مثّل إعلان إدارة الرئيس الأمريكي ترامب بإصدار قرار بحظر جماعة الإخوان المسلمين وتصنيفها منظمة إرهابية نقطة تحوّل في تعامل الولايات المتحدة مع الإسلام السياسي. وبالنسبة لأوروبا، فإن القرار الأميركي ـ رغم كونه ذا دوافع سياسية أكثر منه أمنية بالنسية للولايات المتحدة ـ دفع دول الاتحاد الأوروبي إلى إعادة تقييم علاقتها مع الجماعة، خصوصا في ظل النقاشات الأوروبية المتصاعدة منذ 2016 حول مخاطر الإسلام السياسي على الأمن القومي والتماسك الاجتماعي.
الإخوان بين الولايات المتحدة وأوروبا: هل توجد علاقة تنظيمية؟
تُظهر الوثائق الحكومية الأوروبية والدراسات الأمريكية أن العلاقة بين الإخوان المسلمين في الولايات المتحدة وأوروبا ليست علاقة تنظيم مركزي أو قيادة موحدة، بل تقوم على روابط فكرية وشبكات تعاون مرنة أكثر من كونها هياكل تنظيمية هرمية تقليدية. فبحسب مراجعة وزارة الخارجية البريطانية لعام 2015 حول جماعة الإخوان، لم تعثر الحكومة البريطانية على أدلة تُثبت وجود “قيادة مركزية دولية” أو جهاز واحد يوجّه الفروع الغربية. وخلصت المراجعة إلى أن الجماعة تعمل في الغرب من خلال “شبكة فضفاضة من المنظمات المتقاربة فكريًا” تتبنى الخطاب والأيديولوجيا العامة نفسها، لكنها لا ترتبط بقيادة موحدة أو بنية تنفيذية تتحكم في نشاطها.
أن المنظمات ذات الخلفية الإخوانية في أوروبا وأمريكا الشمالية تتشارك المرجعية الفكرية المستمدة من كتابات يوسف القرضاوي وسيد قطب ومؤسسي الحركة التاريخيين، كما تعتمد نموذج “التمكين الاجتماعي” عبر الجمعيات والمراكز الإسلامية. ومع ذلك، تؤكد فإن هذه الكيانات لا تخضع لأوامر تنظيمية مباشرة أو تسلسل هرمي، بل تتصرف وفق بيئة كل دولة وتكيّف خطابها بحسب السياق السياسي والقانوني.
تُظهر تقارير الاستخبارات الفرنسية، وخاصة وثيقة جهاز الأمن الداخلي الفرنسي (DGSI) لعام 2018 حول “التيارات الإسلامية في فرنسا”، أن الجماعة تعتمد نموذجًا شبكيًا عابرًا للحدود يقوم على تبادل الخبرات وبرامج التدريب وتنسيق الأنشطة التعليمية والدعوية بين المراكز المنتشرة في أوروبا والولايات المتحدة. وترصد الوثيقة وجود قنوات دعم لوجستي واستشاري بين هذه المراكز، لكنها تشدد في الوقت ذاته على غياب أي بنية تنظيمية موحدة أو قيادة دولية صلبة تتحكم في مجمل النشاط.
وتتفق تقديرات أوروبية مختلفة، مثل تقارير البرلمان الأوروبي حول التطرف غير العنيف (2020) وتقارير الاستخبارات الألمانية الداخلية BfV))، مع هذا الاتجاه؛ إذ تُصنّف الجماعة كشبكة عالمية تعتمد الروابط الفكرية والمرجعية الأيديولوجية المشتركة أكثر من اعتمادها على مركز قرار عالمي. وتشير هذه التقديرات إلى أن قوة الإخوان في الغرب تأتي من العمل المؤسسي المتنامي وقدرتهم على الاستفادة من الأنظمة الديمقراطية عبر إنشاء اتحادات ومجالس ومنظمات تعمل بشكل قانوني، وليس من خلال هيكل تنظيمي دولي موحد.
شبكة من الواجهات والمنظمات المستقلة شكليًا
تعمل فروع الإخوان المسلمين في الغرب وفق نموذج “الواجهات القانونية” التي تتوزع أدوارها بين العمل الخيري والثقافي والدعوي والسياسي. هذا النموذج، الذي أشارت إليه عدة تقارير أمنية وأوروبية، يُتيح للجماعة بناء حضور اجتماعي واسع ومنتشر من دون الظهور ككيان مركزي هرمي، ويعتمد على إنشاء منظمات مستقلة ظاهريًا لكنها تشترك في المرجعية الفكرية، ومنهج التكوين، وشبكات العلاقات العابرة للحدود. في أوروبا، تشمل أبرز الواجهات التي وثّقتها جهات حكومية وبرلمانية على سبيل المثال:
المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث:أشارت دراسة البرلمان الفرنسي عام 2020 إلى أن المجلس يمثل “المرجعية الفقهية لشبكات الإسلام السياسي في أوروبا”، وأن فتاواه وخطاباته تُستخدم في تعزيز الوجود الفكري والتنظيمي للنشاط الإخواني داخل المجتمعات المسلمة الأوروبية. وتؤكد الدراسة أنه يقوم بدور محوري في توحيد الخطاب الديني للإخوان وتقديم غطاء شرعي لنشاطهم المدني والاجتماعي.
اتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا (FIOE): وصفه تقرير هيئة حماية الدستور الألمانية (BfV) لعام 2021 بأنه “الإطار التنسيقي الأكبر للجماعة في أوروبا”، مشيرًا إلى أنّه عمل لعقود كحاضنة تنظيمية تربط بين المنظمات الإخوانية في القارة. كما بيّنت الهيئة أن الاتحاد يوفّر منصات تدريب وتوجيه للعناصر الشابة، ويُسهم في توحيد الخطاب الدعوي عبر عشرات المراكز الإسلامية.
رابطة مسلمي بريطانيا (MAB): اعتبر تقرير لجنة الشؤون الخارجية في مجلس العموم البريطاني (2018) أن الرابطة “واجهة ذات صلة تاريخية بالإخوان”، مشيرًا إلى تشاركها في المرجعية الفكرية والكوادر، رغم تبنيها شكلًا قانونيًا مستقلاً. وذكر التقرير أن بعض مؤسسي الرابطة كانوا أعضاء سابقين أو مقربين من هياكل التنظيم الدولي منذ التسعينيات.
أما في الولايات المتحدة، فرغم غياب الاعتراف الرسمي بأي صلة تنظيمية، فإن تاريخ جماعة الإخوان يرتبط بمجموعة من الكيانات التي تشترك معها في المرجعية والخطاب:
مجلس العلاقات الإسلامية الأمريكية (CAIR): بحسب تقرير مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) حول “شبكة التمويل الهولندية”، أُشير إلى وجود روابط فكرية وتاريخية بين (CAIR) وبعض الشخصيات ذات الخلفية الإخوانية. وعلى الرغم من نفي المجلس لأي ارتباط تنظيمي، فإن عدة دراسات أمريكية تعتبره جزءًا من البنية الشبكية التي تتقاطع مع أهداف الجماعة وخطابها.
الجمعية الإسلامية لأمريكا الشمالية (ISNA): وفق تحليل مؤسسة (RAND Corporation) لعام 2019، تُعد (ISNA) إحدى أكبر المنظمات الإسلامية في الولايات المتحدة التي تتشارك مع الإخوان في مصادر فكرية وتاريخية تعود إلى فترة تأسيس المراكز الإسلامية في الستينيات والسبعينيات على يد طلاب وباحثين ذوي خلفية مرتبطة بالحركة. وتشير الدراسة إلى أنّ الجمعية تعمل بشكل قانوني مستقل لكنها تظل جزءًا من “البيئة المؤسسية” التي يتغذّى عليها خطاب الإخوان في أمريكا الشمالية.
بنية شبكية وليست هرمية
تؤكد الأدبيات الأوروبية أن الجماعة في الغرب تعمل وفق نموذج الشبكات. فبحسب تقرير الاستخبارات الألمانية (BfV – 2022)، فإن الإخوان “لا يعتمدون على قيادة مركزية بل على خلايا ومراكز ومؤسسات تربطها شبكة أيديولوجية وعلاقات شخصية ومالية”. وتشير دراسة معهد الابتكار السياسي الفرنسي (2023) إلى أن الجماعة تعتمد “نموذجًا مرنًا قائمًا على التنسيق وليس القيادة”، ما يجعل الروابط بين أوروبا والولايات المتحدة أقرب إلى التفاعل الثقافي والاستراتيجي منها إلى علاقة تنظيمية مباشرة.
ما انعكاسات القرار الأمريكي على بنية الجماعة داخل أوروبا؟
أولًا: زيادة التدقيق الأمني والاستخباري
يعيد التحرك الأمريكي ضغوطًا خارجية على دوائر المراقبة الأوروبية، وقد شهدت السنوات (2023–2025) تكثيفًا ملموسًا في مراقبة الروابط المالية والشبكات المؤسسية العابرة للحدود: الأجهزة الأمنية الألمانية سجلت خلال تقاريرها الأخيرة تنامي الاهتمام بالأنماط التمويلية والكيانات المؤسسية التي تعمل كشبكات اتصال، مع توصيفات تشير إلى ضرورة مراقبة التدفقات المالية الرقمية وعلاقات الشركاء عبر الأطلسي.
وفي فرنسا، أثار تقرير وزارة الداخلية مايو 2025 نقاشًا واسعًا وأدى إلى تعزيز رصد مراكز تدريب الأئمة والمنصات الرقمية التي تنقل الخطاب الديني، بما في ذلك مراجعات لبرامج التعاون الدولي للمؤسسات الدينية. كما برزت تقارير استخباراتية بلجيكية حديثة (صيف 2025) تشير إلى إعادة تصنيف بعض الجمعيات داخل حيز التقييم الاستخباري لصلتها التاريخية أو المعرفية بمراجع مرتبطة بالحركة.
ثانيًا: إحراج سياسي للجماعة داخل أوروبا
أعاد نشر نتائج تقارير حكومية حديثة حذرت من نشاط الإخوان في دول أوروبا، ردود فعل حزبية ومطالبا بتشديد الإجراءات، كما نُشر على نطاق واسع في وسائل الإعلام وفتح ملف “دور الجماعات ذات المرجعية الإخوانية” في النقاش العام. في بريطانيا، استمرّت مناقشات برلمانية ومخاوف متجددة لدى نواب وبلديات حول التعاون مع بعض الهيئات الإسلامية، وظهر توجه حذر لدى بعض الأحزاب لتفادي التعرض لانتقادات سياسية وإعلامية. دول شمال أوروبا (مثل السويد) راجعت سياساتها المتعلقة بتمويل الجمعيات الدينية بعد الإشارات الواردة في التقارير الفرنسية والأوروبية الحديثة.
ثالثًا: التأثير على مصادر التمويل
أدت سلسلة الكشف والمراجعات في (2020–2025) إلى تراجع بعض قنوات التمويل غير الشفافة أو إلى إعادة توجيهها، وفق تقارير تحليلية وأمنية حديثة. مراقبون أشاروا إلى تعطيل أو تجميد مؤقت لعمليات شراكة بين كيانات في أمريكا وشركاء في أوروبا، وإلى زيادة متطلبات الإفصاح والحوكمة المالية لدى بعض الجمعيات التي كانت تعمل سابقًا عبر قنوات أقل شفافية. التقارير سلطت الضوء على الحاجة لآليات تحقق أقوى من مصادر التمويل عبر الحدود.
رابعًا: التأثير على العلاقات مع الأحزاب الأوروبية
أظهرت متابعة الساحة السياسية في (2024–2025) أن أحزابًا من طيف الوسط واليسار باتت تتصرف بحذر أكبر في علاقاتها العلنية مع منظمات يُحتمل ارتباطها بمرجعيات إخوانية، تجنبًا لحملات سياسية أو إعلامية تستثمر الشبهات. هذا الحذر انعكس في تقليل الظهور المشترك في فعاليات معينة أو في إعادة تقييم سياسات الشراكة مع بعض الجمعيات المحلية، وفق تحليلات
وتقارير برلمانية وأمنية حديثة.
هل تدفع هذه الإجراءات إلى حظر الجماعة في أوروبا؟
فظلاً عن المعايير القانونية: لا تزال معايير الإدانة الرسمية في كثير من الأنظمة الأوروبية تَرتكز على وجود أدلة مباشرة على المشاركة في أعمال عنف أو التحريض المُباشر؛ تقارير أجهزة الأمن الأوروبية ما تزال تفصل بين “الخطاب الأيديولوجي/التأثيري” و”الأعمال العنيفة” عند مراعاة قوائم المنع القانونية.
الاعتبارات السياسية والاجتماعية: في تقارير سياسية حديثة تُبيّن أن حكومات ترى في بعض هذه الكيانات قناة شرعية للتواصل مع الجاليات المسلمة، وحظرًا أحاديًا قد يخلق فراغًا يُستغل من قبل تيارات أكثر راديكالية أو يؤدي إلى تداعيات اجتماعية وسياسية معقدة.
يمكن أن يعمل الضغط الخارجي كحافز لخطوات تشريعية ومؤسسية أبطأ وأكثر منهجية، وليس بالضرورة حظرًا شاملًا فوريًا، مثل: تشديد متطلبات الشفافية على التمويل الخارجي، فحص الشراكات التعليمية والدينية، وفرض ضوابط على تمويل المساجد والمدارس من جهات أجنبية. كما حذّرت تحليلات أوروبية من أن التحول نحو “استهداف أيديولوجي” قد يثير سجالات قانونية وحقوقية تتعلق بحرية التنظيم والدين.
اتجاهات أوروبية مستقبلية
يتوقع أن القارة ستعتمد على نهج أمني واستخباراتي متعمق في مراقبة جماعة الإخوان والمساحات المرتبطة بها. يتضمن هذا المسار تعزيز التدقيق في التمويل الخارجي، ومراجعة الشراكات الدولية للمؤسسات الدينية والثقافية، وزيادة الشفافية في الأنشطة الخيرية العابرة للحدود. كذلك تتجه أجهزة الاستخبارات إلى رصد خطاب الأئمة والبرامج التعليمية بشكل دوري، بما يتيح كشف أي محاولات للتأثير السياسي أو الفكري على المجتمعات المحلية.
على الصعيد السياسي والمجتمعي، يبدو أن الدول الأوروبية تسعى إلى تعزيز بدائل دينية محلية غير مسيسة، بهدف تقليل النفوذ الأيديولوجي للجماعة ضمن الجاليات المسلمة. يشمل هذا دعم المدارس والمراكز الثقافية المستقلة، وإطلاق برامج تدريب وتأهيل للأئمة تعكس القيم الأوروبية للتعددية والاندماج، مع التركيز على بناء خطاب ديني معتدل يساهم في تعزيز الانسجام الاجتماعي ومنع انتشار الراديكالية.
بشكل عام، تميل أوروبا نحو نهج عملي وظيفي مزدوج، يجمع بين الرقابة الأمنية والسياسات المجتمعية الوقائية، بعيدًا عن منطق الحظر الشامل أو الإهمال القانوني. هذا التوجه يركز على أدوات التأثير والتمويل وسبل التعبئة بدل التركيز فقط على المكوّن الفكري للجماعة، ما يعكس رغبة في ضبط النفوذ الإخواني بطريقة مستدامة ومتوازنة بين الأمن والسياسة والمجتمع المدني.
تقييم وقراءة مستقبلية
– يكشف إعلان إدارة ترامب تصنيف جماعة الإخوان المسلمين كمنظمة إرهابية عن انعكاسات أعمق على الساحة الأوروبية تتجاوز حدود القرار نفسه. فقد أعاد الحدث وضع الجماعة تحت المجهر الأوروبي، ودفع أجهزة الأمن والاستخبارات لتشديد الرقابة على التمويل والتأثير السياسي والأنشطة الدينية المرتبطة بها.
– رغم عدم وجود علاقة تنظيمية هرمية بين الإخوان في الولايات المتحدة وأوروبا، إلا أن التشابكات الفكرية وتماثل الشبكات التنظيمية يجعل تأثير التطورات الأميركية ملموسًا في القارة الأوروبية.
– مع استمرار الجدل حول الإسلام السياسي في أوروبا، خصوصًا بعد الهجمات الإرهابية وضغوط اليمين الشعبوي، يبدو أن الاتجاه الأوروبي يتجه نحو تشديد الرقابة التنظيمية والمالية، دون الوصول في المدى القصير إلى حظر شامل للجماعة.
– يصبح تأثير القرار الأمريكي غير مباشر ولكنه عميق، إذ يساهم في خلق بيئة أوروبية أكثر حذرًا تجاه الإخوان، وفي تعزيز النقاش حول مستقبل الإسلام السياسي داخل المجتمعات الأوروبية.