صدر عن المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق العدد الرابع والستون من سلسلة البحث الراجع تحت عنوان:" تيار MAGA في الولايات المتحدة النشأة والامتداد والتحول في نظرته لـ "إسرائيل"، وقدّم له بالآتي:
يأتي هذا البحث في سياق التحوّلات البنيوية التي شهدتها الساحة السياسية الأميركية خلال العقد الأخير، ولا سيما مع صعود تيار "جعل أميركا عظيمة مجددًا" (MAGA) بوصفه أحد أكثر التيارات تأثيرًا في إعادة تعريف الهوية الأيديولوجية للحزب الجمهوري. فقد تجاوز "ماغا" طابعه الانتخابي المرتبط بشخص دونالد ترامب، ليصبح منظومة سياسية–ثقافية تستند إلى شبكة معقّدة من الفاعلين الكاريزميين، والمنابر الإعلامية البديلة، والقيادات الدينية–الهوياتية، والمنظمات الشبابية التي أعادت تشكيل المخيال السياسي لشرائح واسعة من الأميركيين. وتُظهر الأدبيات الحديثة أنّ هذا التيار بات يمثّل، من حيث القاعدة الاجتماعية والامتداد التنظيمي، بنية تتمايز جذريًا عن التيار الجمهوري التقليدي، سواء في مقاربته لمسائل الهوية والدولة والعولمة، أو في تصوّره للعلاقة بين الداخل والخارج.
وتكتسب دراسة هذا التيار أهميتها من كونه أصبح مؤثرًا مركزيًّا في صياغة الخيارات الاستراتيجية للولايات المتحدة، بما في ذلك موقع "إسرائيل" في أولويات اليمين الأميركي. فبينما كان الدعم الجمهوري التقليدي لتل أبيب يقوم على بداهة أيديولوجية واستراتيجية، أدخل تيار "ماغا" مقاربة جديدة قائمة على المشروطية، وقياس التكلفة والمنفعة، وإعادة تعريف معنى "التحالف" في ضوء مبدأ "أميركا أولًا". وتتقصّى هذه الورقة، عبر تحليل للأطر الفكرية والاجتماعية والإعلامية التي يقوم عليها التيار، العوامل التي أسّست لهذا التحوّل، وكيف انعكست على موقف "ماغا" من "إسرائيل" وخاصة منذ مرحلة حرب غزة وما تلاها من تطورات.
وإذ تستند الورقة إلى قراءة تحليلية للبنى التنظيمية والأيديولوجية ضمن التيار، وإلى استعراض البيانات والدراسات ذات الصلة، فإنها تسعى إلى تقديم فهم شامل لآليات إعادة إنتاج القوة داخل "ماغا"، وطبيعة الصراع الذي خاضه التيار مع المؤسسة المحافظة التقليدية حول تعريف المصلحة القومية الأميركية وحدود الانخراط الخارجي. بذلك، لا يقتصر هذا العمل على توصيف التحوّلات، بل يقدّم إطارًا تفسيريًا يساعد على استشراف مآلات العلاقة بين اليمين الأميركي و"إسرائيل"، وعلى تقييم موقع "ماغا" في النظام السياسي الأميركي خلال السنوات المقبلة.
أولًا: نشأة تيار "ماغا" وأهدافه وامتداداته
ظهر شعار "لنجعل أميركا عظيمة مجددًا" لأول مرة في حملة رونالد ريغان الانتخابية عام 1980، في فترة اتسمت بالأزمات الاقتصادية وتراجع الثقة بالقيادة السياسية. كان الشعار بالنسبة لريغان دعوة إلى استعادة قوة أميركا الاقتصادية والعسكرية، وإعادة بعث "التفاؤل الوطني". غير أنّ الشعار في تلك الحقبة لم يتحوّل إلى تيار سياسي مستقل أو رمز لقاعدة اجتماعية واسعة، بل بقي ضمن سياق الحملات التقليدية داخل الحزب الجمهوري .
في تشرين الثاني 2012، وبعد خسارة الجمهوريين الانتخابات الرئاسية، بدأ ترامب باستخدام هذا الشعار عنوانًا لرؤيته السياسية، ثم سجّله في تموز 2015 علامة تجارية، استعدادًا لحملته الرئاسية. ومع إعلان ترشحه عام 2015، لم يكن الشعار مجرد عبارة انتخابية، بل أصبح جوهر رسالته السياسية، معبّرًا عن توجُّه قومي وشعبوي يتحدّى المؤسسة السياسية التقليدية. أدرك ترامب مبكرًا قوة هذا الشعار على المستوى العاطفي، وقدرته على تجييش قطاعات واسعة تشعر بأن الولايات المتحدة فقدت مكانتها التي كانت عليها قبل عقود . لم يمر وقت طويل بعد فوز ترامب في انتخابات 2016 حتى أصبح تيار MAGA حركة سياسية–اجتماعية لها قاعدة صلبة داخل الحزب الجمهوري. هذا التحوّل جعل من التيار مظلةً تجمع المحافظين التقليديين، والقوميين الاقتصاديين، والمسيحيّين الإنجيليين، وشرائح من الطبقة العاملة البيضاء التي رأت في ترامب صوتًا يمثّلها أكثر من السياسيين التقليديين. وتأسّست لاحقًا منظّمات مرتبطة بالتيار مثل "لجان العمل السياسي – PACs" لتعزيز حضوره، فيما ازدادت قوته داخل الحزب الجمهوري، لدرجة أنّ العديد من المرشحين باتوا يسعون لاجتذاب أنصار "ماغا" لتعزيز حظوظهم في الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري.
1.1 الأصول الفكرية والاجتماعية لتيار ماغا
يقوم التيار على سردية مركزية مفادها أن الولايات المتحدة كانت في الماضي أكثر قوة وهيبة-اقتصاديًا، وعسكريًا، وثقافيًا- وأن هذه "العظمة" تراجعت نتيجة سياسات العولمة والانفتاح. يصف تقرير مركز الدراسات الأميركيّة هذا التيار بأنه يستلهم "نزعة قومية رجعية" تريد إعادة البلاد إلى مرحلة افتراضية من الانسجام العرقي والثقافي والازدهار الاقتصادي. هذا الحنين إلى الماضي (Nostalgia) هو أحد أقوى منابع جاذبية التيار، إذ يمنح شعورًا باليقين والهوية في زمن التغيُّرات السريعة .
منذ التسعينيات، تضرّرت قطاعات واسعة من الطبقة العاملة الأميركية جراء انتقال الصناعات إلى الخارج وتراجع فرص العمل في مجالات التصنيع. وجد هؤلاء في خطاب ترامب- الذي وعد بإعادة المصانع والوظائف وحماية السوق المحلي- منفذًا سياسيًا يعبّر عن معاناتهم. يرى الباحثون أنّ "ماغا" ليست مجرد حركة أيديولوجية، بل تعبير اجتماعي عن الاستياء والقلق الاقتصاديين، اللذين شكّلا حاضنة خصبة لخطاب معادٍ للعولمة والتجارة الحرة .
يتكون جزء مهم من قاعدة تيار "ماغا" من الإنجيليين البروتستانت والمحافظين الاجتماعيين الذين رأوا فيه مدافعًا عن "القيم الأميركية التقليدية"، كالأسرة، والدين، والهوية الثقافية المحافظة. وقد أظهرت دراسات أكاديمية أنّ دعم هذه الفئات لترامب لم يكن نابعًا فقط من مواقفه السياسية، بل أيضًا من شعورها بأنّ مؤسسات الدولة والثقافة الليبرالية تستهدف قيمها وتحاول تهميشها . وبذلك أصبحت الحركة حاضنة للصراع الثقافي المستمر في الولايات المتحدة بين المحافظين والليبراليين. يعتبر تيار "ماغا" أنّ "المؤسسة (The Establishment)، أي الإعلام الليبرالي، والبيروقراطية الحكومية، والحزب الديمقراطي، وحتى بعض قيادات الحزب الجمهوري- لا تمثّل مصالح "الأميركيين الحقيقيين". لذلك برزت داخل الحركة نزعة مناهضة للنخب، مقرونة باتهامات للإعلام بـ"تزوير الحقائق" أو "التحيُّز". وشكّلت هذه النزعة أساسًا لتآكل الثقة العامة بالمؤسسات الديمقراطية والإعلامية، وهو ما خلق تحدّيات كبيرة أمام الأطر التقليدية الأميركية.
1.2 مبادئ تيار "ماغا" ومضامينه السياسية
يسعى تيار "ماغا" إلى جعل السياسة الخارجية والاقتصادية موجّهة حصرًا لمصلحة الولايات المتحدة، ولو على حساب الحلفاء أو المؤسسات الدولية. وقد تَرجَم ترامب هذا التوجُّه إلى سياسات انسحابية، كالانسحاب من "اتفاقية باريس للمناخ"، والضغط على أعضاء حلف الناتو لرفع منسوب مساهماتهم المالية، ووقف المساهمة في عدد من المنظّمات الدولية. يرفض تيار "ماغا" العولمة الاقتصادية ويعتبرها سببًا رئيسيًا لانهيار الصناعات الأميركية التقليدية، لذلك يدعو إلى فرض رسوم جمركية، وإعادة التفاوض على الاتفاقيات التجارية، وإلغاء أو تقييد سياسات التجارة الحرة. وقد شكّلت هذه الرؤية ما يُسمى "القومية الاقتصادية"، وهي إحدى أبرز سِمات "ماغا".
يرى أنصار التيار أن الهجرة، خصوصًا من خارج أوروبا، تهدد الهوية الثقافية والانسجام الاجتماعي للولايات المتحدة. لذلك يُصرّ التيار على بناء الجدران الحدودية، وتشديد إجراءات اللجوء، وتقييد برامج الهجرة القانونية. وتُعتبر هذه المواقف من أكثر نقاط الجدل حول الحركة، لأنها ترتبط باتهامات بالتمييز العرقي أو النزعة القومية المتشددة. يعارض التيار السياسات الليبرالية المتعلقة بالأقليات، والجندر، والهوية العرقية، ويعتبرها تهديدًا للقيم الأميركية التقليدية. لذلك، يُعدّ ماغا جزءًا من "الحرب الثقافية" الأميركية، التي تشمل نقاشات حول التعليم، والمناهج، ودور الدين، والهوية الجندرية، وغيرها. برز هذا الموقف بشكل واضح بعد انتخابات 2020، حيث أصرّ ترامب وأنصاره على أنّ الانتخابات "سُرقت"، رغم غياب الأدلة القانونية على ذلك. وقد أدى هذا الخطاب إلى أزمة ثقة، واعتبره كثير من المحللين أخطر تأثير سياسي–اجتماعي لتيار ماغا حتى اليوم.
ثانيًا: أهداف تيار "ماغا"
1. ترسيخ شعار "أميركا أولًا" مبدًا توجيهيًا للسياسة
من أبرز أهداف تيار "ماغا" إعادة صياغة السياسة الأميركية على قاعدة "أميركا أولًا"، وهذا يعني تفضيل المصالح الداخلية—اقتصادية، عسكرية، مجتمعية—على الالتزامات الدولية أو الشراكات التي يُنظر إليها على أنها تُفقد الولايات المتحدة سيادتها أو تضر بمصالحها. يعارض التيار تدخُّل الولايات المتحدة في حروب خارجية طويلة، أو دفع معونات خارجية تُكبّد الدولة أعباء مالية، معتبرًا أن هذه الموارد يجب أن تُصرف على الشعب الأميركي أولًا. كما يهدف إلى حماية الاقتصاد الوطني من تداعيات العولمة: فرض رسوم جمركية، وإعادة إحياء الصناعات المحلية، وحماية سوق العمل الأميركي. هذا التوجه الاقتصادي القومي كان من الركائز التي اعتمد عليها مناصرو تيار ماغا، خصوصًا من الطبقة العاملة والوسطى المتضرّرة من انتقال التصنيع إلى خارج البلاد .
2. الحفاظ على هوية قومية وثقافية – قومية بيضاء ومسيحية
هدف أساسي آخر لتيار الماغا يتمثل في استعادة ما يعتبرونه "أميركا الأصلية"، أي "أميركا التي كانت"- في تصور القائمين على الحركة- متجانسة عرقيًا، ودينيًا وثقافيًا. يتجلّى هذا في دعم ما يُعرف بـ "القومية المسيحية"، التي تربط بين الهوية القومية الأميركية والانتماء الديني المسيحي. هذا المشروع الثقافي- العرقي يسعى إلى إحياء سردية تاريخية تقول إن الولايات المتحدة أُسِّست على قيم مسيحية، وأن الابتعاد عن هذه القيم أو فتح البلاد للهجرة والتعددية الثقافية هو تهميش لهويتها الأصلية . بناء على ذلك، يعارض كثير من مناصري تيار "ماغا" التعدّدية العرقية، والهجرة من خارج أوروبا، أو سياسات استقبال المهاجرين، خاصة من خلفيات غير غربية .
3. تقليص دور المؤسسات الدولية وإعادة التركيز على سيادة الدولة
يهدف تيار "ماغا" إلى تقليص ارتباط الولايات المتحدة بالمؤسسات الدولية، خاصة تلك التي يُعتقَد أنّها تُملي سياسات لا تخدم مصالح أميركا- مثل الاتفاقيات المناخية (اتفاقية باريس)، والمنظمات متعدّدة الأطراف (كمنظمات الأمم المتحدة)، أو التحالفات العسكرية التي يُنظر إليها على أنها تُضعف القدرة الأميركية، أو تجعلها تنخرط في صراعات لا تحقّق مصلحة مباشرة. والسعي لتحقيق هذا الهدف ليس لأسباب سياسية فقط، بل هو جزء من رؤية قومية–سيادية ترى أنّ الولايات المتحدة يجب أن تعيد السيطرة على قراراتها السيادية دون تدخُّل خارجي أو التزامات طويلة الأمد .
4. إعادة تشكيل العلاقات بين الدين والدولة
من خلال استغلال دعم ما يُعرف بالمسيحيين الإنجيليين، يسعى تيار "ماغا" إلى دمج الدين في البنية السياسية للبلاد- أي أن القبول الشعبي والسياسي للدولة لا يكون على أساس مواطنة أو دستور فقط، بل على أساس انتماء ديني ثقافي. هذا الهدف له أبعاد راهنة تتعلّق بالقانون، والحقوق المدنية، والقيم الاجتماعية، والتعليم، ومنظومة الهوية .
5. مقاومة النخب الليبرالية والإعلام المهيمن
يستهدف أنصار "ماغا" النخبة التي لطالما حكمت وكانت موجودة في الإدارات الليبرالية المتعاقبة، السياسية والإعلامية والثقافية، والتي يرون أنّها تدير الولايات المتحدة بعيدًا عن "الأميركي العادي". واستنادًا إلى خطاب شعبوي، تسعى إلى تقويض نفوذ هذه النخبة، ونشر سردية تقول إنّ النظام السياسي والإعلامي منحاز ولا يمثّل إرادة "الشعب الحقيقي". من خلال هذا الهدف، يسعى التيار إلى استقطاب أميركيين غير ممثلين في السلطة عادة، كالعمال، والفلاحين، والمحافظين الملتزمين دينيًا، وسكان الأرياف والضواحي، وأولئك الذين يشعرون بأنّ الهياكل الاقتصادية والسياسية تغيّبهم. هكذا، يتحوّل تيار "ماغا" ليس إلى حركة انتخابية فقط، بل إلى قاعدة جماهيرية عريضة متماسكة أيديولوجيًا .
ثالثًا: مراكز القوى في تيار MAGA
تُظهِر الأدبيات الحديثة أنّ تيار "ماغا" يمثّل بنية سياسية–ثقافية معقّدة تتجاوز كونه حركة انتخابية مرتبطة بشخص دونالد ترامب. وقد صعد التيار بوصفه مشروعًا فكريًا–سياسيًا متعدّد المستويات، يجمع بين قيادات كاريزمية، وجهاز إعلامي موازٍ، وشبكات دينية–هويّاتية، وهياكل شبابية تعمل ضمن الجامعات والمدارس. هذا التداخل البنيوي يجعل التيار أقرب إلى منظومة تعبئة شعبوية دائمة منه إلى حركة انتخابية ظرفية. وتُظهر بعض القراءات الحديثة أنّ مراكز القوة في "ماغا" لا تعمل كأجنحة منفصلة، بل كـ "عُقَد" داخل شبكة متكاملة قادرة على إنتاج التوجّه السياسي وإعادة إنتاج الولاء .
. 1 القيادة الكاريزماتية
تظهر القيادة الكاريزماتية لشخص دونالد ترامب بوصفها البنية الأكثر وضوحًا. إلا أنّ الأدبيات الحديثة تشدّد على أنّ سلطة ترامب داخل التيار ليست فردية، بل تُعاد صناعتها عبر "وكلاء كاريزميين" في الكونغرس والإعلام. لكن القاعدة "الماغاوية" لا تتلقى خطاب ترامب كما هو، بل من خلال وسطاء يقومون بترشيح المعنى وتكييف الرسالة مع الحسّيات الشعبوية السائدة . ويمكن ملاحظة ذلك بوضوح في الدور الذي أدّته شخصيات مثل "مارجوري تايلور غرين" ونائب الرئيس الحالي "جاي. دي. فانس" والنائب السابق "مات غيتس"، الذين تحوّلوا إلى ما يشبه "محاكم تفسيرية" للترامبية. فمواقفهم لا تعبّر عن الولاء للزعيم فقط، بل تحدّد أيضًا الحدود المقبولة لخطاب الرئيس نفسه . حين أعلن ترامب الضربة العسكرية ضد المفاعلات النووية الإيرانية في حزيران 2025، لم يصادق أغلب رموز تيار "ماغا" على القرار لأنه صدر عن زعيمهم، بل جاهروا بالرفض والتشكيك والانتقاد.
.2 الإعلام البديل
يظهر في الأدبيات المتداولة أنّ الإعلام البديل أصبح الجهاز الأكثر تأثيرًا في إنتاج خطاب "ماغا" وصناعة "الحقيقة" السياسية لأنصارها. تشير التقديرات إلى أنّ الإعلام اليميني الماغاوي يشكّل ما يمكن تسميته بـ "المجال العام الموازي" الذي يفصل القاعدة عن المخيال الإعلامي الوطني، ويعيد تأطير الأحداث ضمن سردية قومية–شعبوية ترفض النخب وتشكّك في دوافع المؤسسات. ويحتل كل من "تاكر كارلسون" و"ستيف بانون" موقعَين مركزيَّين في هذا الحقل. فكارلسون لا يمارس دور المعلّق الإعلامي، بل دور "السلطة التأويلية الأولى" داخل التيار، إذ غالبًا ما تُقاس شرعية أي قرار سياسي من خلال صدى موقفه عليه. وقد مثّلت حلقاته الناقدة للتورُّط الأميركي في الحرب الإسرائيلية– الإيرانية عام 2025 نموذجًا واضحًا يمثل قدرة الإعلام البديل على تعديل اتجاهات القاعدة وتحديد الإطار الإدراكي الذي تُفهم الأحداث من خلاله، وإعادة إنتاج مفهوم "أميركا أولًا" عبر نفي أي التزام عسكري خارجي لا يحقّق منفعة مباشرة للأمة .
ويقدّم ستيف بانون نموذجًا أكثر صراحةً للدور الاستراتيجي للإعلام داخل ماغا، فبرنامجه War Room تحوّل إلى غرفة تعبئة سياسيّة تُدار منها الحملات، وتُصاغ فيها الخطابات، وتُحدَّد عبرها أولويات الغضب الشعبوي. ليس بانون مجرد مروّج لرسائل ترامب، بل هو أيضًا منتج لـ "أيديولوجيا ماغا" ذاتها، من خلال صياغة سرديات تجمع بين قومية اقتصادية، ومناهضة "الدولة العميقة"، والتشكيك في التحالفات التقليدية وعلى رأسها دعم "إسرائيل". وقد ظهر تأثيره بشكل لافت حين دعا ترامب إلى توضيح قراره المتعلِّق بالهجوم على إيران، في خطوة دلّت على أنّ الإعلام البديل ليس تابعًا للقيادة، بل يُمارس عليها نوعًا من الرقابة الأيديولوجية .
.3 الجناح الديني–الهويّاتي
يُعتَبَر الجناح الديني–الهويّاتي أحد مراكز القوى الأساسية في تيار "ماغا"، وهو يُعَدُّ أحد أكثر أركان التيار تعقيدًا. تبيّن الأدبيات المتخصّصة في سوسيولوجيا الدين السياسي أنّ لحظات التفكُّك الثقافي في المجتمعات الغربية تميل إلى استدعاء الدين بوصفه مصدر شرعية سياسية. إلا أنّ ماغا لا تستعيد الدين كما هو، بل تعيد تشكيله ضمن إطار قومية محافِظة مسيحية، تجعل الهوية الدينية متداخلة مع مفهوم السيادة الوطنية . وتوضح بعض الأعمال الأكاديمية أنّ القيادات الفكرية لليمين الجديد، يمدح فيها منظّرو "ما بعد الليبرالية"، مثل باتريك دينين وأدريان فيرمول، ساهموا في تحويل نقد الليبرالية من نقاش فلسفي إلى مشروع سياسي يهدف إلى استعادة "الخير العام" عبر دولة قوية محافظة .
هذا التحوّل انعكس على مواقع التأثير الديني داخل تيار "ماغا". فشخصيات مثل "جيري فالويل الابن" أعادت تعريف الجامعات الإنجيلية بوصفها حاضنات لاهوتية–سياسية، بينما أدّت حركة ReAwaken America Tour إلى إدخال مفهوم "الزعيم المخلّص (Messianic Leader)" إلى الخطاب الديني الشعبي، معتبرة ترامب "أداة إلهية لحماية الأمة من التفكُّك الأخلاقي". وقد أدّى ذلك إلى تعزيز الارتباط النفسي بين جزء كبير من القاعدة الدينية ومشروع "ماغا"، بحيث لم يعد الدعم يستند إلى السياسات، بل إلى تصور ميتافيزيقي للدولة .
.4 المنظّمات الطلّابية
ويبرز الفاعل الرابع في البنى الشبابية، وخاصة المنظمات الطلابية مثل Turning Point USA التي وصفها مؤسسها "تشارلي كيرك" على أنّها "المختبر الاجتماعي المتقدّم للترامبية". فهذه المنظّمات تُعدّ جزءًا من "المأسسة الأيديولوجية" للحركات الشعبوية داخل فضاء التعليم العالي . ومع حضورها في أكثر من 300 جامعة، باتت TPUSA تُعيد تشكيل الفضاء العام الجامعي من خلال برامج استقطابية، وإعداد قوائم أساتذة "معادين للهوية الوطنية" ، وحملات تعبئة بشأن قضايا ثقافية مثل حرية التعبير والصراع حول المناهج. وقد تصاعد دورها خلال احتجاجات الجامعات المؤيدة للقضية الفلسطينية (2024–2025)، إذ عملت على استثمار هذه الاحتجاجات لتأطير الجامعات بوصفها "مراكز للتطرف اليساري"، ما أثار تماهيًا بين الخطاب الشبابي والإعلام البديل في تلك المرحلة . وتوضح الأدبيات المعنية بسوسيولوجيا الحركات الاجتماعية أنّ وجود هياكل شبابية فعّالة يشير إلى أنّ الحركة تجاوزت مرحلة الاحتجاج إلى مرحلة "التنظيم المستدام" ، وهو ما ينطبق على "ماغا"، التي تنتج عبر هذه الهياكل جيلًا جديدًا من القادة الإعلاميين والسياسيين القادرين على إعادة إنتاج الخطاب الشعبوي داخل المؤسسات مستقبلًا.
ما يجمع هذه المراكز الأربعة هو أنّها لا تعمل بمنطق الهرمية، بل بمنطق الشبكة. وكما هو معلوم، لا تصدر السلطة في المجتمعات الشبكية عن مركز واحد، بل تُنتج عبر التفاعل بين عُقَد متعدّدة . وفي حالة تيار "ماغا"، تتكامل القيادة الكاريزماتية مع الإعلام، والدين، والشباب، لإنتاج "هيمنة شبكية" تمارس تأثيرًا على الحزب الجمهوري يفوق تأثير البنى المؤسَّسية التقليدية. وكان يمكن رؤية ذلك بوضوح خلال الحرب الإسرائيلية–الإيرانية في حزيران 2025 وما تلاها من خطاب موجَّه ضد "إسرائيل"، حيث حمل العديد من رموز التيار على بنيامين نتنياهو واتّهموه بجرّ أميركا إلى مستنقع حرب جديدة "لا تنتهي" في الشرق الأوسط. ولذلك، عندما أعلن ترامب عن اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، سارع رموز "ماغا" إلى الاحتفال واعتبار الاتفاق إنجازًا لفلسفتهم القائمة على أساس "أميركا أولًا" .
إنّ هذا التكوين الشبكي، المدعوم بأيديولوجيا قادرة على الجمع بين القومية الاقتصادية، والهويات الدينية، والغضب الشعبي من النخب، يجعل "ماغا" من الحركات السياسية الأكثر ثباتًا في التاريخ السياسي الأميركي الحديث. فالقوة لا تصدر عن المركز، بل تنتج من توزيعها عبر نُظُم رمزية وثقافية واجتماعية تجعل التيار قادرًا على الاستمرار حتى في غياب زعيمه الأصلي، وهو استنتاج تؤكّده القراءات الأكاديمية التي تذهب إلى أنّ الشعبوية اليمينية الجديدة تقوم على "بنية ثقافية منظَّمة" وليست رد فعل عاطفي عابر . تنشر الرابطة كامل الدراسة للاطلاع والاستفادة