• اخر تحديث : 2025-11-13 16:12
news-details
مقالات عربية

خطة ترامب ووقف الإبادة: قراءة في موازين القوى بعد حرب غزة


استند وقف إطلاق النار في قطاع غزة إلى خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، التي عرضها في 29 أيلول/سبتمبر 2025،  والتي جاءت بعد ضمانه غطاء عربياً وإسلامياً لخطته هذه في اجتماعه مع قادة مصر وتركيا وقطر والسعودية والإمارات وباكستان وإندونيسيا في 22 أيلول/سبتمبر،  على هامش الدورة الثمانين للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، وهي الدول التي أصدرت بيانات تأييد لهذه الخطة فور إعلانها،  ولم يكن لحركة "حماس" أن توافق على تلك الخطة بعد عامين من الإبادة الجماعية إلاّ بنحو متحفظ،  يقبل مباشرة بقسمها المعني بوقف الحرب وتبادل الأسرى، وكذلك تسليم إدارة القطاع إلى هيئة تكنوقراط فلسطينية مستقلة بناءً على توافُق وطني؛ إذ وافقت الحركة على هذا المقترح بنحو مبكر قبل إعلان ترامب خطته، فقد توافقت حركتا "حماس" و"فتح" على ذلك في تشرين الثاني/نوفمبر 2024،  وعادت "حماس" وأبدت موافقتها على هذا المقترح مرات أُخرى كما في كانون الثاني/يناير 2025،  وآذار/مارس 2025.  أمّا القضايا ذات الصلة بتسليم السلاح ومستقبل قطاع غزة، فقد أحالتها "حماس" في ردها على خطة ترامب إلى إجماع وطني.
 
وقد تبنَّت خطة ترامب الرؤية الإسرائيلية بوضوح من حيث الدفع نحو إنهاء "حماس" وسائر الفصائل الفلسطينية، بجعل مستقبل عناصرها منوطاً بعفو إسرائيلي عام أو بالخروج من قطاع غزة،  علاوة على كونها لم تنص على انسحاب قوات الاحتلال الإسرائيلي من غزة فوراً، أو في المرحلة الأولى، إنما جعلت ذلك مرهوناً بمسار سائر مراحل الخطة، ولا سيما تسليم فصائل المقاومة سلاحها وتمكين قوة دولية من الإشراف على متطلبات إنجاز رؤية الخطة، في إطار ما سمته الخطة "مجلس السلام" الذي يرأسه الرئيس الأميركي شخصياً. وحتى في الملف الذي يُفترض به أن يكون الأسهل، وهو ملف تبادل الأسرى، فقد تعنتت إسرائيل في تنفيذها الاستحقاق المترتب عليها بشأنه، ورفضت الإفراج عن أسرى طالبت بهم حركة "حماس"، سواء من رموز الحركة الوطنية الأسرى، أو حتى العدد الأكبر من معتقَلي الحركة المحكومين بالمؤبدات.
ويتضح من ذلك أن الخطة في صورتها التنفيذية أقرب إلى وقف الإبادة الجماعية من أن تكون وقفاً للحرب، ويبدو أن حركة "حماس"، ومعها فصائل المقاومة الأُخرى، نظرت إلى الأمر من هذا الجانب، أي سعت لاستثمار الخطة الأميركية لوقف الإبادة، بعد صمود سنتين في أوضاع مستحيلة، وهو الصمود الذي لم يثمر على المستوى الإقليمي والدولي في إثارة تحولات فعلية مباشرة تنهي العدوان الإسرائيلي وتبني على الصمود الفلسطيني والانكشاف الإسرائيلي الجاري في العالم بسبب الإبادة الجماعية وسياسات التجويع التي اقترفتها إسرائيل بحق الفلسطينيين في غزة، ومن المؤكد أن انسحاب حزب الله من المعركة، مع المواقف الداعمة لخطة ترامب من الدول العربية والإسلامية التي تحتفظ بعلاقات مع حركة "حماس"، ساهمت في تحصيل موافقة الفصائل الفلسطينية المتحفظة على الخطة؛ إذ أنهت الخطة مشروع التهجير القسري للفلسطينيين من قطاع غزة، مع بقاء أوضاع هذا التهجير قائمة في حال امتنعت إسرائيل من بدء عمليات إعمار شاملة وواسعة داخل قطاع غزة.
 
إنَّ قول إن الخطة أقرب إلى أن تكون إنهاءً للإبادة الجماعية من أن تكون وقفاً للحرب لا يستند فقط إلى استمرار احتلال إسرائيل لـ 58% من قطاع غزة، بل أيضاً إلى استمرار عمليات القتال والاغتيال وأحياناً القصف الواسع والشامل. فمنذ وقف إطلاق النار في 10 تشرين الأول/أكتوبر حتى 2 تشرين الثاني/نوفمبر، بلغ عدد ضحايا الخروقات الإسرائيلية 236 شهيداً و600 جريح فلسطيني،  كان بينهم 100 شهيد فلسطيني في حملة غارات واحدة امتدت إلى 12 ساعة.  وحتى 26 تشرين الأول/أكتوبر، لم تسمح إسرائيل إلاَّ بدخول 1000 شاحنة منذ بدء وقف إطلاق النار، في الوقت الذي يحتاج فيه القطاع إلى 600 شاحنة يومياً، وذلك بحسب تصريحات منسقة منظمة أطباء بلا حدود في غزة، كارولين وِلمِن. 
 
وقد بدت الخطة وكأنها تربط الأمر برمَّته بتنفيذ حركة "حماس" ما يترتب عليها منها، ليس فقط في النص الذي وافقت عليه الحركة متحفظةً، بل أيضاً في الجانب التنفيذي، كما هو بشأن تسليم "حماس" لجثث الأسرى الإسرائيليين؛ إذ تجد الحركة صعوبة إمّا في تحديد أماكنهم، وإمّا في انتشالهم من تحت الأنقاض، وإمّا في تمييزهم عن غيرهم من الشهداء الفلسطينيين، بالإضافة إلى إمكان وجود بعضهم في الأماكن التي يسيطر عليها جيش الاحتلال الإسرائيلي، ومن الوارد استشهاد عدد من الآسرين الذين لديهم معلومات بشأن مصير بعض تلك الجثث. وعلى الرغم من وضوح صعوبة الأمر في هذا الملف، نظراً إلى الدمار الهائل والردم الكبير الذي يحتاج إلى معدَّات خاصة لرفعه، فإن الولايات المتحدة تنحاز إلى إسرائيل في الضغط على حركة "حماس" بشأن هذا الأمر. 
ولا يشير هذا الجانب الظاهر فعلاً، عبر الخروقات الإسرائيلية والمحاباة الأميركية والابتزاز بالمساعدات وفتح المعابر، إلى هشاشة وقف إطلاق النار وحسب، بل أيضاً إلى ضمان إسرائيل تحكُّمها في المسار حتى النهاية بأبعاده السياسية والأمنية، فقد استنفدت أسراها العشرين الذين كانوا وحدهم المحرك للمجتمع والسياسة في إسرائيل بشأن إدارة حكومة بنيامين نتنياهو للحرب، كما ظلت محتفظة بأكثر من نصف أراضي قطاع غزة، وفي هذه المساحات تنشط مليشيات معادية للمقاومة الفلسطينية، وتتمتع بالحماية الإسرائيلية، وقد أظهرت إسرائيل تحفُزها الدائم للفعل العسكري المباشر بالاغتيال أو الإغارة، بالإضافة إلى إغلاق المعابر وتقليص دخول المساعدات على أساس تفسيرها الخاص لاتفاق وقف إطلاق النار، سواء أتذرعت ببطء تسليم حركة "حماس" جثث الأسرى الإسرائيليين، أم بوجود خروقات من طرف الحركة، التي نفت بدورها مسؤوليتها عن أي خرق.
 
ومن المؤكد أن التفسير الإسرائيلي العملي للاتفاق، والذي يتمتع بالانحياز الأميركي، ومحدودية فاعلية الوسطاء الإقليميين (مصر، وقطر، وتركيا)، وعدم ظهور أي دور عملي للدول الثمانية الأُخرى يوازن في موازين القوى القائمة لمصلحة الفلسطينيين، سيظل الحاكم للموقف داخل قطاع غزة، وذلك بصرف النظر عن مسار المرحلة الثانية من الاتفاق؛ إذ تريد إسرائيل تأكيد مكسبها العملي في التدخل الأمني المباشر في غزة، ليس فقط كما هو الحال في الضفة الغربية، بل أيضاً على غرار لبنان الذي لم تلتزم الاتفاق معه؛ إذ لم تستكمل انسحابها، واستمرت في عمليات القصف والاغتيال، وكذلك في سورية التي بادأتها إسرائيل العدوان باحتلال أراضٍ جديدة والقصف والمداهمات والاعتقالات، من دون وجود رد سوري على ذلك.
 
ولن تكون إسرائيل في الحالة هذه مضطرة إلى استئناف الحرب في صورة الإبادة الشاملة التي انتهجتها طوال الحرب، فلا توجد موازين قوى ولا ضغوط أميركية تمنعها من استئناف عمليات الإغارة والقصف على غزة، أو من إغلاق المعابر ومنْع دخول المساعدات غزة أو تقليصها،  وهو الأمر الذي يمكن أن يحكم المشهد داخل قطاع غزة لأعوام مقبلة إلى الأمام. وربما تستعيد، بحسب سياسات التمويل الإقليمي أو الدولي، نموذج "الفقاعات الإنسانية" الذي سعت لتنفيذه خلال الحرب، وهو ما صرح به فعلاً مسؤول في مكتب بنيامين نتنياهو بقوله: "إنَّ إعادة الإعمار على الجانب الذي تسيطر عليه إسرائيل من 'الخط الأصفر‘ في قطاع غزة يمكن أن تبدأ فوراً، ولا داعي لانتظار المرحلة الثانية من خطة السلام في غزة التي توسَّط فيها الرئيس الأميركي دونالد ترامب"،  وهو موقف عبَّر عنه قبل ذلك مستشارون للرئيس الأميركي  ونائبه،  وهو ما يعني هيمنة إسرائيل والدول الممولة والجهات الاستثمارية والمليشيات المدعومة من إسرائيل على "هذه المدن الجديدة" عند تنفيذه، ولا يعني ذلك بناء نموذج اجتماعي فلسطيني وفق الطموح الإسرائيلي فحسب، بل أيضاً إن الأمر جزء من خطة تقسيم المقسَّم؛ فبينما ترفض إسرائيل حتى الآن أي وجود للسلطة الفلسطينية في غزة، وترفض استمرار إدارة "حماس" للقطاع، في تعبير عن موقفها الرامي إلى شطب أي ممثل سياسي للفلسطينيين، فإنها يمكن أن تهتم فعلاً في تقسيم قطاع غزة نفسه على أساس إدارات منفصلة، لا يجمعها إلاَّ الارتباط بالأمن الإسرائيلي.
 
وتسعى الولايات المتحدة إلى تحويل خطتها إلى قرار أممي، وهو ما يجري فعلاً عن طريق مشروع قرار أميركي في مجلس الأمن  بشأن بناء القوة التي ستشرف على تنفيذ الخطة الأميركية: من نزع السلاح، وتدمير البنى التحتية، وحفظ الحدود، وضمان عدم قدرة الفصائل الفلسطينية على إعادة بناء نفسها، وتدريب قوات شرطة فلسطينية؛ وذلك كله في إطار "مجلس السلام" الذي يرأسه ترامب، وهو ما يعني في حال إقرار هذا المشروع دخول الخطة في طور جديد، ولا سيما أن هذه القوة ليست قوة لحفظ السلام، إنما قوة تنفيذية بتفويض واسع من مجلس الأمن لإدارة قطاع غزة حتى نهاية سنة 2027.
 
وبالتأكيد ثمة تحديات أمام هذه القوة ابتداءً من إقرار مجلس الأمن، ومشاركة الدول فيها؛ إذ تبدي إسرائيل رفضها مشاركة تركيا فيها، ويمكن أن تجعل مشروع القرار الأميركي مشاركة الدول في هذه القوة منوطة بالتشاور مع مصر وإسرائيل، وهو ما يعني منح الدولتين حق الموافقة والرفض بهذا الشأن، وقد بدا أن الخلافات بين الدول الثمانية جارية فعلاً حينما قاطعت مصر اجتماعاً لهذه الدول في إسطنبول عُقد في 3 تشرين الثاني/نوفمبر. 
 
وتفيد هذه القراءة باستمرار تحكُّم إسرائيل بمسار وقف إطلاق النار، وما ينبغي أن يترتب عليه من دخول المساعدات وفتح المعابر وإعادة الإعمار، ونظراً إلى ذلك، فهي لن تكون مضطرة إلى استئناف الإبادة ووضع نفسها من جديد في مواجهة رأي عالمي ساخط على سياستها الإبادية، وهذا بقطع النظر عن مسار المرحلة الثانية، التي حتى اللحظة تُبنى على أساس الشروط الإسرائيلية.