اختار الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، يوم 9 سبتمبر 2025، سيباستيان لوكورنو، الذي كان يشغل منصب وزير الدفاع، لتولي رئاسة الحكومة الجديدة، ليكون سابع رئيس للوزراء في عهد ماكرون، والخامس منذ بداية ولايته الثانية عام 2022؛ وذلك في سابقة تُعد الأولى من نوعها في الجمهورية الخامسة، لا تتماشى مع مبدأ التعايش السياسي حين يكون رئيس الوزراء من حزب يختلف عن حزب رئيس الجمهورية؛ وهو ما لم يقبله ماكرون في ظل حرصه على عدم اختيار رئيس وزراء من الحزب الذي يمتلك أكثرية المقاعد في الجمعية الوطنية (البرلمان). وتواجه الحكومة الجديدة برئاسة لوكورنو عدة تحديات، أولها إقرار ميزانية عام 2026 المُختلف عليها، ومواجهة الموجة الجديدة من الاحتجاجات، وتجنب حجب الثقة المُحتمل مرة أخرى من قِبل أحزاب المعارضة وخاصةً اليسار.
جذور متراكمة:
تعاني فرنسا منذ الانتخابات الأوروبية التي أُجريت في يونيو 2024، من أزمة عدم استقرار سياسي، ويُعد السبب الرئيسي فيها ماكرون رأس الدولة. فعلى خلفية تراجع أداء كتلته السياسية في انتخابات البرلمان الأوروبي، وتقدم كل من اليسار الراديكالي واليمين المتطرف؛ قرر ماكرون حل الجمعية الوطنية والدعوة إلى انتخابات تشريعية مبكرة في العام الماضي، أملاً في حصد أغلبية مطلقة مثلما حدث في فترته الرئاسية الأولى (2017-2022). وأُجريت الانتخابات التشريعية المُبكرة للجمعية الوطنية في يوليو 2024، وأفرزت برلماناً معلقاً؛ حيث لم يتمكن أي حزب أو كتلة من تحقيق الأغلبية المطلقة، بل جاءت النتائج متقاربة نسبياً بحصد كتلة الجبهة الشعبية (يسار) 182 مقعداً من إجمالي 577 مقعداً، ثم كتلة "معاً" (الداعمة لماكرون) 168 مقعداً، و"التجمع الوطني" (يمين متطرف) 143 مقعداً. ومنذ إعلان النتائج الرسمية للانتخابات التشريعية في 8 يوليو 2024 وحتى سحب الثقة من رئيس الوزراء السابق، فرانسوا بايرو، في 8 سبتمبر 2025؛ يمكن تلخيص أهم عوامل الأزمة السياسية في فرنسا كما يلي:
1- فشل الطريق الثالث: لطالما روج الرئيس ماكرون لكونه وحزبه تياراً جديداً ليس محسوباً على اليمين ولا اليسار، وراهن على حاجة الفرنسيين إلى التغيير بعد سنوات من تراجع البلاد اقتصادياً وسياسياً ودولياً، وتراجع شعبية وأداء الجمهوريين والاشتراكيين في عهدي الرئيسيين السابقين نيكولا ساركوزي وفرانسوا هولاند على الترتيب.
لكن منذ بداية عامه الأول، جنحت سياسات ماكرون نحو اليمين الليبرالي (النيوليبرالي)، وسرعان ما وجهت له حركة "السترات الصفراء" عام 2018 اتهاماً بأنه رئيس للأغنياء، وأن سياساته محابية للنخب ومهددة للتماسك الاجتماعي. وهذا ما تُرجم في الانتخابات التشريعية عام 2022، والتي خسر فيها ماكرون الأغلبية واضطر إلى تشكيل حكومة أقلية، متجاهلاً تماماً موقف الأحزاب من دعمه ليصبح رئيساً لولاية أخرى على حساب مرشحة اليمين المتطرف، ماريان لوبان. وبدلاً من السعي إلى إجراء إصلاح نيابي، انشغل ماكرون بمشروعات قوانين أثارت جدلاً شعبياً مثل رفع سن التعاقد، بل إنه في سبيل تمرير أجندته الإصلاحية "النيوليبرالية"، استخدم المادة (49.3) من الدستور الفرنسي، والتي تجيز للحكومات في حالات الطوارئ أن تمرر بعض التدابير دون الاعتماد على الأغلبية البرلمانية التي من المُفترض أنها انتُخبت لتمثل أصوات المواطنين وتعبر عن الديمقراطية. وكانت المحصلة تراجع تحالف "معاً" المؤيد لماكرون من 350 مقعداً في انتخابات عام 2017 إلى 246 مقعداً عام 2022، ثم 168 مقعداً في انتخابات 2024.
2- التحايل على الديمقراطية: برزت خلال الجمهورية الخامسة في فرنسا تجربتان رئاسيتان، إحداهما اشتراكية (فرانسوا ميتران) والثانية تجربة جاك شيراك (يميني محافظ)، وكلا الرئيسين تعاون مع رؤساء حكومات ليسوا من نفس حزبه، وكانت تُسمى تلك الفترات "التعايش"، والتي يتولى فيها رئيس الدولة ملف الخارجية والدفاع على أن تُترك بقية الملفات لرئيس الوزراء طالما كان من الحزب المنافس.
وعلى النقيض من ذلك، فإن ماكرون وبدلاً من احترام نتائج الانتخابات التشريعية التي أُجريت في العام الماضي وأسفرت عن تراجع كتلته إلى المرتبة الثانية، وتكليف رئيس وزراء من كتلة اليسار (الخضر، والاشتراكيون، والشيوعيون، وفرنسا الأبية)؛ رفض تكليف أي شخصية تنتمي إلى اليسار بكل طوائفه، ولجأ فقط إلى معسكر اليمين المحافظ أو كتلته يمين الوسط، بالرغم من أن كتلة اليسار تحالفت معه ومع الجمهوريين أيضاً في الجولة الثانية من الانتخابات التشريعية لمنع تصدر تيار اليمين المتطرف للمشهد الانتخابي والحيلولة دون تمكنه من اقتسام السلطة والحصول على منصب رئاسة الوزراء. واعتمد ماكرون على تشكيل حكومات أقلية لم تستطع إقرار الميزانية لعامي 2024 و2025.
3- سيطرة الشعبوية: يستحوذ التيار الشعبوي، بشقيه اليميني واليساري، على النصيب الأكبر من الجمعية الوطنية والحياة السياسية في فرنسا؛ حيث إن جون لوك ميلانشون وماريان لوبان زعيما هذا التيار وبالرغم من خلافهما الأيديولوجي، فقد اتفقا على إسقاط حكومة بايرو، وكلاهما أيضاً كان ولا يزال طامحاً لتولي رئاسة فرنسا، ولطالما طالبا ماكرون بتقديم استقالته وليس فقط إجراء انتخابات جديدة. ولعل إخفاقات الرئيس ماكرون وحكوماته، ساعدت على صعود التيار الشعبوي على حساب يمين ويسار الوسط أيضاً.
مشكلات لوكورنو:
اقترح رئيس الوزراء السابق، فرانسوا بايرو، في 25 أغسطس الماضي، عقد جلسة في الجمعية الوطنية للتصويت على الثقة في حكومته، وذلك لتمرير خطته التقشفية التي تقضي بتخفيض 44 مليار يورو من ميزانية عام 2026، والتي يجب أن تُقر قبل 31 ديسمبر المقبل، لمواجهة ارتفاع عجز الموازنة والدين العام الذي بلغ نحو 114% من الناتج المحلى الإجمالي. وعلى الرغم من أن موعد الجلسة التي طلبها بايرو كان في عطلة الجمعية الوطنية؛ فقد تم التصويت على الثقة في الحكومة يوم 8 سبتمبر الجاري؛ حيث صوت 364 نائباً بسحب الثقة من بايرو، مقابل 194 أيدوا بقاءه.
وتماشياً مع نهج ماكرون في اختيار رؤساء حكوماته في ولايته الرئاسية الثانية؛ فإنه قام بتعيين أحد المقربين منه في رئاسة الوزراء، وهو لوكورنو، الذي ظل يحتفظ بحقائب وزارية منذ مايو 2017 وحتى سبتمبر 2025، ولم يخرج من كل الحكومات السابقة. ونظراً لأن لوكورنو مرشح الولاء والثقة لدى ماكرون؛ فإنه على الأغلب سوف يواجه تحديات عديدة في رئاسة الحكومة، منها ما هو متعلق بخلفيته السياسية والحزبية، وأخرى بما يجري في الشارع الفرنسي، كما يلي:
1- معضلة حشد الأغلبية: أوضحت آلية التصويت في جلسة سحب الثقة من بايرو، أنه بالإضافة إلى تصويت أحزاب المعارضة ضده والتي تمتلك 330 مقعداً، فقد خسر أيضاً 34 نائباً آخرين؛ حيث حصل على دعم 194 نائباً من أصل 558 عضواً صوتوا في الجلسة، وامتنع عن التصويت 9 أعضاء، فيما صوّت ضد بايرو 13 نائباً من الجمهوريين؛ وهو ما يعنى أنه لم يستطع توحيد معسكره (المحافظون ويمين الوسط)؛ لذلك يتعين على رئيس الوزراء الجديد التأكد من دعم تيار "معاً" لخطط الميزانية، في حالة إذا لم تُعدل، في شهر أكتوبر المقبل بعد انتهاء عطلة الجمعية الوطنية، وكذلك التفاوض مع كتلتي اليسار واليمين المتطرف حول بنود الميزانية، لا سيّما أن ثمة خلافاً على مسائل الإنفاق العام وخفض العمالة، وإيرادات الضرائب ونوعها. ولا تبدو المهمة بسيطة، خاصةً أن هناك حكومتين سابقتين فشلتا في التوصل إلى حل في ميزانية 2025 و2026.
2- الحركات الاحتجاجية: تمت الدعوة إلى تظاهرات في فرنسا يومي 10 و18 سبتمبر الجاري، تحت شعار "لنغلق كل شيء"، وحظيت بدعم على مواقع التواصل الاجتماعي وكذلك من النقابات العمالية. وفي اليوم الأول للتظاهرات، تم القبض على نحو 500 شخص، ويُخشى أن تتوسع وتسير على نهج حركة "السترات الصفراء"؛ ومن ثم تؤثر في الأسواق أو تُحدث فوضي أمنية واضطرابات شعبية.
سيناريوهات مُحتملة:
تباينت وجهات نظر الأحزاب الفرنسية والكتل البرلمانية تجاه تعيين لوكورنو، ما بين مؤيد وداعم (تيار معاً)، وبين رافض تماماً لاستمرار اختيار رئيس الوزراء من نفس التحالف الذي حل في المرتبة الثانية في انتخابات العام الماضي، ويرى أنه من الأولى أن يكون رئيس الوزراء من الاشتراكيين؛ وهو ما كان يطمح إليه أوليفييه فور، الزعيم الاشتراكي. في المقابل، يميل حزب "التجمع الوطني" إلى الانتظار حتى تتضح رؤية رئيس الوزراء الجديد. فبحسب جوردان بارديلا، رئيس حزب التجمع الوطني، فإن الحكم على لوكورنو يكون بناءً على "مزاياه وأفعاله وقراراته ومشاريعه"؛ ومن ثم يمكن عرض أبرز السيناريوهات المُحتملة للحكومة الفرنسية الجديدة في الآتي:
1- التقارب مع الاشتراكيين: يطرح الاشتراكيون مقاربة يراها البعض متوازنة لحل أزمة الميزانية، فبدلاً من تخفيض 44 مليار يورو من الإنفاق العام عبر بنود مثل تخفيض العمالة، يتم تخفيض فقط 22 مليار يورو. وبدلاً من فرض ضرائب على الطبقتين الدنيا والوسطى، يتم فرض ضريبة بنسبة 2% على الدخول التي تتخطى 100 مليون يورو، والتي من شأنها أن تخفض عجز الموازنة خلال فترة زمنية أطول لكن بطريقة مقبولة اجتماعياً؛ بحيث يصل عجز الموازنة في العام الحالي إلى 5.4%، على أن ينخفض قليلاً عام 2026 إلى 5% ثم ينخفض تدريجياً ليصل إلى 3% بحلول 2032. ويمتلك الاشتراكيون 66 مقعداً في الجمعية الوطنية، وحتى يضمن لوكورنو عدم سحب الثقة منه حال دعم مقترحات الاشتراكيين؛ سوف يحتاج إلى 12 صوتاً آخر بخلاف أصوات الجمهوريين، وبالطبع موافقة ماكرون.
2- دعم اليمين المتطرف: لمح زعيم "التجمع الوطني" إلى إمكانية التعاون مع رئيس الوزراء الجديد؛ لكن هذا الأمر يتطلب أن تتضمن ميزانية 2026 خفض العجز من خلال توفير نفقات الرعاية الصحية المخصصة للاجئين، وكذلك مدفوعات فرنسا إلى الاتحاد الأوروبي.
3- سحب الثقة وحل البرلمان: في حال لم يستطع لوكورنو التوافق مع أحزاب المعارضة على دعم ميزانية 2026 سواء بصورتها الحالية أم تعديلها؛ فسوف يتم العمل بميزانية برامج محددة وتكرار العمل بميزانية 2024، وهو الأمر الذي انتهى بسحب الثقة من بايرو. وفي هذه الحالة، ربما يكون السيناريو الأقرب هو حل الجمعية الوطنية، والدعوة إلى انتخابات تشريعية جديدة.
إجمالاً، يمكن القول إن سيناريو دعم الاشتراكيين لحكومة لوكورنو شريطة الموافقة على اقتراحاتهم الخاصة بالضرائب على الثروة، في الأغلب لن يقبله ماكرون الذي يميل إلى عدم فرض ضرائب على قطاع الأعمال التجارية؛ ومن ثم لا يُرجح هذا السيناريو. فيما يظل دعم حزب "التجمع الوطني" للحكومة الجديدة مرهوناً بالتوافق على تشريعات وبرامج عدة كتلك المتعلقة باللاجئين، وهو ليس دعماً كاملاً، وبالتالي يُعد السيناريو الأقرب للتحقق هو حكومة أقلية تعمل وفق برامج محددة يمكن سحب الثقة منها في أي وقت يتفق فيه التيار اليساري واليمين المتطرف.