بعد عام من سقوط نظام الرئيس السوري بشار الأسد في 8 ديسمبر 2024، وتولى الرئيس الانتقالي أحمد الشرع السلطة في سياق "مؤتمر النصر" الذى عقدته الفصائل العسكرية في 29 يناير 2025، يبدو المشهد السوري شديد التعقيد؛ فعلى المستوى الداخلي تسير عملية الانتقال السياسي بخطى بطيئة أدت إلى دخول العملية السياسية مرحلة من "الجمود" نتيجة غياب مسارات واضحة يتم من خلالها تحقيق هذا الانتقال، فضلاً عن تركزها في يد مجموعة بعينها من القوى التي شاركت هيئة تحرير الشام مسار إسقاطها لنظام الأسد، الأمر الذى انعكس سلباً على استحقاقات عملية الانتقال السياسي كتشكيل هيئة الحوار الوطني، وصياغة الإعلان الدستوري، فضلاً عن قيود المشاركة في عملية الانتقال نفسها المفروضة على مكونات مجتمعية معينة، بما يكرس من غياب المشاركة العامة في صياغة المشهد السياسي السوري الداخلي.
في المقابل، ثمة حراك خارجي فعال وسريع تشهده تفاعلات الحكومة الانتقالية السورية الجديدة على المستويين الإقليمي والدولي؛ حيث يشهد مسار السياسة الخارجية والعلاقات مع القوى في الإقليم وعلى المستوى الدولي حالة من التقارب السريع مع النظام الجديد بهدف تسريع عملية دمجه ضمن أطر التفاعل الإقليمية والدولية بمنحه "شرعية دولية" توفر دعماً واضحاً للسلطة الانتقالية الجديدة التي ساهمت في إعادة تموضع سوريا خروجاً من محور إيران الإقليمي ودخولاً إلى نمط تفاعلي جديد تنسج خيوطه حالة التوافق في الرؤى بشأن مستقبل سوريا الجديدة بين الولايات المتحدة وتركيا ودول الخليج.
وقد انعكس هذا التقارب مع نظام أحمد الشرع في مسارات عدة منها؛ رفع العقوبات سواء الاقتصادية التي كانت مفروضة على النظام القديم، أو تلك التي كانت مفروضة على الشرع نفسه حينما كان مصنفاً ضمن قوائم الإرهاب الأممية والأمريكية، وهو ما يعطى أفضلية وأولوية لدور العامل الخارجي في تشكيل مراحل عملية الانتقال السياسي من ناحية، وتشكيل التوجهات الخارجية للنظام السوري الجديد من ناحية ثانية.
أولاً: استمرار "الجمود" في عملية الانتقال السياسي خلال عام 2026
لا تزال سوريا تواجه مجموعة من التحديات ذات الطبيعة "المركبة" تتداخل فيها جملة من القيود والإشكاليات بما يؤثر سلباً في مسار التحولات المفترض أن تشهدها المرحلة الانتقالية في المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية، وهى قيود تعيد تقييم مسارات عملية الانتقال السياسي وتضعها مجدداً وعلى مشارف عام 2026 ضمن وضعية "الجمود السياسي" مع ملامح "حراك نسبى" يعود إلى دور العوامل الدولية الداعمة والراغبة في إنجاح تجربة الانتقال السياسي في سوريا في مرحلة ما بعد الأسد.
1-استمرارية تعثر عملية التحول الداخلي: تكمن معضلة الانتقال السياسي في سوريا خلال عام 2025 في تعثر ملفاتها المختلفة التي كان الهدف منها رسم ملامح التحول الداخلي، ومن المتوقع أن يستمر التعثر في تطبيق هذه الملفات خلال عام 2026 ومنها:
أ- الحوار الوطني: دشنت الحكومة الانتقالية في سوريا مؤتمراً للحوار الوطني خلال الفترة (24-25 فبراير 2025)، كان الهدف منه هو وضع الأسس الحاكمة للمرحلة الانتقالية، وكذلك وضع أسس صياغة الدستور، وحدد الرئيس الانتقالي أحمد الشرع مدة زمنية لهذه المرحلة تتراوح بين عامين وأربعة أعوام. وتكمن الإشكالية هنا في عدم وجود معايير واضحة لاختيار المشاركين في المؤتمر، مما نتج عنه مقاطعة العديد من مكونات المجتمع السوري للحوار، فضلاً عن مقاطعة بعض القوى السياسية التي كانت تشكل منصات المعارضة السياسية للنظام السابق بتياراتها المختلفة (حالة الائتلاف الوطني السوري على سبيل المثال)، حيث رغبت في المشاركة ككيان سياسي موحد له رؤيته السياسية في مرحلة الانتقال السياسي، بالإضافة إلى عدم وجود تمثيل فعلى للقوى السياسية والمدنية.
ومن المتوقع أن يشهد عام 2026، استمرار الإشكاليات نفسها، وهو ما يجعل مؤتمر الحوار الوطني منتهى الصلاحية السياسية، لأنه ببساطة وضع حدوداً قيدت من المشاركة المجتمعية والمدنية والسياسية المنظمة. وعليه فإن الحوار الوطني أخفق في "بلورة رؤية وطنية جامعة للمرحلة الانتقالية". ويتطلب الأمر البحث عن بدائل ممكنة لتلك الآلية من قبيل تشكيل لجان عمل مناطقية تتولى مهمة تقريب وجهات النظر ما بين الحكومة الانتقالية وكل من: القوى السياسية التي كانت تشكل المشهد السياسي قديماً خلال فترة حكم بشار الأسد، وتلك التي تشكلت ضمن جبهات المعارضة السياسية لحكمه، والأقليات العرقية، والعشائر مختلفة المذاهب في مناطق تمركزها الديموجرافي باعتبارها قوى مؤثرة على مجتمعات المحافظات المختلفة.
ب-قصور الإعلان الدستوري: فور الانتهاء من تنصيب الرئيس أحمد الشرع في يناير 2025، تم تدشين "الإعلان الدستوري" في 13 مارس من العام نفسه، وشمل الإعلان الدستوري كافة مناحي إدارة الدولة؛ لاسيما العلاقة بين السلطات، وتحديد شكل النظام السياسي بكونه نظاماً رئاسياً، وتشكيل مجلس تشريعي منبثق عن انتخابات غير مباشرة، وتكمن معضلة الاعلان الدستوري في عدم شموليته لمشاركة معبرة عن التنوع السوري القومي والديني، مع عدم وجود تمثيل سياسي ومجتمعي، وهو ما مثل عامل ضعف مباشراً في "شرعيته التأسيسية"، حيث عارضته إحدى أهم القوى السياسية في سوريا وهى مجلس سوريا الديمقراطية "مسد" – الذراع السياسية لقوات سوريا الديمقراطية "قسد" - كونه يتناقض مع الاتفاق الأمني الذى وقعته الحكومة الانتقالية مع قوات سوريا الديمقراطية "قسد" يوم 10 مارس أي قبل الإعلان الدستوري بثلاثة أيام فقط، ما اعتبرته "قسد" التفافاً على الاتفاق؛ لأنه لم ينص صراحة على الوضع الدستوري للأكراد وفقاً للتفاهمات المشتركة التي كانت سبباً في إبرام الاتفاق الأمني. كما أنه يغفل حالة التنوع العرقي والطائفي في سوريا.
ومن المتوقع أن يشهد عام 2026، استمرارية العمل وفقاً لإطار الإعلان الدستوري كما هو قائم، رغم مخالفاته العديدة، كونه الإطار الوحيد الذى يعبر عن أطر الانتقال السياسي خاصة بعد الانتخابات التشريعية التى أجريت في 5 أكتوبر 2025. لكن مع ملاحظة أن تركيز السلطة بيد الرئيس الانتقالي بصورة تتعارض مع مبدأ الفصل بين السلطات- الرئيس يتمتع بصلاحيات تنفيذية وتشريعية واسعة- يعنى أن مسار التحول والانتقال سيظل وعلى مدار السنوات الأربعة المقبلة –الفترة المحددة للمرحلة الانتقالية - مرهوناً بإرادة السلطة التنفيذية وليس بعملية تشاركية وطنية جامعة.
ج- تباطؤ في مسار العدالة الانتقالية: رغم تشكيل "الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية والمفقودين" في 28 أغسطس 2025، فإن ثمة حالة من التباطؤ الشديدة في اتجاه الحكومة الانتقالية إلى تطبيق مخرجات هذه الهيئة، ويرجع ذلك إلى عدة أسباب منها: اقتصار عمل الهيئة على التحقيق في انتهاكات النظام السابق فقط، رغم أن حالة الانفلات الأمني طوال عام 2025، كانت ناتجة عن انتهاكات قامت بها عدد من الأطراف الأخرى من بينها قوات الأمن الجديدة نفسها، فضلاً عن فلول النظام السابق، يضاف إلى ذلك وجود عوامل تتعلق بنقص الموارد المادية اللازمة للتعويضات المطلوبة لجبر أضرار الضحايا، وغياب النص الدستوري والتشريعات المنظمة للعدالة الانتقالية.
ومن المتوقع خلال عام 2026، وفي حالة عدم تطبيق أدوات المحاسبة وفقاً للآليات الدولية المستقلة المعتمدة في شأن تحقيق العدالة الانتقالية تجاه الانتهاكات ومرتكبيها أياً كانوا، أن تستمر حالة الانفلات الأمني عنواناً لعدم الاستقرار الداخلي.
د- عدم الاستقرار الأمني: شهد عام 2025 عدداً من الإخفاقات في المعالجة الأمنية من قبل قوات الأمن السورية الجديدة، وتكمن المشكلة في أن هذه الإخفاقات ارتبطت بعدد من التهديدات الأخرى؛ فقد ارتبطت أحداث السويداء الأمنية خلال شهري مارس ويوليو 2025، برغبة العشائر الدرزية بالانفصال في دويلة مستقلة مما يهدد وحدة الدولة السورية، فضلاً عن ارتباط هذه الرغبة بالتعاون مع فاعل إقليمي له أهداف توسعية في الجنوب السوري كدولة الاحتلال الإسرائيلي من باب توفير الحماية الإقليمية للمحليين من الدروز السوريين لارتباطاتهم العشائرية مع الدروز في الجولان المحتل.
كما شكلت أحداث العنف في الساحل الغربي والمناطق الوسطى اختباراً صعباً للدولة السورية، حيث ردت أجهزتها الأمنية بعنف عبر عمليات انتقامية ضد الطائفة العلوية الموالية للنظام السابق رداً على هجمات شنتها فصائل تابعة لها في محافظات اللاذقية وطرطوس وحمص خلال شهر مارس 2025. وارتبط كل ذلك بقصور الرؤية وقلة الخبرة في التعامل مع المدنيين داخل المحافظات من جانب قوات الأمن السورية الجديدة، مما يؤثر أولاً على الاستقرار الأمني، وثانياً على حالة السلم والتعايش المجتمعي لمكونات المجتمع السوري، ويؤثر ثالثاً على سياق الانتقال السياسي الأوسع، ويطرح تساؤلات حول "النمط الأمثل لشكل الدولة السورية الجديدة" من قبيل كونها "دولة مركزية" أم "دولة لامركزية". ما سبق يشير إلى أن أنماط العنف الداخلي المحلى في سوريا ترتبط بعدد من العوامل المتداخلة التي من الصعب وضع حدود فاصلة بينها كالبنية الاجتماعية والديموغرافية على سبيل المثال.
ومن المتوقع خلال عام 2026، وفي حالة عدم وجود حلول جذرية لهذه الإخفاقات الأمنية في معالجة التجاذبات بين الحكومة المركزية في دمشق وبين ثلاثة مكونات رئيسية هي الدروز في الجنوب والأكراد في الشمال والعلويين في الغرب، فإن حالة عدم الاستقرار الأمني الناتجة عن تفاعلات تلك القوى مع الحكومة الانتقالية ستستمر في منحنى متصاعد من التوتر الذى يتطابق مع تقاطعات طائفية وعرقية أو مذهبية. وهذا يؤشر إلى "تهديد استمرارية الاتفاقات الأمنية" التي وقعتها الحكومة الانتقالية مع إثنين من الأقليات: الاتفاق الأمني مع قوات سوريا الديمقراطية الكردية في 10 مارس 2025، و"اتفاق السويداء" المنظم للعلاقة الأمنية بين قوات الأمن السورية الجديدة والدروز داخل المحافظة ذات الغالبية الدرزية، والموقع في الأردن برعاية أمريكية تركية أردنية مشتركة في 16 سبتمبر 2025.
هـ- تعثر بناء مؤسسات فعالة: تعد مسألة إعادة بناء مؤسسات الدولة السورية في مرحلة ما بعد سقوط نظام الأسد إحدى المعضلات الرئيسية في عملية إتمام الانتقال السياسي؛ كونها تتطلب مساراً محدداً للإصلاح المؤسسى يهدف إلى تشكيل مؤسسات أمنية قادرة على إنفاذ القانون وحمايته، وأخرى قادرة على توفير الخدمات للمواطنين لاسيما مؤسسات البنية التحتية من صحة وتعليم ومياه واتصالات وطاقة ومواصلات وغيرها، مما يجعل عملية إعادة البناء المؤسسى تحدياً غاية في الأهمية والتعقيد؛ وتحظى مؤسستا الجيش وقوات حفظ الأمن الداخلى، بأولوية في خطط إعادة البناء والهيكلة في ظل هشاشة الوضع الأمنى للدولة السورية التى عانت سنوات من الصراع الداخلى، وفي ظل التحديات الأمنية الداخلية والخارجية التى تواجه الإدارة الانتقالية الجديدة.
ففي عام 2025، اتجهت الحكومة الانتقالية إلى إطلاق المسار الدستورى (الإعلان الدستورى)، ثم تنظيم الانتخابات البرلمانية، كخطوات سابقة على فكرة إعادة تأهيل المؤسسات. إذ واجهت الحكومة الانتقالية في خطواتها نحو إعادة بناء مؤسسة أمنية قوية عدة تحديات أبرزها: تفكك بنية المؤسسات الأمنية الهشة مع طول سنوات الصراع الداخلى وعقب سقوط نظام الأسد، تفكيك الفصائل المسلحة وإعادة دمجها في مؤسسة عسكرية واحدة؛ ومن أبرز الأمثلة على ذلك حالة قوات سوريا الديمقراطية التى ترفض - رغم اتفاق 10 مارس 2025 الأمنى مع الحكومة - تفكيك فصائلها وتشترط لدمجها في ألوية الجيش الجديدة وقوات الشرطة أن تُدمج ككتلة واحدة دون تفكيك، وهو ما ترفضه الحكومة الانتقالية. يضاف إلى ذلك إشكالية الضباط السابقين في الجيش السوري إبان نظام الأسد وغالبيتهم من الطائفة العلوية وصعوبات دمجهم في ظل حالة احتقان وتوترات أمنية شهدتها مدن الساحل السوري حيث تتمركز الطائفة، مما يتطلب البدء في عملية تصالح شاملة عبر آليات العدالة الانتقالية أولاً، ثم الانتقال إلى مرحلة متقدمة من إعادة دمج هذه الفئة ضمن مؤسسات الدولة لاسيما الأمنية منها، خاصة وأنهم كانوا يمثلون الأساس الإدارى لكافة مؤسسات الدولة. وتعانى الوحدات العسكرية (الألوية) التى تم دمجها معاً – نجحت الحكومة الانتقالية في تفكيك ودمج العديد من الفصائل المسلحة الصغيرة – من سيطرة الولاءات المحلية.
ومن المتوقع خلال عام 2026، أن تستمر الحكومة الانتقالية في مسار تدريجى لتفكيك الهياكل العسكرية القديمة ودمج من تنطبق عليه الشروط ضمن مؤسسة الجيش، وإن يُفضل أن تتبنى الحكومة الانتقالية - إذا أرادت بناء جيش وطنى حقيقى - استراتيجية للبناء تؤسس لعقيدة عسكرية أمنية "غير مؤدلجة" تعكس تنوع المجتمع السوري القومى والدينى والثقافي. كما من المتوقع أن تحافظ الحكومة على استمرار حالة التفاهم مع قوات سوريا الديمقراطية قائمة عبر ضمان دخول الاتفاق الأمنى (اتفاق 10 مارس) بينهما حيز التنفيذ الفعلى، مع ممارسة ضغوط عليها عبر الولايات المتحدة لدفعها إلى العودة لمسار تفاوضى لاستكمال الاتفاق على عملية دمجها ضمن مؤسسة أمنية وطنية، ولا تزال عملية "الدمج الشامل" وبناء جيش وطنى مهنى غير واضحة الاتجاه والمسار، وإن كان الدعم الإقليمى والدولى يوفران بيئة داعمة لتوجهات الدولة السورية في هذا الشأن، رغم وجود بعض الاعتراضات بشأن دمج المقاتلين الأجانب ضمن صفوف وألوية الجيش الجديد من جانب الولايات المتحدة وأوروبا، ولكن مؤشرات التفاعل بشأنها تكشف أن الحكومة الانتقالية استطاعت تسويق حلول مقبولة من جانب الخارج في هذا الشأن، قد تأتى بنتائج ملموسة خلال عام 2026.
2- مطالبات اللامركزية والفيدرالية: تطورات الأحداث في المشهد الداخلى السوري خلال عام 2025، عكست وجود تحديات أمنية ناتجة عن تطلعات بعض المكونات المحلية الحصول على نمط من العلاقة "اللامركزية" بينها وبين الحكومة المركزية في دمشق.
أ- الشمال السوري: واقعياً، تتمتع الإدارة الذاتية للأكراد في شمال شرق سوريا- تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية "قسد"- بنمط من الحكم اللامركزى، حيث تسيطر على مساحات كبيرة من الأراضى السورية ومصادر طاقة وأراضٍ زراعية ومياه، وذلك بعد نجاحها في هزيمة تنظيم الدولة وإخراجه من هذه المناطق منذ عام 2017، وكانت تسعى إلى الانفصال خلال فترة حكم النظام السابق، لكنها دعمت ضمنياً حركة "هيئة تحرير الشام" والفصائل المتحالفة معها في مشروعها لإسقاطه، وعلى مدار عام 2025، ظلت العلاقة بينها وبين الحكومة المركزية تتأرجح بين مطالب الأخيرة بتفكيك كافة مظاهر الإدارة الذاتية الكردية من مؤسسات إدارية ومؤسسات عسكرية متمثلة في قوات سوريا الديمقراطية، والقبول بالاندماج الكامل ضمن مؤسسات الحكم المركزية الإدارية والعسكرية، وما بين رغبة "قسد" في الحفاظ على "لامركزية الإدارة" التى حققتها في مناطق الشمال. وفي إطار رغبة السلطة الانتقالية بتنفيذ الاتفاق الأمنى (اتفاق 10 مارس 2025 ) والقاضى بتفكيك "قسد" ودمجها ضمن المؤسسة العسكرية، وقعت عدة مواجهات أمنية بين الجانبين صُنفت بأنها غير مؤثرة ولا تؤدى إلى انهيار الاتفاق.
ومن المتوقع خلال عام 2026؛ أن تستمر التحديات التى تواجه التنفيذ الفعلى لاتفاق مارس الأمنى بين دمشق وقوات سوريا الديمقراطية قائمة، وإن كانت المؤشرات تقول بأن العلاقة بين الحكومة المركزية في دمشق وبين الإدارة الذاتية الكردية في الشمال تسير على نحو يقضى بتفكيك "قسد"، وكذلك تفكيك المؤسسات الإدارية التابعة لها، وهو ما يعنى دخول مؤسسات الدولة السورية لفرض سيطرتها على مناطق الشمال والشمال الشرقى الكردية، كما من المتوقع أن يتم تنفيذ الاتفاق الأمنى أو معظمه عبر التفاوض بين الجانبين – الحكومة و"قسد" – في ظل الزخم الإقليمى الدولى الذى يوفره التوافق التركى-الأمريكى بخصوص الإدارة الانتقالية الجديدة في سوريا، وفي ظل محدودية الخيارات أمام "قسد" بعد التخلى الضمنى من قبل الرئيس الأمريكى دونالد ترامب عنها، وبعد تهديد تركيا بالقيام بعملية عسكرية كبيرة تنهى بها الإدارة الذاتية الكردية في شمال سوريا، خاصة بعد تخلى حزب العمال الكردستانى التركى المعارض عن مشروعه وفقاً لإعلان وقف نشاطه المسلح ضد الدولة التركية في مايو 2025.
ب- الجنوب السوري: تتركز الأقلية الدرزية بطوائفها المتعددة في مدن وقرى الجنوب السوري وغالبيتها في السويداء، وترفض "مركزية الدولة" وتطمح لنمط من الحكم الذاتى وترتبط بعلاقات قوية مع إسرائيل. فقد عكست الأحداث الأمنية في جنوب سوريا خلال شهرى مارس ويوليو 2025، عمق الأزمة التى تواجهها الحكومة الانتقالية في التعامل مع بعض الطوائف الدرزية، وحتى مع توقيع اتفاق السويداء في أغسطس 2025، والذى نظم طبيعة العلاقة الأمنية بين قوات الأمن السورية الحكومية وفصائل درزية محلية- حركة رجال الكرامة التى تسعى لترتيبات أمنية وإدارية خاصة في السويداء- فإن تحديات ضمان استمرارية الاتفاق باتت على المحك مع كل واقعة أمنية تحدث داخل مناطق تمركز الطائفة الدرزية في السويداء. وتزداد الأزمة عمقاً مع التدخل الإسرائيلى في الجنوب السوري بدعوى حماية أمن الأقلية الدرزية التى ترتبط مع دولة الكيان بعلاقات وثيقة.
ومن المتوقع خلال عام 2026، أن تستمر المواجهات الأمنية بين القوات الحكومية وبين قوات الأمن الدرزية الداخلية طالما استمر بقاء التدخل الإسرائيلى في الجنوب السوري قائماً؛ كونه يوفر دعماً لوجيستياً وعسكرياً للدروز، مما يهدد استمرارية "اتفاق السويداء"، وهو ما يستدعى قيام الوسطاء – الولايات المتحدة وتركيا والأردن - بمزيد من الضغط على الطرفين لضمان تطبيق الاتفاق، خاصة وأن انفصال الدروز في دولة مستقلة أو حتى الدخول في نمط للحكم الذاتى من شأنه الإضرار بكيان الدولة السورية، ودعم بقاء المحتل الإسرائيلى في الجنوب، والإضرار كذلك بأمن منطقة الحدود الجنوبية الغربية للأردن.
ثانياً: ديناميات التفاعل مع القوى الإقليمية والدولية
شهد عام 2025 تزايداً في معدلات الانفتاح الإقليمى والدولى على سوريا في ظل إدارة الرئيس الانتقالى أحمد الشرع؛ وكان التحول النوعى في هذا السياق هو إعادة تموضع سوريا بعيداً عن محور إيران الإقليمى والبقاء ضمن "المنطقة الرمادية" التى تتزايد فيها معدلات اقترابها من محور إقليمى دولى تتشكل ملامحه بين معادلة ثنائية أمريكية-تركية، وتسمح بوجود بعض الشركاء من أوروبا والدول العربية ضمن محاور التفاعل بشأن سوريا الجديدة. وفي ظل هذا التحول النوعى في موقع سوريا ضمن السياق الإقليمى والدولى يمكن استشراف الاتجاهات المحتملة لتفاعلات سوريا مع القوى الإقليمية والدولية خلال عام 2026 كالتالي:
1- إعادة تشكيل تحالفات سوريا الجديدة: على مدار عام 2025، تشكلت تحديات جديدة انطلاقاً من التفاعلات الإقليمية والدولية مع نظام الإدارة الانتقالية الجديدة في سوريا، ألقت بتأثيراتها على حالة الاستقرار الإقليمى:
أ- تصاعد النفوذ التركى مقابل تراجع نفوذ إيران: بسقوط نظام الأسد في 8 ديسمبر 2024، تراجع النفوذ الإيرانى في سوريا بصورة كبيرة، ومن ثم تقلصت دائرة هذا النفوذ بعد خروج سوريا منه التى كانت جسراً تدعم إيران عبره حزب الله عسكرياً. في المقابل، ثمة تزايد وتنامى في النفوذ التركى الذى بات الداعم الرئيسى للسلطة الانتقالية في دمشق. هذا النفوذ أخذ أشكالاً متعددة منها على سبيل المثال: المشاركة في تأهيل وتشكيل الجيش السوري تدريباً وتسليحاً بما يدعم من عملية بناء المؤسسات الأمنية وفقاً لرؤية ومصالح تركيا في سوريا، إلى جانب تزايد معدلات مشاركة الشركات الاستثمارية والتجارية التركية في جهود إعادة الإعمار ودفع العلاقات الاقتصادية بين البلدين عبر نمط "الاقتصاد الخدمى" الذى يلقى رواجاً شعبياً كبيراً لدى الداخل السوري، فضلاً عن التوصل لتفاهمات أمنية لإقامة قواعد عسكرية في وسط سوريا بخلاف قواعدها في الشمال، هذا بالإضافة إلى توقيع اتفاقية مشتركة لتعزيز قدرات سوريا الدفاعية والأمنية في أغسطس 2025.
ومن المتوقع في عام 2026، استمرار تزايد النفوذ التركى انطلاقاً من المعطيات السابقة، كما من المحتمل أن تتزايد أنشطة التعاون العسكرى والاقتصادى في أعقاب رفع العقوبات عن الاقتصاد السوري، وقد تقتنص تركيا من دمشق اتفاقاً لترسيم الحدود البحرية بينهما بما يزيد من محورية تركيا إقليمياً كمركز للطاقة، وإن ظل هذا التصور مرهوناً بالمتغير الإسرائيلى الذى لن يسمح بتزايد الوجود التركى في شرق المتوسط.
ب- تزايد التأثير الأمريكى: في عام 2025، طلبت إدارة الرئيس دونالد ترامب من حكومة أحمد الشرع تحديد موقفها من عدة أمور أبرزها: منع عودة النفوذ الإيرانى لسوريا، تطبيع العلاقات مع إسرائيل، إنهاء نشاط عناصر المقاومة الفلسطينية على الأراضى السورية، تحديد الموقف من المقاتلين الأجانب، محاربة الإرهاب...الخ. هذه المطالبات مثلت شروطاً استباقية لرفع العقوبات الأمريكية عن سوريا وعن الشرع نفسه، ونتيجة التعاطى الإيجابى من قبل الحكومة الانتقالية السورية مع هذه الشروط اتجهت الولايات المتحدة إلى رفع تدريجى للعقوبات، مما يساهم في دفع الاقتصاد السوري نحو النهوض مجدداً. ومن المتوقع خلال عام 2026، أن يزداد تأثير الولايات المتحدة على الإدارة الانتقالية السورية في ملفين: الأول، الضغط تجاه دفع الرئيس أحمد الشرع إلى التوصل لاتفاق أمنى أو ترتيبات أمنية مع إسرائيل بشأن الجنوب السوري بصورة تضمن أمن دولة الكيان على حساب سيادة ووحدة الدولة السورية، والانتقال منه إلى تطبيع العلاقات. الثانى، تكريس الوجود العسكرى الأمريكى في سوريا بالحصول على تفاهمات تضمن إقامة قاعدة عسكرية جوية أمريكية في مناطق الوسط السوري، بهدف مراقبة الترتيبات الأمنية المستقبلية بين سوريا وإسرائيل بشأن الجنوب السوري.
ج- عودة روسيا إلى ساحة التأثير السورية: رغم تراجع النفوذ الروسى في سوريا بعد سقوط نظام الأسد، إلا أن روسيا احتفظت بمصالحها الحيوية في سوريا، والمتمثلة في القواعد العسكرية في اللاذقية (قاعدة حميميم)، وقاعدة طرطوس البحرية على الساحل الغربى، ونقاط المراقبة العسكرية في شمال سوريا في الحسكة والقامشلى، ونقاط أخرى في الجنوب السوري. اللافت هنا وجود مصلحة سورية روسية مشتركة تدفع نحو عودة التعاون بين الجانبين: روسيا تحتاج إلى الحفاظ على قواعدها في المنطقة عبر سوريا، فضلاً عن ضمان مستقبل اتفاقات التسليح التى وقعها النظام السابق معها، وسوريا ترغب في قيام روسيا بدور فاعل مستقبلاً تجاه مسالتين: الأولى، الاستفادة من العلاقة المتوازنة بين روسيا وإسرائيل في الضغط على الأخيرة بشأن وقف توغلها في الجنوب السوري، أو على أقل تقدير ضمان مشاركة روسيا في الترتيبات الأمنية المرتقبة فيه مع إسرائيل. والثانية، الضغط على قوات سوريا الديمقراطية "قسد" لإتمام تنفيذ اتفاق مارس الأمنى القاضى بدمجها ضمن الجيش والمؤسسات الإدارية للدولة.
ومن المتوقع خلال عام 2026، أن تحظى روسيا بموقع ضمن معادلة التفاعل السورية الدولية عبر عملية "تقييم" مصالحها التى تجريها الحكومة الانتقالية في سوريا، للوقوف على مدى الاحتياج السوري الفعلى لعودة روسيا إلى ساحة التأثير الداخية والخارجية خلال المرحلة الانتقالية.
د- تفعيل الجوار العربى الإقليمى: الجوار الإقليمى العربى لسوريا في عام 2025، رغم أنه لم يكن على المستوى المطلوب مع كل من العراق ولبنان بالنظر إلى كونهما كانا جزءاً من المشروع الإقليمى الإيرانى، إلا أنه، ومع منتصف العام، بدأت العلاقات السورية مع لبنان والأردن تأخذ منحى تعاونياً إيجابياً عبر بوابة الاقتصاد وأمن الحدود.
ومن المتوقع خلال عام 2026، تزايد درجة ومستوى التنسيق بين سوريا ولبنان والأردن في الملفين، اعتماداً على دور تركيا المركزى في تقريب وجهات النظر السورية-اللبنانية-الأردنية من ناحية، والدفع نحو إقامة مظلة "أمن إقليمية" مشتركة تضم دول الجوار السوري كأداة لحماية الدولة السورية خلال المرحلة الانتقالية من ناحية ثانية.
هـ- تزايد التصعيد الإسرائيلى: فور سقوط نظام الأسد، أعلنت إسرائيل إلغاء اتفاقية فض الاشتباك الموقعة عام 1974، وتوغلت في الجنوب السوري وصولاً إلى جنوب دمشق، كما قامت باستهداف كافة مواقع الطيران السوري وترسانته من الأسلحة والدفاعات الجوية، فضلاً عن استهداف المطارات والأسطول البحرى. هذا بخلاف دعمها للدروز في السويداء بحجة الدفاع عنهم في مواجهة عنف المؤسسة الأمنية الانتقالية، وكانت إسرائيل سبباً مباشراً في زيادة وتيرة التوترات الأمنية بين الحكومة الانتقالية وبين الدروز في السويداء تحديداً. وترغب إسرائيل في التوصل إلى ترتيبات أمنية تضمن بقاء منطقة الجنوب السوري منزوعة السلاح الثقيل، مع ضمان وجود ممر "إنسانى"- وفقاً لما تروج له على غير الحقيقية- يمكنها من الوصول السريع لدعم الدروز في السويداء، بينما تشترط الحكومة الانتقالية في سوريا ضرورة الانسحاب الإسرائيلى كمقدمة لعودة التفاوض بشأن مستقبل الجنوب.
ومن المتوقع في عام 2026، أن يظل التواجد العسكرى الإسرائيلى في جنوب سوريا قائماً إلى أن تستأنف جولات المفاوضات غير المباشرة – سبق عقد 4 جولات منها – بين الطرفين برعاية أمريكية-تركية-أردنية-إماراتية مشتركة، أو يتم "التوافق" على صيغة لترتيبات أمنية جديدة، وإن ظلت "الاختلافات الجوهرية" بين الجانبين بشأن الجولان المحتل ووضع الدروز والمنطقة العازلة داخل الأراضى السورية، تشكل قيوداً واضحة على التوصل لأى صيغة أمنية ما لم تحترم سيادة الدولة السورية على الجنوب.
2- المشاركة في التحالف الدولى لمكافحة الإرهاب: خلال زيارة الشرع للولايات المتحدة في 10 نوفمبر 2025، أعلنت الإدارة الأمريكية انضمام سوريا إلى التحالف الدولى لمحاربة تنظيم "داعش". وبعدها أشارت الحكومة الانتقالية السورية إلى أن مشاركتها في هذا التحالف يقتصر على التحالف السياسي دون المشاركة في العمليات العسكرية، وعكس الاعلان رغبة الشرع في الحصول على الشرعية الدولية، وإنهاء دور قوات سوريا الديمقراطية "قسد" في مكافحة الإرهاب واستبداله بدور قوات الأمن السورية.
ومن المتوقع خلال عام 2026، أن تستفيد دمشق لوجستياً وتكنولوجياً وعسكرياً من وجودها ضمن التحالف، كما أن نقل مهمة مكافحة الإرهاب للحكومة السورية يعنى انتهاء المهمة التى من أجلها تكونت "قسد" في الأساس، ومن ثم تضييق الخيارات أمامها، وتقليل مناوراتها بشأن رفض دمج قواتها ضمن المؤسسة العسكرية للدولة السورية الجديدة، بما يدفعها لتنفيذ اتفاق 10 مارس 2025.
ختاماً، فإن تحولات المشهد السياسي الداخلى في سوريا تؤشر إلى استمرار حالة "الجمود" في عملية الانتقال السياسي خلال عام 2026، حيث عجزت حكومة الشرع عن بناء نموذج للحكم يحقق توافقاً وطنياً مع الأطياف المكونة للنسيج السياسي والاجتماعى في سوريا طوال عام 2025، فضلاً عن تهديدات أمنية وضعت العلاقة بين المركز والأطراف في الشمال والجنوب والغرب على المحك، بما قد يدفع نحو البحث عن نمط حكم "لامركزى" مستقبلاً. بينما تعكس تطورات المشهد الإقليمى والدولى وتفاعلاته مع الحكومة الانتقالية الجديدة تزايداً ملحوظاً في معدلات تقديم الدعم الاقتصادى والسياسي، بما يكسب تلك الحكومة اعترافاً دولياً من ناحية، ويمنحها المزيد من عقود إعادة الإعمار من ناحية ثانية، ويزيد من حجم ودور القوى الإقليمية والدولية في صناعة مستقبل وتوجهات وتحالفات سوريا الجديدة من ناحية ثالثة.