هذه المؤتمرات الصحفية؛ لأن الإعلاميين يستطيعون من خلالها الحصول على تفسيرات موضوعية لبيانات البطالة، واتهمت الصحافة الإدارة الأمريكية بمحاولات تكميم أفواه المسؤولين في مكتب إحصاءات العمل.
في يوليو من عام 1971، أصدر مكتب إحصاءات العمل بيانه الصحفي، الذي أظهر انخفاضاً في معدل البطالة، ولكنه حذر من أن هذا الانخفاض يعزى إلى التغيرات الموسمية التي تطرأ على معدل البطالة؛ ومن ثم فإنه لا يعكس بالضرورة تحسن الاقتصاد الأمريكي. كان رد فعل الإدارة الأمريكية عنيفاً؛ حيث أعلن جيفري مور، عن تغيير في العديد من كبار المسؤولين في مكتب إحصاءات العمل، وطالت التغييرات غولدستاين، الذي تم نقله لمنصب آخر لا يسمح له بالتعامل مع البيانات الحساسة، وتم تعيين نائب جديد للمفوض ليكون مسؤولاً عن تحليل البيانات، وعلى الرغم من إصرار مور على أنه يريد فقط تحسين أداء مكتب إحصاءات العمل؛ فإن افتتاحية "الواشنطن بوست" اتهمت إدارة الرئيس نيكسون بإجراء تعيينات سياسية (غير مهنية) في مكتب إحصاءات العمل.
قام الكونغرس بمراجعة الأمر، وطلب السناتور بروكسمير، رئيس اللجنة الاقتصادية بالكونغرس مثول رئيس مكتب إحصاءات العمل أمام اللجنة لتفسير بيانات البطالة، وشكل الكونغرس لجنة فرعية للتحقيق في الجدل الدائر. وذكر تقرير اللجنة أنها لم تتمكن من العثور على "أي دليل لإثبات مزاعم تسييس الإحصاءات" وأرجعت ذلك إلى "التقدير العالي للحكومة تجاه المهنيين المرتبطين بجمع وتجميع وإعداد التقارير الإحصائية ونزاهة المهنيين التي بُنيت على مر السنين".
لم يكن معروفاً على وجه الدقة دور الرئيس نيكسون في تدخل الإدارة الأمريكية في مكتب إحصاءات العمل، إلا أن التسجيلات الخاصة باجتماعات الرئيس الأمريكي، التي أُتيحت للكافة بعد فترة زمنية، أشارت إلى أن الرئيس نيكسون كان ضالعاً في كل الخطوات التي تمت. وتشير التسجيلات الصوتية لأحد اجتماعات البيت الأبيض إلى أن الرئيس نيكسون قال عن العاملين في مكتب إحصاءات العمل:
"أنا أعرف هؤلاء الأوغاد الصغار. لدينا مجموعة من الناس في البيروقراطية لإفساد جهودنا. يقوم هودجسون بعمل جيد جداً، ويجعلونه يبدو وكأنه أحمق. ونحن لدينا المفوض مور، الحمار"، وفي جلسة أخرى قال الرئيس نيكسون: "كلنا نعرف عن الانحرافات الإحصائية. لماذا لم تذكر عندما ارتفع معدل البطالة إلى 6.2% لم يقولوا إنه انحراف إحصائي؟ هذا العمل متعمد حتى لا نحصل على تقدير عندما ينخفض معدل البطالة".
كما كشفت التسجيلات أن أحد مساعدي الرئيس نيكسون قال له: "علينا فقط أن نتخلص منه ونضع شخصية سياسية مكانه. يمكننا إعادة تنظيم مكتب إحصاءات العمل. وخلال ذلك الذين لا نرغب فيهم سوف يستقيلون". أمَّن الرئيس على هذا الاقتراح. وقال: "لن ننتظر... يقولون فقط إنه انحراف إحصائي، يقطعوننا إلى أشلاء. الصحفيون ضدنا. أنا لا أريد تشويش الحقائق، إنهم يفسدون عملنا في كل إصدار". وأضاف الرئيس: "أما عن كيفية إزالة غولدستاين... فبالطريقة التي تحدثنا عنها هذا الصباح بأن نقول إن مكتب إحصاءات العمل بحاجة إلى إعادة تنظيم، ونقوم بنقل غولدستاين إلى موقع آخر؛ بحيث لا يكون مسؤولاً عن الأرقام... يجب أن نتحكم في الإصدارات، لا نستطيع أن نتركهم يقطعوننا".
في اجتماع يوم 2 يوليو 1971، كان الرئيس أكثر شراسة حيث قال: "لقد حصلت عليها. لا أريد أي حماقة هذه المرة. لقد خدعونا، سيجري غولدستاين اختبار كشف الكذب عليها غداً؛ إذا فعل ذلك، فهو خارج الحكومة. إنه موظف في الخدمة المدنية. هو ابن [..] الذي كان ضدنا لمدة 20 عاماً. يجب أن نكون حازمين في هذا الشأن. نحن الذين ندير الحكومة".
لا نعلم على وجه اليقين بالنقاشات التي تمت في البيت الأبيض، والتي سبقت قرار الأول من أغسطس، ولكن نتوقع أن ما حدث لم يختلف كثيراً عما حدث في عهد نيكسون؛ ليظل الصراع مشتعلاً بين السياسي الذي لا يرحب بالإحصاءات إلا إذا حققت له مصلحته ويرى أن الصالح العام يقتضي لي أعناق الإحصاءات إذا لم تحقق مصالحه، وإن لم يتمكن من ذلك فلا مانع من قطع أعناق منتجي الإحصاءات.
فويل للإحصائيين من السياسيين، وويل للسياسيين من حكم التاريخ.