أثار فوز زهران ممداني برئاسة بلدية مدينة نيويورك، حيث تعيش أكبر جالية يهودية في العالم يُقدّر عددها بنحو مليون ونصف مليون نسمة، قلقاً بالغاً في إسرائيل، عبّر عنه عدد من السياسيين بمواقف صاخبة تضمنت دعوة اليهود الأميركيين إلى الهجرة إلى إسرائيل، إذ صرحت نائبة وزير الخارجية الإسرائيلي شارين هاسكل لصحيفة "جيروزالم بوست" بأن هذا الفوز "مثير للقلق العميق بالنظر إلى تاريخه الحافل بتصريحاته المعادية لإسرائيل والسامية"، وأضافت أن "الجالية اليهودية في نيويورك تستحق قادة يحمونها"، مؤكدةً أن دولة إسرائيل ستواصل العمل "من أجل سلامة اليهود الأميركيين وكرامتهم".
من جانبه، ندد الوزير السابق أفيغدور ليبرمان، رئيس حزب "إسرائيل بيتنا"، بالانتخابات التي وصفها بأنها "صدمة أخلاقية"، ذلك أن "رجلاً دعم حماس، وهاجم إسرائيل، وحمّل الغرب مسؤولية كل مصائب العالم، قد تولى الآن زمام الأمور في العاصمة الأميركية". وأكد ليبرمان أنه "بعد ثلاثة عقود من هجمات الحادي عشر من سبتمبر، اختارت نيويورك إسلامياً عنصرياً وشعبوياً وشيعياً"، مضيفاً أن هذا الحدث ينبغي أن يكون بمثابة "جرس إنذار ليهود نيويورك"، بحيث "يشجعهم على الهجرة إلى إسرائيل، وطنهم الحقيقي". كما أدان وزير الأمن الداخلي، إيتمار بن غفير، الانتخابات، قائلاً إنها "ستُذكر على أنها اليوم الذي انتصرت فيه معاداة السامية على المنطق السليم". من جانبه، وصف عضو الكنيست أوهاد تال، من حزب "الصهيونية الدينية" ممداني بأنه "زعيم إسلامي ومعادٍ للسامية وشيوعي"، مؤكداً أن "اليهود الأميركيين يمكنهم دائماً الاعتماد على دعم دولة إسرائيل، التي ستكون أبوابها مفتوحة لهم دائما". فماذا يكمن وراء هذه الحملة المسعورة؟
العوامل الرئيسية التي ضمنت فوز زهران ممداني
لم يكن فوز زهران ممداني برئاسة بلدية مدينة نيويورك نتيجة مواقفه المؤيدة للعدالة في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، في المقام الأول، وإنما كان، في الأساس، نتيجة البرنامج الاجتماعي الذي خاض المنافسة على أساسه، وشكّل فوزه جزءاً من ظاهرة أوسع تمثلت في فوز مرشحي الحزب الديمقراطي الأميركي في العديد من الولايات والمدن.
فهذا الشاب الذي لم يكن معروفاً تقريباً قبل عام، وصف نفسه بالاشتراكي الديمقراطي، وسعى إلى حشد الناس، وخصوصاً الأجيال الشابة، وتوحيدهم حوله، وركّز حملته الانتخابية على وعدٍ بإنشاء مدينة أكثر ملاءمةً للعيش، ذلك أن نيويورك مدينة تعاني من غلاء معيشةٍ كبير وخدمات بلدية مُتهالكة، ومن المُرجح أن العديد من السكان صوّتوا له ليُعالج مشاكل الإسكان والمواصلات ورعاية الأطفال، وخصوصاً بعد أن أعلن، في برنامجه الانتخابي، عزمه على توفير مساكن أكثر سهولةً من خلال تجميد إيجارات الشقق "لأكثر من مليوني مستأجر"، ووعد بتوفير خدمة حافلات مجانية ورعاية مجانية للأطفال دون سن الخامسة، كما تعهد بإنشاء خمسة متاجر بقالة تديرها بلدية المدينة لخفض أسعار المواد الغذائية. وبغية تمويل هذه الإصلاحات، اقترح مراجعة النظام الضريبي السائد، بحيث يتم فرض ضرائب جديدة أو زيادة الضرائب الحالية على كبار أصحاب الأموال؛ وهو برنامج اجتماعي طموح جداً، وستواجه تنفيذه تحديات كبيرة، وخصوصاً أن مراجعة البرنامج الضريبي لمدينة نيويورك يحتاج إلى موافقة ولاية نيويورك وتوقيع الحاكم، وهذا ليس أمراً مُسلّماً به.
وفي خطاب فوزه مساء الثلاثاء في الرابع من هذا الشهر، أوضح ممداني أن طموحاته تتجاوز بكثير حدود منصبه البلدي، ووعد قائلاً: "في هذا العصر من الظلام السياسي، ستكون نيويورك نوراً؛ معاً، سنُدشن جيلاً من التغيير، وإذا تبنينا هذا المسار الجديد الشجاع، بدلاً من الهروب منه، فسنتمكن من مواجهة الأوليغارشية والاستبداد بالقوة التي يخشونها، لا بالتهدئة التي يسعون إليها"، وأضاف: " إذا كان هناك من يستطيع أن يُظهر لأمة خانها دونالد ترامب كيفية هزيمته، فهي المدينة التي وُلد فيها".
ولأن العامل الحاسم في فوزه كان برنامجه الاجتماعي اليساري، وتوجهه نحو الشباب والعمال وأصحاب الدخل المحدود، فقد ألهم هذا الفوز الأحزاب والحركات اليسارية في أوروبا، من لندن إلى برلين، مروراً بباريس ومدريد، وشكّل، في سياق عالمي يتسم بصعود اليمين المتطرف، مصدر أمل لها بنصر محتمل. وهذا ما دفع شخصيات يسارية من فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة إلى السفر إلى نيويورك لدراسة حملة زهران ممداني الانتخابية وتعلم كيفية تطبيق نهجه، وكتبت ماتيلد بانو رئيسة الكتلة البرلمانية لحزب "فرنسا الأبية" على منصة "إكس"، تعليقاً على فوزه: "هذا الفوز يحمل في طياته درساً: وحده اليسار الراديكالي قادر على هزيمة اليمين المتطرف"، بينما صرّح زاك بولانسكي، زعيم حزب الخضر في إنكلترا وويلز، لـ "رويترز" بأن فوز الاشتراكي الديمقراطي ممداني أظهر أن "الأمل قد انتصر على الكراهية"، وأضاف: "هذا مهم، ليس فقط لنيويورك، بل أيضاً، كما أعتقد، للعالم أجمع"، وصرّحت إيلي شلاين، زعيمة الحزب الديمقراطي في إيطاليا، بأن "اليسار قد عاد إلى النصر بفضل برنامج طموح"، واصفة إياه بأنه "انتصار لسياسة الأمل على سياسة الخوف".
من جهة ثانية، جاء فوز ممداني في سياق انتصارات كثيرة حققها الديمقراطيون في اليوم نفسه في جميع أنحاء البلاد. ففي جميع الانتخابات التي أُجريت، حقق الديمقراطيون فوزاً ساحقاً، امتد من ولاية كاليفورنيا إلى ولاية مين، مروراً بولاية نيوجرسي وبنسلفانيا، ووصولاً إلى ولاية ميسيسيبي، مع العديد من الانتصارات الديمقراطية الأخرى لحكام ورؤساء بلديات مدن رئيسية أخرى، مثل سينسيناتي وأتلانتا وديترويت. وفي ولاية فرجينيا، ستصبح الديمقراطية أبيغيل سبانبرغر أول امرأة تقود الولاية، وذلك بعد أربع سنوات من حكم الجمهوريين، وحققت فوزاً تاريخياً بفارق يزيد عن 15 نقطة في الولاية. وقد شارك في تلك الانتخابات حشد استثنائي للناخبين الشباب، بالإضافة إلى النساء اللواتي صوّتن بأعداد أكبر بكثير من السابق، وكانت الرسالة واضحة: "سياسات الحزب الجمهوري لا تحظى بشعبية كبيرة، والرئيس الخارج عن القانون لا يحظى بشعبية كبيرة، والناس لم يعودوا يرغبون في هذه السياسات".
مواقف زهران ممداني إزاء الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي
برز زهران ممداني، منذ البدء، بصفته ناشطاً في مجال الدفاع عن حقوق الفلسطينيين، وداعياً إلى تحقيق العدالة في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. وقبل ترشحه لمنصب رئيس بلدية نيويورك، أوضح أن النشاط المؤيد للفلسطينيين دفعه إلى الانخراط في السياسة والانضمام إلى "منظمة الإشتراكيين الديمقراطيين" اليسارية، وصرح في سنة 2021: "فلسطين هي التي دفعتني لأن أصبح ناشطاً، ومن أجل فلسطين سأواصل دائماً الحشد"، وأعرب عن دعمه "حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات" ضد إسرائيل، ودافع عن شعار "عولمة الانتفاضة"، وقدّم مرتين مشروع قانون لإلغاء صفة "غير ربحية" عن الجمعيات الخيرية المرتبطة بالمستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية المحتلة، لكن المحاولتين باءتا بالفشل، وأثارتا قلق اليهود، بمن فيهم منتقدو الحكومة الإسرائيلية اليساريون، الذين شعروا أن مثل هذا الإجراء قد يضر بالعمل الخيري اليهودي ككل، لأن بعض المنظمات، وخصوصاً تلك التي تقدم الخدمات الاجتماعية، تعمل على جانبي الخط الأخضر دون دعم النشاط الاستيطاني. وفي 8 تشرين الأول/أكتوبر 2023، شارك ممداني في تجمع نظمه فرع نيويورك لـ "الاشتراكيين الديمقراطيين الأميركيين"، وأصدر بياناً استنكر فيه وقوع "مئات القتلى في إسرائيل وفلسطين خلال الـ 36 ساعة الماضية"، وأعلن: "أن الطريق إلى سلام عادل ودائم لا يبدأ إلا بتفكيك الاحتلال وإنهاء نظام الفصل العنصري".
بعد ترشحه لمنصب رئاسة البلدية، سعى زهران ممداني إلى الظهور بمظهر أكثر اعتدالاً في بعض القضايا، فوعد، على وجه الخصوص، بالإبقاء على المفوضة جيسيكا تيش، اليهودية، في منصبها بإدارة شرطة نيويورك. وفي مناظرة تلفزيونية يوم الخميس في 16 تشرين الأول/أكتوبر 2025، شارك فيها كذلك الحاكم الديمقراطي السابق أندرو كومو والجمهوري كورتيس سليوا، أكد ممداني أنه أجرى حوارات "بناءة" مع الناخبين اليهود، وأدان هجوم "حماس". وعندما سُئل، عن الحرب في قطاع غزة، كرر أن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية بحق الفلسطينيين. ودافع عن قراره بعدم دعم المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس في الانتخابات التمهيدية الرئاسية، احتجاجاً على دعم إدارة جو بايدن لإسرائيل، قائلاً: "مثلي مثل العديد من الأميركيين، شعرتُ بالرعب من الإبادة الجماعية الإسرائيلية للفلسطينيين". وفي مواجهة الانتقادات لرفضه السابق دعوة "حماس" صراحةً لإلقاء سلاحها، عدّل ممداني موقفه قائلاً: "بالطبع يجب عليهم إلقاء سلاحهم؛ فوقف إطلاق النار يعني أن على جميع الأطراف وقف إطلاق النار والسماح بوصول المساعدات الإنسانية". ومع ذلك، أكد أن السلام يجب أن يعالج أيضاً "الأسباب الجذرية" للصراع، مشيراً إلى "الاحتلال والحصار والفصل العنصري". كما ردّ على منتقديه مؤكداً اعترافه "بحق إسرائيل في الوجود"، لكنه "ليس بحق دولة قائمة على تراتبية عرقية أو دينية". وفي محاولة لطمأنة الناخبين اليهود، أوضح ممداني أنه لم يعد يدعم شعار "عولمة الانتفاضة" المثير للجدل، وقال: "أدركت، من خلال نقاشاتي مع العديد من يهود نيويورك، أن هذه العبارة تُعيد فتح جروح عميقة". وفي خطاب النصر الذي ألقاه، وفي أول مؤتمر صحفي له غداة فوزه، وعد بحماية الجالية اليهودية وإدانة معاداة السامية.
التحوّل داخل الجالية اليهودية الأميركية
لم يكن القلق الذي عبّر عنه ممثلو الطبقة السياسية في إسرائيل عقب فوز زهران ممداني، والحملة المسعورة التي استهدفته، نتيجة مواقفه المؤيدة للسلام العادل في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي في المقام الأول، وإنما، في الأساس، نتيجة التحوّل الجاري في مواقف الجالية اليهودية في الولايات المتحدة الأميركية، والتي عُرفت، تاريخياً، بتأييدها غير المشروط للسياسات الإسرائيلية. إذ تشهد هذه الجالية، منذ سنوات، انقسامات عميقة على مستوى الأجيال والمواقف الإيديولوجية إزاء إسرائيل وإزاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
فقد عبّر 40% من اليهود الأميركيين عن قناعتهم بأن إسرائيل ارتكبت إبادة جماعية في قطاع غزة، ويرتفع هذا الرقم إلى 50٪ لمن تتراوح أعمارهم بين 18 و 34 عاماً. بعبارة أخرى، في حين أن اليهود الأميركيين لا يزالون ملتزمين بتأييد إسرائيل، فإن هذا الالتزام أقل وضوحاً بين الأجيال الشابة، الذين يعبرون عن معارضتهم توسع المستوطنات في الضفة الغربية المحتلة، ويدعمون الحقوق الفلسطينية والحل السياسي للصراع، والذين وقفوا بحزم ضد انحراف إسرائيل غير الليبرالي وضد الإصلاح القضائي لسنة 2023، الذي كان يهدف إلى تغيير الطبيعة "الديمقراطية" لإسرائيل بصورة جذرية.
وقد تباينت استطلاعات الرأي التي جرت بين اليهود الأميركيين بخصوص تأييدهم ترشح زهران ممداني لرئاسة بلدية نيويورك، إذ تراوحت نسبة تأييده، في بعض هذه الاستطلاعات، بين 16% و38%، بينما أظهر استطلاع أُجري في تموز/يوليو الماضي أن 44% من يهود المدينة يؤيدون ترشحه، وبلغت نسبة التأييد هذه 67% لمن تتراوح أعمارهم بين 18 و44 عاماً، مما يُظهر اتساع الفجوة بين الأجيال بين اليهود الأميركيين، لا سيما فيما يتعلق بعلاقتهم بدولة إسرائيل. وأخيراً، دلت نتائج الانتخابات أن 33% من الناخبين اليهود في المدينة صوتوا لممداني.
هلع في إسرائيل إزاء فوز الديمقراطيين والتحوّل داخل الجالية اليهودية
ما أن ظهر أن احتمال فوز زهران ممداني برئاسة بلدية نيويورك مرجح، حتى أصبح ممداني "التهديد الأكبر" في إسرائيل، كما لاحظ الصحافي في صحيفة "هآرتس" يوعناه غونين، في مقال نُشر في الرابع من هذا الشهر بعنوان: "زهران ممداني خطر على الكذبة التي ترويها إسرائيل لنفسها"، ونقلته نشرة "مختارات من الصحف العبرية"، التي تصدرها مؤسسة الدراسات الفلسطينية. ففي هذا المقال، أشار غونين إلى أن الهلع ساد في استوديوهات الأخبار وشبكات التواصل الاجتماعي، في الثاني من هذا الشهر، "بسبب إعلانٍ انتخابي يتحدث فيه ممداني بالعربية"، وصار المرشح الديمقراطي يُقدّم "كصورة كاريكاتورية لمعادٍ للسامية، لأنه مسلم عبّر عن معارضته الشديدة للاحتلال"، علماً أنه صرّح، قبل أسبوعين، بأنه سيكون رئيس بلدية "لا يكتفي بحماية اليهود من سكان نيويورك، بل يحتفي بهم، ويكرمهم أيضاً، ووعد بزيادة الميزانيات المخصصة لمكافحة جرائم الكراهية بنسبة 800%""، ليخلص الصحافي إلى أنه "لا يبدو كأن بلدنا الصغير سيكون في مقدمة اهتماماته؛ فمع كل الاحترام لذعر الإسرائيليين المقتنعين بأن العالم يدور حولهم، سيهتم ممداني بأطفال الروضة في مانهاتن أكثر من النواب البالغين في الكنيست".
وبعد إعلان فوز زهران ممداني، الذي ترافق مع انتصارات عديدة أحرزها مرشحو الحزب الديمقراطي، نشر الصحافي أمير تيفون في السادس من هذا الشهر، في "هآرتس" نفسها، مقالاً بعنوان: "انتصارات الديمقراطيين في الولايات المتحدة هي شارة تحذير لإسرائيل"، قدّر فيه أن فوز الديمقراطيين "يأتي في وقتٍ وصلت مكانة إسرائيل داخل الحزب الديمقراطي إلى أدنى مستوياتها على الإطلاق، لدرجة أن الديمقراطيين الأكثر اعتدالاً من رئيس بلدية نيويورك الجديد يرفعون نبرة الانتقاد لإسرائيل، ويجدون صعوبة كبيرة في دعمها، مثلما كانت عليه الحال في الماضي"، ملاحظاً "أن مكانة إسرائيل داخل الحزب الجمهوري أيضاً لم تعُد مثلما كانت عليه، في ظل تصاعُد نفوذ التيارات المعادية لإسرائيل، ولليهود، في صفوف جيل الشباب من اليمين الأميركي".
والواقع، أن وسائل الإعلام ومعاهد الأبحاث في إسرائيل صارت تعير، منذ فترة، اهتماماً كبيراً للتحوّل الجاري داخل الجالية اليهودية في الولايات المتحدة إزاء إسرائيل وإزاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، كما بيّنت ذلك المقالات العديدة التي نشرتها نشرة "مختارات من الصحف العبرية". ففي 18 أيلول/سبتمبر 2025، نشر الباحث في "معهد السياسات والاستراتيجيا – جامعة ريخمان" شاي هار-تسفي مقالاً بعنوان "العلاقات الخاصة بين إسرائيل والولايات المتحدة - ملاحظة تحذيرية"، أشار فيه إلى أنه "إلى جانب الشراكات العميقة بين إسرائيل والولايات المتحدة"، تبرز ظاهرة مقلقة هي أن إسرائيل، التي "تمتعت في الماضي بدعم واسع عابر للحزبين، تبدو صورتها اليوم مختلفة تماماً، إذ تثبت سلسلة طويلة من استطلاعات الرأي العام، بوضوح، حدوث تآكل في مستوى دعم الديمقراطيين، وكثيرون منهم يعبّرون عن موقف نقدي حاد للغاية حيال إسرائيل"، مقدّراً أن هذه التطورات في مواقف الديمقراطيين "لم تأتِ من فراغ، بل تنبع من طيف واسع من الأسباب: تحولات عميقة في المجتمع الأميركي، وتعاظُم تيارات تقدمية ذات تصورات مناهضة لإسرائيل"، إلى جانب "تصوير رئيس الحكومة نتنياهو كحليف للرئيس ترامب"، و"الانتقادات الحادة لسياسة إسرائيل تجاه الفلسطينيين، وبشكل خاص لشدة النشاط العسكري في غزة".
ويتابع الباحث نفسه أن الأمر لا يقتصر على تغييرات في مواقف الديمقراطيين "إذ تشير الاستطلاعات إلى أن إسرائيل تبدأ أيضاً بفقدان الدعم الواسع الذي حازته في الماضي في صفوف الشباب الجمهوريين"، مقدّراً أن تكون "الحرب في غزة لها وزن مهم في تراجُع الدعم لإسرائيل"، إذ "يشير استطلاع نشره معهد "غالوب" في شهر تموز/يوليو إلى تراجُع حاد في تأييد الرأي العام في الولايات المتحدة للحرب في غزة؛ ووفقاً لمعطيات الاستطلاع، يعارض 60% من المستطلَعين الحرب، بينما يؤيدها 32% فقط، وهذا يمثل ارتفاعاً حاداً بنسبة 12% في صفوف المعارضين، وتراجعاً بنسبة 10% في صفوف المؤيدين، مقارنةً بالاستطلاع السابق الذي أُجري في أيلول/سبتمبر 2024". وفي استطلاع آخر أجرته شركة "إبسوس" ونُشر في "رويترز" خلال شهر آب/أغسطس، طُرحت مسألة أُخرى مثيرة للاهتمام تتعلق بإقامة الدولة الفلسطينيةـ "إذ أجاب 58% من الأميركيين بالموافقة (78% ديمقراطيون)، وعارض 33% (53% جمهوريون)".
وفي مقال نشره غداة الإعلان عن فوز زهران ممداني، بعنوان: "اليوم التالي لترامب: كيف ينبغي لإسرائيل الاستعداد للهزة المتوقعة"، عاد تامير هايمان، مدير "معهد دراسات الأمن القومي"، إلى الظاهرة نفسها، فلاحظ أن "الصوت التقدمي الراديكالي يزداد قوةً في أوساط جناح اليسار في النظام السياسي الأميركي؛ هذه النزعة المتطرفة تحاول التكفير عن "خطيئة الآباء المؤسّسين"، أي استعباد السود وإبادة سكان القارة الأصليين، من خلال تمجيد الضعيف والمظلوم، وتبنّي الكراهية (حتى الذات) للرجل الأبيض "المتميز"، من هذا المنظور، تصوَّر إسرائيل كرمز لـ "الأبيض القوي المستغِل" في مقابل الشعب الفلسطيني الضعيف والمقهور والمضطهَد"، مشيراً إلى أنه "إلى جانب هذه الدوائر الراديكالية، يتعمق الإحباط من إسرائيل داخل شرائح أوسع من اليسار الأميركي المعتدل، بسبب الطريقة التي ترى بها أفعال الحكومة الإسرائيلية على الساحة الداخلية الأميركية"، كما يتغيّر كذلك اليمين الأميركي المحافظ، الذي يرى أنصاره أن "العظَمة" الأميركية، "تتطلب الاستثمار داخل الولايات المتحدة نفسها (وضمن ذلك تحقيق النصر في المنافسة مع الصين)، بينما يُنظر إلى الاستثمار خارجها على أنه غير ضروري؛ ويرى بعض الأوساط الراديكالية من هذا المعسكر أن إسرائيل دولة انتهازية تحاول دفع الولايات المتحدة إلى خوض حروبها، ليس بالضرورة بما يتوافق مع المصالح الأميركية، وبذلك تضعف أميركا في منافستها على الهيمنة العالمية". ويخلص هايمان إلى أن استطلاعات الرأي العام تشير "إلى هذه الاتجاهات بوضوح: هناك انخفاض ملموس ومطّرد في تأييد المواطنين الأميركيين لإسرائيل، سواء على مستوى الرأي العام، أو على المستوى البرلماني".