تعرضت بلدة بيت جن في ريف دمشق الغربي لعدوان إسرائيلي وحشي، (فجر الجمعة 28/11/2025)، وذلك عقب توغل قوة عسكرية إسرائيلية ضخمة داخل البلدة الواقعة عند سفوح جبل الشيخ، بذريعة اعتقال مشتبهين ينتمون إلى تنظيم الجماعة الإسلامية؛ إذ زعمت تل أبيب أنهم "شاركوا في التخطيط لهجمات ضد دولة إسرائيل. "والجماعة المقصودة هنا هي تنظيم لبناني طلب الرئيس الأميركي دونالد ترامب بحث إدراجه في قائمة "تنظيمات الإرهاب الأجنبية."
وقد تصدى بعض أهالي البلدة للقوة المهاجمة واشتبكوا معها بأسلحة خفيفة، وتمكنوا من إلحاق إصابات مباشرة بعدد من عناصرها (اعترف الاحتلال بإصابة 6 ضباط وجنود بجروح متفاوتة، 3 منهم في حالة خطرة، كما تم إعطاب عربة (همر) عسكرية). وفي إثر ذلك، قامت القوات الإسرائيلية بقصف جوي ومدفعي مكثف على البلدة، انتقاماً من الأهالي، وتحولت القرية فجأةً إلى ساحة معركة، وهو ما أسفر عن استشهاد 13 مدنياً، بينهم نساء وأطفال، وإصابة نحو 25 آخرين، وفق أرقام وزارة الصحة السورية. بينما شهدت البلدة حركة نزوح واسعة نحو البلدات المجاورة، هرباً من القصف وخشية تصعيد جديد محتمل من جيش الاحتلال.
يذكر أن هذه ليست المرة الأولى التي تستهدف فيها إسرائيل أشخاصاً في بيت جن. ففي كانون الثاني/ يناير 2024، قتل الجيش الإسرائيلي حسن عكاشة، بتهمة أنه زعيم فرع لـ"حماس"، واغتال أخاه علي قبل ذلك، في أيلول/سبتمبر 2023. وكان شقيق القتيلَيْن المذكورين من الشبان الذين قُتلوا في مواجهات الجمعة. كما سبق لقوات الاحتلال أن اعتقلت 7 أشخاص من البلدة، في حزيران/يونيو الماضي.
بيت جن تحاول لجم العدوان
إن المواجهة التي خاضها الأهالي السوريون في بيت جن لم تكن الأولى؛ إذ سبقتها مواجهة مسلحة أُخرى نفذها أهالي قرية كويا في ريف درعا، حين اشتبكوا مع قوة إسرائيلية وأجبروها على الانسحاب. وفي إثر ذلك، جرى قصف القرية بسلاح الجو والمدفعية، (وهو ما أسفر عن ارتقاء 7 مدنيين سوريين). بيد أن المواجهة في بيت جن لم تكن كسابقتها لجهة تكبد الإسرائيليون هذا الكم من الخسائر البشرية، وهو ما لم تعتد عليه القوات المتوغلة خلال عملياتها الأمنية السابقة على مدى الأشهُر الـ 11 الماضية، والتي كانت أشبه بالنزهات اليومية.
وقد دفع هذا الأمر معلقين إسرائيليين وعرباً إلى الحديث عن ضعف في التقدير، وفشل استخباراتي وقعت فيه القوات الإسرائيلية المهاجمة؛ إذ أفضى إلى خطأ عسكري فادح في حساباتها الأمنية، على الرغم مما قامت به إسرائيل من مسوحات ميدانية ودراسات اجتماعية للأهالي في المناطق والقرى الحدودية.
وقد نفى أحد سكان البلدة وجود أي مجموعة مسلحة فيها، وعبّرت الجماعة الإسلامية في لبنان عن استغرابها من زج اسمها في العدوان على بيت جن، معتبرة أنها "حجة أمنية واهية ومفتعلة". وفي تصريحات صحافية، نفى النائب عن الجماعة في البرلمان اللبناني، عماد الحوت، المزاعم الإسرائيلية بشأن اعتقال عناصر منها، وقال إن "الجماعة ليس لها أي نشاط خارج الأراضي اللبنانية، فضلاً عن أنها أعلنت التزامها باتفاق وقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل." كما أضاف معلِّقاً على اختيار الاحتلال للجماعة لاتهامها بالعمل في سورية، أنه "لتبرير القرار الأميركي الذي جاء على خلفية سياسية، صنّف جماعة 'الإخوان المسلمين‘ إرهابية".
رد الفعل السوري الرسمي
لقد أدانت دمشق الاعتداء الإجرامي الذي قامت به القوات الإسرائيلية، ووصفته بأنه جريمة حرب مكتملة الأركان، كما ورد في بيان للخارجية السورية حمّل سلطات الاحتلال المسؤولية الكاملة عن "العدوان الخطِر الذي يهدد الأمن والاستقرار الإقليمي، ويأتي في سياق سياسة ممنهجة لزعزعة الأوضاع، وفرض واقع عدواني بالقوة."
وفي تصريحات صحافية، نقلتها وكالة الأنباء السورية "سانا"، أكد مندوب سورية الدائم لدى الأمم المتحدة، إبراهيم علبي، أن الرد العسكري على استفزازات إسرائيل غير مطروح حالياً، مشيراً إلى أن "الضغوط الدبلوماسية التي مارستها سورية مؤخراً حققت مكاسب مهمة في علاقاتها الدولية، وهي لا تريد أن تفقد هذه المكاسب؛ إذ يجري العمل لإثبات التزامها باتفاقية فض الاشتباك لسنة 1974، وهو ما يزعج إسرائيل أكثر من فكرة الرد العسكري المباشر."
وقد شدد علبي على أن سورية "سترد بالأساليب المعترف بها دولياً"، من دون تقديم توضيحات بشأن هذه الأساليب، لكنه لفت إلى أن دمشق "تعمل مع الحلفاء بهدف عدم منح إسرائيل أي ذريعة قانونية أو سياسية أو عسكرية، وهو ما يزيد من عزلة الاحتلال"، على حد تعبيره. كما نفى علبي بصورة قطعية الروايات الإسرائيلية عن وجود الحوثيين في سورية، واصفاً إياها بـ"ضرب من الخيال".
وبشأن ما يثار عن احتمالات التطبيع بين دمشق وتل أبيب، أوضح علبي أن المحادثات الدائرة حالياً تقتصر على اتفاق أمني، بينما "عملية السلام تبقى بعيدة المدى، بسبب استمرار الاحتلال الإسرائيلي لأراضٍ سورية."
تصعيد إسرائيلي مطرد
ومن المعروف أنه خلال السنة الأخيرة، باتت الانتهاكات والتوغلات الإسرائيلية داخل القرى والبلدات السورية في محافظتيْ القنيطرة ودرعا، (التي ترافقت مع اعتقالات، وتدمير للبنى التحتية والمرافق العسكرية السابقة، وعمليات تجريف واسعة للأراضي الزراعية)، جزءاً من "الروتين العسكري-الأمني" اليومي للجيش الإسرائيلي، إلى أن جرت المواجهة الأخيرة في بيت جن، والتي دلّت، على سوء تقدير الاحتلال الإسرائيلي للعامل الإنساني، على الأقل، والذي لا يمكن أن يستمر بقبول المهانة والإذلال اليومي، والاستهانة بحيات الناس وأرزاقهم وكراماتهم.
وقد سبق المجزرة مناورات إسرائيلية في المنطقة الحدودية، بحيث بدا الهجوم الوحشي على بيت جن وكأنه استكمال لتلك المناورات التي قادها رئيس الأركان، إيال زامير. كما سبقها تصريحات متشددة أطلقها بنيامين نتنياهو من داخل الأراضي السورية المحتلة مؤخراً، خلال جولة قام بها رفقة قادته العسكريين والأمنيين والسياسيين الكبار، وهدد خلالها الرئيس السوري أحمد الشرع.
وقبل هجوم بيت جن، أفاد وزير الدفاع الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، أن تل أبيب ليست في اتجاه السلام مع دمشق، وأرجع ذلك إلى ما وصفه بأنه نشاط لجماعة الحوثي اليمنية في سورية. وفي تبرير لتصعيدها العسكري عموماً في المنطقة الحدودية، ادعت إسرائيل "وجود خلية كبيرة فيها تعمل لصالح إيران وحزب الله."
لكن الحادثة الأخيرة والإصابات البليغة التي لحقت بالجنود الإسرائيليين جرّاءها، جاءت لكي تشكل حرجاً عسكرياً كبيراً لتل أبيب؛ إذ إنها كشفت عن وجود بلدات مسلحة جاهزة للاشتباك مع القوات الإسرائيلية المتوغلة، وهو ما أثار قلقها من إمكان تكرار هذا الأمر في قرى وبلدات سورية أُخرى، وإمكان دخول أطراف خارجية خطَ هذه الحوادث واستغلالها لمآرب خاصة لها في سورية.
وإزاء ذلك، وجدت إسرائيل نفسها أمام احتمالات وخيارات جديدة، أهمها إعادة تقييم الوضع الأمني في الجنوب السوري. وربما بات عليها أن تأخذ في حسبانها وجود يد خفية للحكومة السورية، "هي مَن أعطى الضوء الأخضر لأهالي البلدة بفتح النار على الجيش الإسرائيلي"، في وقت لم يكن لديها أي معلومات عن ذلك.
ويتحدث البعض عن أن نزع السلاح في المناطق الجنوبية، كما أرادت إسرائيل، وغياب الأجهزة الأمنية الفاعلة فيها، وما يجرّه ذلك من فراغ أمني، ربما يسمح بانتشار خلايا أو جماعات مسلحة تتبع لتنظيم الدولة، أو لقوى خارجية (كإيران أو سواها). وهنا، يمكن أن يصبح "السلاح الشعبي (غير المنضبط)، أحد الأوراق الرابحة بيد الحكومة السورية، وربما يفرض واقعاً جديداً على التحركات الإسرائيلية (المنفلتة) في الجنوب السوري، على نحو لا يتيح للقوات الإسرائيلية التجول بأريحية تامة كما كان يجري في الأشْهر السابقة؛ بمعنى أن دمشق بات لديها نقطة قوة غير رسمية تجاه إسرائيل، هي الرصيد الشعبي الرافض للتدخلات الإسرائيلية.
تعطيل التوقيع على الاتفاق الأمني
وفي الواقع، إن حادثة بيت جن يمكن أن تشكل منعطفاً سياسياً جديداً في مسار العلاقات السورية الإسرائيلية، وخصوصاً أنها جاءت بعد فشل المفاوضات والتوقيع على اتفاق أمني جديد بين الجانبين. ولقد ذُكر الكثير بشأن الأسباب التي أدت إلى تعطيل هذا الاتفاق، وما إذا كان مردّ ذلك يعود إلى تمسك إسرائيل بسيطرتها على قمة جبل الشيخ الاستراتيجية، (التي احتلتها أخيراً، وترتفع أكثر من 2800 متر عن سطح البحر، وتسمح لإسرائيل بمراقبة أراضي لبنان والأردن وسورية، فضلاً عن الأراضي الفلسطينية)، وإصرار دمشق في المقابل على انسحابها منها، أم إلى الإصرار الإسرائيلي على المطالبة بممر إنساني، يربط بينها وبين مدينة السويداء، وهو ما كانت دمشق قد رفضته سابقاً، أم أن الأمر يرجع إلى مطالبة إسرائيل بحرية حركتها وطيرانها في الأجواء السورية، بذريعة توجيه ضربات ضد ما يوصف بأهداف إرهابية.
والثابت الوحيد الذي يمكن الركون إليه في هذا الشأن، هو أن الحكومة الإسرائيلية بدت أنها ليست على عجلة من أمرها بشأن الاتفاق، كما يبدو أن الإدارة الأميركية باتت تشاطرها هذا التوجه، على خلاف الضغوط التي مارستها في السابق من أجل إنجاز الاتفاق.
وهكذا، صعّدت حكومة نتنياهو من شروطها الموضوعة أمام دمشق، بحيث باتت جميعها أشبه بشروط تعجيزية يستحيل على الإدارة السورية تلبيتها. والأرجح أن ما يريده نتنياهو هو إطالة أمد المفاوضات إلى أطول فترة ممكنة، مع إعطاء نفسه حرية التصرف والعربدة في الأراضي والأجواء السورية، بما في ذلك التدخل الضاغط في الشأن السوري الداخلي لتعزيز مكاسبه، مُفضِّلاً عدم إلزام نفسه، (في الوقت الحاضر على الأقل)، بأي اتفاق يمكن أن يجبره على التخلي عن جزء من المكاسب التي حققها.
وفي إطار سعيها للتهدئة وتجنب الحرب، والتطلع إلى معالجة المشكلات والملفات العالقة عبر المفاوضات واتباع المسار السياسي لإعطاء البلد فرصة للنهوض والبناء، فقد سبق لمسؤولين في الإدارة السورية أن وافقوا على إجراء تعديلات مهمة على اتفاق فصل القوات لسنة 1974، بما فيها تجريد جزء كبير من المنطقة الجنوبية من السلاح، في مقابل العودة إلى العمل باتفاق "فض الاشتباك"، وانسحاب إسرائيل من المناطق التي احتلتها منذ سقوط النظام السابق. وأضاف بعضهم إلى أنه في حال نجاح هذه الخطوة، فإنه يمكن لدمشق عندئذ مناقشة ملفات أهم وأعمق، من قبيل مصير الجولان السوري المحتل، والعلاقة المستقبلية بين سورية وإسرائيل.
لكن، وأمام التعنت الإسرائيلي، شهد خطاب المسؤولين السوريين بعض التصعيد تجاه إسرائيل؛ إذ عبّر بعضهم عن رفض أي حديث بشأن التطبيع في ظل استمرار الاحتلال الإسرائيلي للجولان، وتوغلها في عدة مناطق، مشترطين العودة إلى الوضع الذي كان قائماً قبل سقوط النظام السابق، وتهدئة الأجواء كمدخل لأي حوار مستقبلي.
وإلى ذلك، فقد تزامنت المجزرة الإسرائيلية الأخيرة مع شعور بالغضب الإسرائيلي جرّاء التقارب الأميركي-السوري الذي مثّلته زيارة الشرع إلى واشنطن ولقاؤه الرئيس دونالد ترامب، وبروز مؤشرات على أن الإدارة الأميركية تقبل وتتفهم الموقف السوري الرافض للشروط الإسرائيلية (التعجيزية). وعزا البعض هذا الغضب إلى امتزاج عاملين متناقضين؛ أحدهما، شعور إسرائيلي بالحصانة والقوة الفائضة، وتالياً بإمكان إخضاع مختلف الأطراف الأُخرى في المنطقة، وثانيهما، الإحساس بالضعف تجاه أميركا القادرة على لجم العنجهية الإسرائيلية وإخضاعها لاستراتيجيتها في المنطقة، وأهمية الحفاظ على علاقات ومصالح مع دول أُخرى حليفة لها، كتركيا والدول الخليجية على سبيل المثال.
ويبدو أن واشنطن تراهن وتعوّل كذلك على أن تكون دمشق إحدى العواصم المهمة الحليفة لها أيضاً في المنطقة، فهل بإمكانها أن توفق بين هذا المسعى وإرضاء تل أبيب؟