أثار رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، في 29 نوفمبر 2025، الجدل داخل إسرائيل وخارجها حول مغزى تقديمه طلباً لرئيس الدولة اسحق هرتسوج لإعفائه من المحاكمة التي يخضع لها منذ عام 2020 على خلفية ثلاث قضايا فساد ورشوة وابتزاز.
يدور الجدل حالياً في اتجاهين أحدهما قانوني والآخر سياسي، ومن المتوقع أن يؤثر كلاهما على مستقبل نتنياهو أياً كان القرار الذي سيتخذه الرئيس هرتسوج.
فالواقع أن هذين الاتجاهين لم يعودا منفصلين في تأثيرهما على الخلاف الممتد في المجتمع الإسرائيلي منذ أكثر من عِقد من الزمان حول وضع إسرائيل داخلياً وخارجياً في عهد نتنياهو، خاصة بعد أن بدأ الائتلاف الحاكم في تطبيق خطته المعروفة بـ"خطة الإصلاحات القضائية" في يناير 2023 والتي تسببت في أزمة سياسية حادة، لم يوقفها مؤقتاً سوى اندلاع الحروب المتعددة الجبهات بين إسرائيل من جهة وإيران والمحور الإقليمي الموالي لها من جهة أخرى في أكتوبر من العام نفسه، والتي لا تزال مستمرة بوتيرة أقل حتى الآن.
الجدل حول البعد القانوني للطلب
مثّل تقديم نتنياهو طلباً لرئيس الدولة لإعفائه من المحاكمة مفاجأة للكثيرين سواء لغموض الطلب ذاته والذي أربك الرأي العام الإسرائيلي بعد أن اتضح أنه لم يكن طلباً بالعفو عن جرائم ارتكبها، بل طلب بإعفائه من المحاكمة وفقط. الفارق بين الحالتين كما أوضح الخبراء القانونيون الإسرائيليون كبير للغاية، ففي الحالة الأولى العفو عن "المتهم" لا يتم إلا بعد صدور أحكام بالإدانة في الجرائم التي يحاكم بسببها، ولا يصدر الرئيس العفو أيضاً إلا بشروط منها أن يقدم الشخص طلب العفو بنفسه أو عبر أحد أفراد أسرته، وأن يعترف بجرائمه ويعلن أسفه على ارتكابها. وما قدمه نتنياهو للرئيس لا تنطبق عليه تلك الشروط، فحتى اليوم لم يصدر أي قرار من المحكمة بإدانة نتنياهو في أي من الجرائم الثلاث التي يحاكم بمقتضاها، كما أن صيغة الطلب المقدم من جانبه هي صيغة طلب "وقف المحاكمة أو الإعفاء من استمرارها"، وليس طلباً معتاداً للعفو كما يحدده قانون أساس رئاسة الدولة (قوانين الأساس هي بمثابة مبادئ دستورية تأخذ بها المحكمة العليا الإسرائيلية، بسبب عدم وجود دستور لإسرائيل)، وأخيراً فإن طلب نتنياهو غير مصحوب بأي اعتراف بأنه قد ارتكب جرائم أو إعلان أسفه على ارتكابها.
أما في الحالة الثانية (حالة طلب الإعفاء من المحاكمة) فهى حالة وإن كانت ضمن صلاحيات الرئيس وفقاً لقانون أساس رئاسة الدولة، إلا أنها لم تُطبق عملياً إلا في حالات نادرة للغاية، ورأى الخبراء أن حالة نتنياهو لا ينطبق عليها الاستثناء الذي طُبِق من قبل مرتين فقط خلال التاريخ الإسرائيلي.
ويعتقد بعض الخبراء أن الرئيس هرتسوج قد يشترط على نتنياهو إعلان اعتزاله الحياة السياسية مقابل وقف محاكمته، ولكن المقربين من نتنياهو يقولون إنه لا ينوي التفاوض مع رئيس الدولة حول الطلب، وفي حالة اشتراط اعتزاله الحياة السياسة لقبول الطلب، فإن نتنياهو سيختار الاستمرار في المحاكمة لأنه واثق من حصوله على البراءة.
في إطار تلك المعطيات، يمكن توقع أن تستمر حالة الجدل القانوني حول طبيعة الطلب الذي قدمه نتنياهو لرئيس الدولة لفترة من الوقت، حيث قد تبادر بعض أحزاب المعارضة ومؤسسات المجتمع المدني لأخذ القضية للمحكمة العليا في حالة موافقة الرئيس هرتسوج على طلب نتنياهو الإعفاء من المحاكمة.
الآثار السياسية
على مدى عدة سنوات وبالتحديد منذ انتخابات الكنيست عام 2015 والتي خاضتها المعارضة الإسرائيلية تحت شعار "أي شخص إلا نتنياهو"، بدأ الصدع الذي ضرب الواقع السياسي والاجتماعي في إسرائيل في التوسع، فلم يعد الانقسام يدور حول مشروعات سياسية متباينة للأحزاب والقوى السياسية الإسرائيلية، بل حول الموقف من نتنياهو الذي يرى اليمين واليمين المتطرف أنه الضمان لوحدة جبهتهم، فيما يراه الوسط واليسار وبعض المتمردين على نتنياهو من اليمين ذاته، الرجل الذي يجب رحيله عن الحياة السياسة بأكملها حتى لا تتحول إسرائيل إلى دولة تسلطية يحتكر فيها شخص واحد أو تيار بعينه جميع السلطات، خاصة وأن فكرة إضعاف السلطة القضائية وتعزيز قوة السلطة التنفيذية عليها وعلى السلطة التشريعية، كانت جوهر أفكار نتنياهو التي سعى لتنفيذها عندما عاد للسلطة في نهاية ديسمبر 2022، وكما هو معروف أدت خطة الإصلاحات القضائية التي أطلقها نتنياهو فور عودته للسلطة إلى أزمة عنيفة امتدّت لأشهر عديدة، وكادت أن تدفع البلاد إلى حافة الحرب الأهلية، ولم يخفف الأزمة تراجع نتنياهو عن بعض بنود الخطة مؤقتاً، حتى وقع هجوم حماس ضد إسرائيل في 7 أكتوبر 2023 وما تلاه من توسع الحروب بين إسرائيل وإيران والمحور الإقليمي والتي لم تنته بشكل كامل حتى اليوم، وأدت لتأجيل بقية بنود الخطة لأجل غير مسمى.
ومع تقديم نتنياهو طلبه لرئيس الدولة لإعفائه من المحاكمة، تجددت مخاوف المعارضة الإسرائيلية وجزء كبير من المجتمع الإسرائيلي من أن يؤدي احتمال قبول رئيس الدولة لهذا الطلب إلى استئناف نتنياهو وحلفائه محاولاتهم لتنفيذ خطة التعديلات القضائية بالكامل، خاصة بعد أن صادقت الهيئة العامة للكنيست في 29 أكتوبر الماضي بالقراءة التمهيدية على مشروع القانون القاضي بتقسيم منصب المستشار القضائي للحكومة.
ويرى المعارضون أن التقسيم يضعف دور المنصب في إنفاذ القانون ويُمكِّن السياسيين من التدخل في القضايا الجنائية ومحاكمة المسؤولين. كما أن تقسيم دور المستشار القضائي يعتبر بمثابة تفكيك للمؤسسات التي تحمي سيادة القانون. وكون المستشار القضائي منصباً تتركز مهمته في الدفاع عن المصلحة العامة وسيادة القانون، يُخشى أن يؤدي التقسيم إلى تقويض هذا الهدف بشكل مباشر. ولكن الأهم أنه يعزز من فرص نتنياهو للبقاء في السلطة خاصة مع اقتراب الموعد القانوني للانتخابات العامة في أكتوبر من العام القادم، والذي يمكن أن يتقدم بضعة أشهر في حالة تفكك الائتلاف قبلها (وهو احتمال قائم بقوة حالياً).
بمعنى أكثر وضوحاً، تدرك المعارضة الإسرائيلية مدى عجزها عن الإطاحة بنتنياهو عبر الانتخابات، والتي تأكدت عملياً بعد أن خاضت ضده خمس انتخابات منذ عام 2019 وحتى عام 2022 لم تتمكن خلالها من إزاحته إلا لفترة عام ونصف فقط. ومن ثم كان رهانها على الإطاحة به عبر القضاء من خلال محاكمته في القضايا الثلاث المعروفة بقضايا الفساد والرشوة واستغلال النفوذ، ولكن ما حدث أن محاكمته تعطلت طويلاً سواء بسبب آثار جائحة كورونا والتي ظل تأثيرها حتى منتصف عام 2022، أو بعد اندلاع الحروب مع إيران والمحور الإقليمي منذ أكتوبر 2023. وقد يعني منح نتنياهو إعفاء من المحاكمة تكريس الوضع القائم، بل تدهوره لما هو أكثر خطورة على النظام السياسي والقضائي في إسرائيل مستقبلاً. فلدى المعارضة شكوك قوية في أن هناك تدبيراً ما يتم في الخفاء لتمرير عملية الإعفاء من المحاكمة بالنسبة لنتنياهو بسبب العناصر التالية:
1- أن تقديم نتنياهو طلب الإعفاء من المحاكمة جاء بعد مطالبة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب علناً لرئيس الدولة العبرية العفو عن نتنياهو، أثناء إلقاء ترامب لخطابه أمام الكنيست بعد طرح خطته لإيقاف حرب غزة في أكتوبر الماضي، حيث أن ترامب لم يكن ليطلب مثل هذا الطلب إلا لو كان على يقين بإمكانية تحقيقه فعلاً. فهل يوجد اتفاق ما بين إدارة ترامب وكل من فريق دفاع نتنياهو ورئيس الدولة اسحق هرتسوج للمضى قدماً في هذا المسار؟
2- أن طول مدة المحاكمة أعطت فريق نتنياهو القانوني الفرصة على مدى عامين لكي تتم ممارسة ضغوط على بعض الشهود لتغيير شهاداتهم، كما منحتهم أيضاً الوقت لجمع أدلة وسوابق قضائية لإيقاف محاكمة بعض الأشخاص بإعفاء صادر من رئيس الدولة، لكى يقدموها كمسوغ لطلب وقف المحاكمة.
3- أن هناك حالة من البطء المتعمد في إجراءات محاكمة نتنياهو، حيث تسمح له المحكمة بطلبات التأجيل، أو تقصير مدة جلسات الاستماع لدواعي انشغال نتنياهو بإدارة الأوضاع الأمنية المتوترة علي كافة الجبهات التي تحارب عليها إسرائيل، في الوقت الذي تشير التقارير إلى أن هناك قضية واحدة على الأقل من القضايا الثلاث قد تم الانتهاء من نظرها، ويمكن إصدار حكم فيها، وإذا ما كان الحكم بالإدانة فيجب تنفيذه، مع الاستمرار في نظر بقية القضايا لاحقاً، ولكن فيما يبدو تتعمد المحكمة الربط بين القضايا الثلاث لتبرير تأخير صدور أحكام نهائية بحق نتنياهو، لتمنحه فرصة للبقاء السياسي لفترة أطول.
التحركات المنتظرة للمعارضة
يبدو أن المعارضة الإسرائيلية غير واثقة من رفض الرئيس الإسرائيلي لطلب نتنياهو بالإعفاء من المحاكمة، حيث صرح هرتسوج بأنه سيبحث الطلب من كافة الجوانب وسيلتزم بالقانون والمصلحة القومية في تحديد قبوله أو رفضه، وتخشى المعارضة من استخدام حجة المصلحة الوطنية لتمرير قرار الإعفاء من المحاكمة لنتنياهو، فهى الحجة الوحيدة التي يُسمح فيها للقاضى باستخدامها دون أن يفصح عن محتواها الذي عادة ما يكون سراً على أعلى مستوى أمنياً.
وبناءً على ذلك، قد تتحرك المعارضة لحشد الشارع مباشرة تاركة أمر المطالبة بتدخل المحكمة العليا لمؤسسات المجتمع المدني في اتجاه موازٍ لعملها في تنظيم الاحتجاجات ضد القرار في حالة صدوره.
وتعتمد المعارضة على حقيقة أن آخر استطلاع أجراه معهد "لازار" في نوفمبر الماضي وقبل أيام من تقديم نتنياهو طلبه بالإعفاء من المحاكمة قد أوضح أن44 % يرفضون منح نتنياهو عفواً رئاسياً، و39% يؤيدون، في حين لم يحدد 17% موقفهم.
صحيح أن هناك تقارباً بين من يؤيدون ومن يعارضون قرار العفو أياً كان (من المحاكمة أو من العقاب إذا ما صدرت الإدانة)، ولكن يمكن اللعب على نسبة ممن لم يحددوا موقفهم لدفعهم لتبني رفض الإعفاء، ولذلك قد تزداد المظاهرات الحاشدة في شوارع المدن الإسرائيلية في المرحلة المقبلة للضغط على رئيس الدولة لرفض منح الإعفاء لنتنياهو، أو للاحتجاج على قرار الموافقة إذا صدر في نهاية المطاف. كما ستجادل المعارضة بأن ادعاء نتنياهو بأن حصوله على الإعفاء من المحاكمة سيكون إيجابياً لصالح توحيد صفوف المجتمع الذي يعاني من الاستقطاب منذ سنوات، سيثبت بطلانه عندما تبين المظاهرات والاعتصامات المتوقعة مدى رفض جزء كبير من الشارع للعفو عن نتنياهو بأي صيغة من الصيغ، كما ستدفع الآراء المعارضة للعفو بأن تمريره سيؤكد أن القضاء الإسرائيلي أصبح مستباحاً ليس لنتنياهو ولتيار اليمين بل للتدخل الخارجي بسبب تأثير ترامب على صدور قرار العفو.
في كل الأحوال، المعركة ممتدة وتتشابك مع معارك أخرى داخل الائتلاف الحاكم مثل المعركة حول تجنيد الحريديم، ولن تتوقف هذه المعارك بما في ذلك معركة العفو عن نتنياهو إلا في حالة واحدة، وهي أن تندلع مواجهة شاملة بين إسرائيل وحزب الله أو كليهما معاً في وقت قريب.