لم يكن الاستحقاق الانتخابي الأخير مجرد حدث سياسي دوري، بل كان امتحاناً حاسماً لوعي العراقيين وصلابة دولتهم وقدرة النظام السياسي على تجديد شرعيته، وسط بيئة إقليمية ودولية مشحونة، وحملات منظمة حاولت تقويض ثقة الداخل بالخيار الديمقراطي.
لقد جرت الانتخابات في لحظة كانت فيها البلاد محاطة بجيوب ضغط خارجية، ومثقلة بشكوك داخلية، ومقيدة بروايات الانهيار والتشظّي. ومع ذلك، جاء الرد العراقي واضحاً: صناديق الاقتراع أقوى من كل محاولات تعطيلها.
ومنذ الأسابيع الأولى للسباق الانتخابي، تحركت جوقة من محلّلي السفارات، التي ترعاهم قنوات العهر الاعلامي أمثال utv وأخواتها. الذين اعتاشوا على تضخيم الأزمات وتصوير العراق بوصفه دولة على حافة السقوط. هؤلاء وجدوا في صناعة الخوف رأس مال سياسي، فقدّموا أنفسهم كحَمَلة "الحقيقة العارية"، بينما كانوا في الواقع جزءاً من ماكينة سياسية وإعلامية هدفها هزّ ثقة الداخل بنفسه، وتقديم العراق للعالم كأنما هو أرض فارغة، قابلة للانجرار، أو لاستنساخ تجارب الآخرين،
وقد بلغ الهوس ببعض الأطراف حدّ الترويج لنقل "تجربة الجولاني" إلى الداخل العراقي، وكأن هذا البلد العريق يمكن أن يُعاد تشكيله على مقاس فصائل عابرة للحدود أو قوى طارئة لا تمت لتاريخ الدولة بصلة.
المقاطعة السياسية
لكن الرهان الأخطر لم يكن خارجياً بقدر ما كان رهاناً داخلياً. المقاطعة السياسية التي قادها التيار الصدري مبكراً، والتي مثّلت واحدة من أكبر التحولات في المشهد السياسي العراقي منذ 2003. لقد حاول كثيرون الاستثمار في هذه المقاطعة لإيصال رسالة مفادها أنّ العملية السياسية تفقد أركانها الأساسية، وأن النظام لم يعد قادراً على استيعاب القوى الكبرى أو إدارة خلافاتها.
بل إن بعض المنصات الخارجية ضخّمت المقاطعة إلى حد الادعاء بأن الانتخابات ستفقد شرعيتها، وأن الشارع سيقود موجة انهيار جديدة تعيد رسم قواعد اللعبة السياسية بالقوة لا بالصناديق.
غير أن العراقيين، الذين خبروا كلفة الفوضى، اختاروا طريقاً آخر: طريق المشاركة المدنية رغم الانقسام، والثقة بأن التغيير الحقيقي يبدأ من صندوق لا من شارعٍ مستعار ولا من شعارٍ خارجي. وبهذا، أثبتت التجربة مرة أخرى أن الإرادة الشعبية لا تُختزل بموقف تيار واحد مهما كان وزنه، وأن النظام السياسي، رغم اختلالاته، قادر على الاستمرار عندما يتحرك المجتمع بإرادته.
الرهان الخاسر
ومع تماسك العملية الانتخابية، سقطت أوهام اللوبيات القذرة التي حاولت طيلة أشهر أن تروّج لصورة عراقٍ هش، يمكن كسره عند أول منعطف. هذا اللوبي "السياسي والإعلامي" سعى لأن يقدّم العراق للعالم كبلد بلا تاريخ ولا قدرة مؤسسية، متجاهلاً أنه كان من أوائل الدول العربية التي دخلت عصبة الأمم، ومن المؤسسين للجامعة العربية، ومن اللاعبين المركزيين في توازنات الإقليم لعقود طويلة.
هذه الحقيقة التاريخية ليست مجرد رصيد قديم، بل "رأسمال سياسي" يجب أن يحسن السياسيون استثماره اليوم، لا سيما وأن المشهد العراقي يُتابع عربياً ودولياً بعناية بالغة.
كل خطوة سياسية، وكل خطاب داخلي، وكل مشهد أمني يُترجم فوراً في عواصم القرار على أنه مؤشر لمستقبل المنطقة بأسرها.
ومن هنا، تصبح مسؤولية القوى السياسية مضاعفة: أن تنقل للعالم صورة عراق يتعافى، لا عراق غارق في خلافاته؛ عراق قادر على حماية تجربته الديمقراطية، لا عراق يُقاد بالتحريض الإعلامي.
في هذه المعادلة، يصبح سقوط "جوقة المطبّلين" و "محلّلي السفارات" مجرد حلقة من حلقة أطول: وهي معركة "استعادة السردية العراقية" من يد متربصين مهّدوا لانهيار معنوي قبل أن يحاولوا التمهيد لانهيار سياسي.
وبينما تنتقل البلاد إلى مرحلة ما بعد الانتخابات، يظل السؤال المركزي هو: كيف يمكن تحويل هذا الانتصار الإجرائي إلى منجز سياسي واقتصادي؟ وكيف تُبنى على هذه التجربة مؤسسات أكثر صلابة، واقتصاد أكثر قدرة، ومشهد أمني أكثر انضباطاً؟
إن ما حدث لم يكن انتصاراً لجهة سياسية بعينها، بل انتصاراً لوعي جمعي رفض أن يكون رهينة لخطاب اليأس أو لحسابات الخارج، واختار أن يحسم خياراته في الداخل.
لقد أثبتت الانتخابات مرة أخرى أن العراق عندما يُختبر، ينهض، وأن مستقبل هذا البلد يُصنع داخل حدوده، لا في صالات الفنادق، ولا في غرف السفارات، ولا في منصات التحليل المأجور.
وهذا هو جوهر الإرادة الوطنية: أن يقول العراقيون كلمتهم، وأن تُترجم تلك الكلمة إلى مسارٍ سياسي يحمي الدولة ويعيد رسم صورتها أمام العالم.