أعلنت روسيا، في الثامن من أكتوبر الجاري، تعيين قائد جديد للقوات الروسية في أوكرانيا، وهو “سيرجي سوروفيكين” المعروف بشراسته وتاريخه الحافل المرتبط بالمشاركة في حروب عديدة. الإعلان بصورة رسمية عن هوية قائد العملية العسكرية الجديدة، وتزامنه مع تكبد موسكو العديد من الخسائر في الجبهتين الشرقية والجنوبية الأوكرانيتين، يؤكد أن الرئيس “بوتين” في طريقه للتعاطي بصورة مختلفة مع الحرب القائمة حالياً في أوكرانيا. وقد جاءت الضربات الصاروخية الكبيرة التي تعرضت لها العاصمة كييف، عشية استهداف الجسر الواصل بين روسيا وجزيرة القرم، لتعطي لمحة بسيطة عن المسار العسكري الجديد الذي ستكون عليه العملية الروسية في أوكرانيا تحت قيادة “سيرجي سوروفيكين”.
تاريخ حافل
تؤكد التقارير الصحفية المتداولة عن اسم القائد العسكري الروسي الجديد، امتلاكه الكثير من الخبرات العسكرية، إلا أنها تشير في ذات الوقت إلى ولائه الأيديولوجي الواسع إلى الاتحاد السوفييتي، والتزامه بتحقيق نتائج عملية ملموسة، حتى إن كان هذا يعني اللجوء إلى الأساليب العسكرية القاسية. وبشكل عام، تكشف المعلومات المتاحة حول القائد الجديد عن عدد من الأبعاد الرئيسية المتمثلة فيما يلي:
1. امتلاك خبرة عسكرية واسعة: تخرج “سوروفيكين” صاحب الـ55 عاماً في كلية “فرونزي” العسكرية عام 1995 قبل أن يتولى مناصب قيادية أخرى في الجيش الروسي. ويمتلك “سوروفيكين” سجلاً عسكرياً حافلاً؛ حيث شارك في مجموعة من الحروب الروسية الخارجية، مثل النزاع المسلح في طاجيكستان أثناء تسعينيات القرن الماضي، وفؤ الحرب الشيشانية الثانية خلال مطلع الألفينيات، بالإضافة إلى مشاركته في العملية العسكرية الروسية في سوريا. وأخيراً وليس آخراً، أُحيلت إليه مهمة قيادة العمليات العسكرية في جنوب أوكرانيا، بعد شهر واحد فقط من تعيين الجنرال “ألكسندر دفورنيكوف” في مهمة قيادة القوات الروسية في حربها على أوكرانيا في أبريل الماضي، ليكتسب خبرة ومعرفة ميدانية هامة بالمعارك القائمة حالياً في أوكرانيا.
2. الالتزام العسكري الصارم والدفاع عن الإرث السوفييتي: يعرف عن “سيرجي سوروفيكين” التزامه العسكري الصارم، ودفاعه المستميت عن الاتحاد السوفييتي حتى آخر لحظاته؛ فقد كان القائد العسكري الأوحد الذي استمع لأوامر القيادة السوفييتية العليا، وهجم على بعض المتظاهرين الداعين إلى سقوط الاتحاد السوفييتي وإقامة نظام ديمقراطي في عام 1991؛ ما أدى إلى سقوط ثلاثة متظاهرين، وانتهى به الأمر في السجن لفترة زمنية قصيرة؛ عقاباً على مشاركته في قمع المتظاهرين والانضمام إلى المتشددين السوفييت. وقد أكسبه هذا الفعل سمعة سيئة في أوساط وسائل الإعلام الغربية، وأخذت هذه السمعة تتصاعد في عام 2004 عندما تداولت وسائل الإعلام أخباراً تفيد بأن لواءً في الجيش الروسي قد أقدم على الانتحار، بعد أن وبخه “سوروفيكين” وأهانه أمام زملائه.
3. الصدام المستمر ضد الغرب: نظراً إلى اعتماد “سوروفيكين” على سياسات قاسية في مواجهة الخصوم، لاحقته خلال السنوات الماضية اتهامات غربية متكررة بممارسة انتهاكات حقوقية، وهناك حالة من الصدام ضد أطراف غربية عديدة؛ فعلى سبيل المثال، أشار تقرير لمنظمة “هيومن رايتس ووتش”، بتاريخ 15 أكتوبر 2020 تحت عنوان “عم يستهدفوا الحياة بإدلب: الضربات السورية والروسية على البنى التحتية المدنية”، إلى أن “الجنرال سوروفيكين أحد القادة الذين يتحملون مسؤولية الانتهاكات في سوريا وبخاصة في أثناء الهجوم على إدلب”، كما وُضع على قائمة عقوبات الاتحاد الأوروبي التي وصفته بأنه مسؤول عن "دعم وتنفيذ الإجراءات والسياسات التي تقوض وتهدد سلامة أراضي أوكرانيا وسيادتها واستقلالها وكذلك الاستقرار أو الأمن في أوكرانيا".
4. التمرس في الجمع بين سلاح الجو والمشاة والمدفعية: مُنح “سيرجي سوروفيكين” بعض الأوسمة العسكرية الروسية؛ وذلك على غراروسام “بطل روسيا”، و”القديس جورج” من الدرجة الرابعة، ناهيك عن وسام “الشجاعة”. وعلى الرغم من تخصص الرجل العسكري في سلاح المشاة، أشرف وقاد السلاح الجوي الروسي لعدد من السنوات، كما أنه يمتلك معرفة خاصة بسلاح المدفعية. وتحتاج روسيا حالياً إلى قائد عسكري قادر على إقامة توليفة سحرية، والموازنة بين القدرات المدفعية والميدانية والجوية الروسية؛ لمجابهة التفوق العسكري الأوكراني المتصاعد في ميدان المعركة. ويبدو أن الرئيس “بوتين” قد وجد ضالته في “سيرجي سوروفيكين” الرجل القادر على المواءمة بين هذه الأسلحة في وقت واحد.
قرار استراتيجي
تتضارب التوقعات الخاصة بمسار الحرب الروسية في أوكرانيا، عقب تعيين “سوروفيكين” قائداً للعمليات العسكرية هناك، إلا أن المؤكد هو أن التعيين قرار استراتيجي بامتياز، يحمل في طياته عدداً من الرسائل العسكرية والسياسية الخاصة على النحو التالي:
1. تهدئة الغضب الداخلي في روسيا: وهذه المرة هي الأولى التي يُعين فيها وزير الدفاع “قائداً لقوات العمليات الخاصة” في أوكرانيا علناً، بعد أن كان من المعتاد أن تهيمن السرية على صاحب هذا المنصب. ويمكن أن يفسر قرار الرئيس “بوتين” إيكال مسؤولية القوات الروسية في أوكرانيا إلى “سوروفيكين” بسمعته العسكرية وخبراته الميدانية، وبخلفيته الأيديولوجية المناصرة للاتحاد السوفييتي والتفوق الروسي. وقد رحب عدد من القوميين الروس بخبر تعيين “سوروفيكين” رئيساً للعمليات العسكرية القائمة في أوكرانيا حالياً، الذين تعالت انتقاداتهم للجيش الروسي خلال الأسابيع الماضية، وصولاً إلى اتهام بعض العناصر القائمة في الجيش بالخيانة والعمالة للغرب. ومن الروس الذين رحبوا بتعيين “سوروفيكين” قائداً للعمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، “يفجيني بريجوزين” مؤسس شركة “فاجنر” العسكرية الخاصة، وأحد الأصوات التي انتقدت علانيةً أداء الجيش الروسي مؤخراً.
2. الحفاظ على هيبة المؤسسة العسكرية: لا يمكن إغفال أن قرار تعيين “سوروفيكين” يستبطن محاولة من جانب الرئيس الروسي “بوتين” للحفاظ على هيبة المؤسسة العسكرية بعد الإشكاليات التي أظهرتها عمليات استدعاء واختيار المجندين الجدد عقب إعلان الرئيس الروسي، يوم 21 سبتمبر الماضي، عن تعبئة جزئية بالجيش الروسي لحشد الجنود للمشاركة في العملية العسكرية الخاصة بأوكرانيا”. وهي الإشكاليات التي استدعت انتقادات عديدة للمسؤولين العسكريين على النحو الذي أفضى إلى تغييرات في بعض المناصب على غرار إدارة العمليات اللوجستية للجيش، التي كلف بها الجنرال “ميخايل ميزينتسيف” بعد إقالة نائب وزير الدفاع الروسي الجنرال “دميتري بولجاكوف”.
3. إمكانية تكرار سيناريو الحرب السورية: يدور سؤال في الوقت الحالي حول إذا ما كان الرئيس الروسي سيقدم على تنفيذ تهديداته السابقة، وسيلجأ إلى استخدام بعض أسلحة الدمار الشامل، لترجيح كفته في الحرب القائمة حالياً في أوكرانيا. وتعيين “سوروفيكين” يعطي بعض الدلالات المهمة في هذا الصدد؛ فقد اتهم الرجل بالتورط في القصف العشوائي لمقاتلي المعارضة والإشراف على بعض الهجمات بالأسلحة الكيمياوية في سوريا، في حملة يعتقد أنها كانت محورية في مساعدة الرئيس السوري “بشار الأسد” لاستعادة السيطرة على معظم أرجاء البلاد. ويرى المحللون أن النظر إلى الأساليب القتالية الروسية التي استُخدمت في كل من ريف درعا وحماة وإدلب وحلب، يمكن أن يمنحنا نظرة مستقبلية سريعة حول ما يمكن أن يقدم عليه الجنرال الجديد خلال الأيام القادمة في أوكرانيا.
4. إرسال رسائل تحذيرية إلى الدول الغربية: يُعرف الجنرال” سوروفيكين” في أوساط زملائه باسم “هرمجدون”؛ وذلك لأسلوبه المتشدد وغير التقليدي في شن الحروب. و”هرمجدون” مصطلح ديني مسيحي يعني حرب نهاية العالم. ويزعم الخبراء أيضاً أن “سوروفيكين” قائد محنك وكفء، ولكنه لن يكون قادرًا على حل جميع المشاكل؛ فروسيا تعاني من نقص في الأسلحة والقوى العاملة، وسيسعى إلى تبني عدد من الحلول غير التقليدية للتغلب على هذا النقص العددي والكيفي في العداد والقدرات اللوجستية للجيش الروسي في أوكرانيا. وبالرغم من ذلك، يبدو أن هذا التعيين يرسل رسائل حاسمة إلى الداخل والغرب؛ أن الرئيس “بوتين” ما زال يمتلك في حوزته العديد من الخيارات، وأن الأسوأ لم يأت بعد. ولعل هذا ما دللت عليه الهجمــات الصاروخيــة التــي تعرضــت لهــا العاصمــة الأوكرانية كييــف ومــدن رئيســية أخــرى؛ وذلـك يـوم 10 أكتوبـر الجـاري. وتضمنـت الهجمـات – التـي جـاءت بعـد يـوم مـن اتهـام الرئيس الروسـي “بوتيـن” أوكرانيـا بالإرهاب بسـبب هجـوم علـى جسـر القـرم – اســتهداف منشــآت بنيــة تحتيــة أوكرانيــة، وخاصــة فــي مجالات الطاقــة والاتصالات والدفاع.
خلاصة القول: على الرغم من تباين التقديرات والسيناريوهات المطروحة لمسار الحرب الروسية في أوكرانيا، فإن متابعي التطورات على الأرض يدركون جيداً أن “سوروفيكين” يحمل إرثاً ثقيلاً يصعب تجاوزه بسهولة؛ فمن ناحية، يشير بعض المحللين إلى أنه حتى مع التغيير في القيادة العسكرية، سيكون من الصعب على أي فرد – مهما اتسعت خبراته الحربية والعسكرية – أن يُحدث فرقًا ملحوظاً في مسار الحرب الحالي؛ وذلك نظراً إلى المشكلات الهيكلية التي يعاني منها الجيش الروسي، ناهيك عن المساندة العسكرية الكبيرة التي تقدمها الولايات المتحدة والدول الغربية لأوكرانيا حالياً، إلا أنه يوجد تيار آخر يرى أن “سوروفيكين” لديه القدرة على تحويل مسار الحرب الحالي؛ وذلك نتيجة خبرته العسكرية الطويلة، وتميزه بالصرامة والإصرار على تحقيق الأهداف الموكلة إليه، ومع الزيادة العددية المتوقعة للقوات الروسية في أوكرانيا بعد استكمال التعبئة الجزئية هناك، فمن المحتمل أن يتغير الوضع بشكل ما لصالح روسيا.