تشكل تصريحات المبعوث الأميركي إلى الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، صورة واضحة عن الاتجاه الذي تسير فيه إدارة ترامب تجاه لبنان، بما يتجاوز الشعارات الدبلوماسية إلى رسم خارطة طريق تهدف إلى إعادة تشكيل التوازنات الداخلية والخارجية للبلاد وفق مصالح واشنطن وتل أبيب. ما يبرز في كلام ويتكوف ليس مجرد “دعوة إلى السلام”، بل هو محاولة مقنّعة لفرض شروط استسلام سياسي وعسكري واقتصادي على لبنان، وذلك عبر مجموعة من النقاط التي تكشف نوايا تتجاوز مسألة حزب الله إلى إعادة هندسة القرار السيادي اللبناني برمته.
تشمل الطروحات التي قدمها ويتكوف مجموعة من الخطوات المترابطة، يمكن تلخيصها كالتالي:
1.تطويق حزب الله بالكامل: ليس فقط في جنوب الليطاني، وفق القرار 1701، بل في كل لبنان، وصولًا إلى البقاع والشمال. هذا يعني سحب قدرة الحزب على الدفاع والردع، ما يعزز التفوق الإسرائيلي.
2.مفاوضات مباشرة مع إسرائيل: الحديث عن مفاوضات وجهاً لوجه بقيادة شخصية مدنية لبنانية مقابل وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي، رون ديرمر (المقرب من نتنياهو)، يشير إلى توجه يراد منه فرض اتفاق سياسي بشروط إسرائيلية، بعيدًا عن أي دعم دولي متوازن.
3.ربط إعادة الإعمار بالتسوية: اشتراط إعمار الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية بإتمام تسوية مع تل أبيب هو ابتزاز واضح. بدلًا من تقديم الدعم الإنساني كحق، يجري تحويله إلى أداة ضغط سياسي.
4.إعادة رسم الحدود تحت الوصاية الدولية: المطالبة بترسيم الحدود البرية مع إسرائيل وسوريا، وكذلك البحرية مع قبرص، يوحي بفرض واقع حدودي جديد يخدم مصالح إسرائيل، خاصة في ملف النفط والغاز.
5.تعديل ميزان القوى العسكري الداخلي: فرض نزع سلاح حزب الله والمخيمات الفلسطينية يعكس محاولة لتفكيك أي قوى ردع داخلية، بينما لا تتحدث الطروحات عن ضبط الخروقات الإسرائيلية المستمرة أو ترسانتها العسكرية.
6.إعادة هيكلة القرار السياسي والاقتصادي: عبر التهديد بوقف الدعم عن الجيش اللبناني وربط المساعدات بإجراءات سياسية، تحاول واشنطن إعادة صياغة النظام اللبناني ليتناسب مع مصالحها، خصوصًا من خلال الترويج لدور الرئيس جوزف عون ونواف سلام كأسماء محتملة للمهمة.
تأتي هذه الرؤية الأميركية في لحظة إقليمية حساسة حيث أن:
-إسرائيل تعيش مأزقًا أمنيًا داخليًا وخارجياً، من غزة إلى لبنان، وهي بحاجة إلى فرض “تهدئة دائمة” بشروطها.
-حزب الله يملك توازن ردع استراتيجي، يشكل عقبة أمام أي مغامرة إسرائيلية، ما يدفع واشنطن لمحاولة نزع هذا السلاح سياسيًا بعد فشل مواجهته عسكريًا.
-لبنان في انهيار اقتصادي خانق، ما يجعل البلد هشًا أمام الضغوط، وواشنطن تستغل ذلك لفرض تسوية تخدم مصالحها ومصالح حلفائها في المنطقة.
الخطوات العملية لمواجهة الطروحات الأميركية:
1.التأكيد على الموقف الوطني الموحد: لبنان بحاجة إلى موقف جامع يرفض أي شروط تمس بالسيادة الوطنية، مع وضع الخلافات السياسية جانبًا لمواجهة الضغط الخارجي.
2.تفعيل التحركات الدبلوماسية: يجب على لبنان طلب دعم حلفائه في المجتمع الدولي، بما في ذلك روسيا، الصين، والاتحاد الأوروبي، لإحباط فرض أي تسوية أحادية الجانب.
3.التمسك بدور المقاومة كضمانة ردع: نزع سلاح حزب الله تحت الضغط لن يجلب السلام، بل سيجعل لبنان مكشوفًا أمام الأطماع الإسرائيلية، وهو ما يدركه الشارع اللبناني.
4.فك الارتباط بين الإعمار والتسوية: يجب فضح محاولة استخدام معاناة اللبنانيين كورقة ضغط. يمكن للبنان العمل على خطط تعافٍ بديلة بالتعاون مع دول لم تدخل في اللعبة الأميركية، مثل الصين وإيران وروسيا.
5.رفض المفاوضات المباشرة بغياب ضمانات دولية: أي مفاوضات يجب أن تكون برعاية أممية، مع التمسك بحقوق لبنان السيادية، خصوصًا في ملف الحدود البرية والبحرية.
ما يطرحه ستيف ويتكوف هو مخطط أميركي كامل لإعادة تشكيل لبنان بما يخدم أجندة واشنطن وتل أبيب. هذه ليست مجرد “خريطة طريق نحو السلام”، بل هي محاولة لفرض أمر واقع سياسي وأمني واقتصادي يحوّل لبنان إلى دولة تابعة فاقدة لقرارها المستقل.
لبنان أمام مفترق طرق: إما أن يرضخ لهذا السيناريو، أو أن يتماسك بوحدة داخلية تعيد رسم أولوياته على أساس الحفاظ على السيادة وحقوقه الوطنية. المعركة اليوم ليست معركة حزب أو طائفة، بل معركة وجود لدولة تُراد لها أن تُمحى من معادلات المنطقة. وعليه يجب القيام بخطوات عملية لمواجهة الطروحات الأميركية تتمثل بما يلي:
1.إعلان موقف رسمي موحد: على الدولة اللبنانية، بجميع مكوناتها، إصدار موقف وطني رافض لأي تسوية تأتي على حساب السيادة، مع التأكيد أن المفاوضات لا يمكن أن تحصل تحت الضغط أو الابتزاز.
2.التحرك الدبلوماسي السريع: يجب التوجه إلى الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والدول الحليفة لتأكيد رفض الإملاءات الأميركية، والمطالبة بتطبيق القرارات الدولية بما يضمن تحرير الأراضي المحتلة لا تثبيت الاحتلال.
3.فك الحصار الاقتصادي بالانفتاح شرقًا: لبنان بحاجة إلى خطة اقتصادية بديلة تحرره من الابتزاز الأميركي. يمكن البحث عن شراكات مع دول مثل الصين وروسيا وإيران لدعم الاقتصاد، بعيدًا عن شروط صندوق النقد المربوطة بالإملاءات السياسية.
4.حماية معادلة الردع: أي حديث عن نزع سلاح المقاومة يجب أن يُرفض بشكل قاطع، لأن هذا السلاح ليس ورقة تفاوض بل ضمانة وجودية بوجه العدوان الإسرائيلي المستمر.
5.إعادة بناء الجبهة الداخلية: يجب العمل على مصالحة وطنية حقيقية تعيد ترتيب البيت اللبناني داخليًا، وتبعد الطروحات الخارجية عن استغلال الانقسامات السياسية والطائفية.
إن مستقبل لبنان لا يجب أن يُكتب في واشنطن أو تل أبيب، بل في بيروت، بيد شعبه وأبنائه الذين دفعوا ثمن الحرية والاستقلال دمًا وصمودًا. لن يكون لبنان أرضًا مستباحة، ولن يُسمح لأحد أن يرسم مستقبله وفق مصالحه الخاصة.
المطلوب اليوم هو موقف وطني جريء، صلب، يضع خطوطًا حمراء لا يمكن تجاوزها. السيادة ليست شعارًا، بل حق مقدّس لن يسقط أمام أي تهديد أو ابتزاز، مهما كانت الضغوط. لبنان سيبقى أقوى من كل مخطط، طالما أن شعبه متمسك بأرضه وقراره الحر.