لطالما كان التاريخ مرآة تعكس صراعات الماضي في أشكال جديدة، لكنه يبقى محافظًا على جذوره وأسباب اندلاعه. حين نتأمل ما حدث عام 1860 من مذابح مروعة استهدفت الطوائف المسيحية في لبنان بدعم عثماني، وما يحدث اليوم من اعتداءات طائفية مدعومة خارجيًا، يبدو أن المشهد يعيد نفسه وإن اختلفت الأسماء واللاعبون. هذا التشابه ليس مجرد مصادفة، بل يكشف عن أنماط تاريخية تتكرر، مدفوعة بعوامل سياسية، دينية، واستراتيجية، تستحق التحليل العميق.
في عام 1860، شهد جبل لبنان وسوريا واحدة من أفظع المجازر الطائفية في تاريخ المنطقة. اندلعت هذه الأحداث في سياق معقد من التوتر بين الموارنة المسيحيين والدروز، الذين كانوا يتنافسون على النفوذ السياسي والاقتصادي. لكن وراء هذه الصراعات المحلية، لعبت الدولة العثمانية دورًا حاسمًا في تأجيج النزاع.
الوالي العثماني، خورشيد باشا، وجد في دعم الميليشيات الدرزية والإسلامية وسيلة للانتقام من انتفاضة الموارنة ضد النظام الإقطاعي العثماني. كانت الانتفاضة في جوهرها ثورة اجتماعية بقدر ما كانت دينية، إذ سعى الموارنة للتحرر من هيمنة الإقطاعيين المدعومين عثمانيًا. ردت السلطة العثمانية بتحويل الصراع إلى مذابح طائفية، بدلًا من التعامل معه كحراك سياسي.
نتج عن ذلك إبادة أكثر من 30 ألف مسيحي في لبنان وسوريا، ولم تتوقف المجازر إلا بتدخل فرنسا ودول أوروبية أخرى، مدفوعة بمصالحها الاستعمارية وبذريعة "حماية المسيحيين".
اليوم، يبدو أن التاريخ يعيد نفسه بشكل مخيف. فكما دعمت الدولة العثمانية المتطرفين لضرب الموارنة، تقدم تركيا الحديثة دعمًا سياسيًا ولوجستيًا لجماعات متطرفة مثل عصابات “الجولاني”، التي تنتمي إلى تنظيم هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقًا). هذه الجماعات، التي وُلدت من رحم الفكر المتطرف، تكرر الجرائم الطائفية في الساحل السوري ضد العلويين، وتتمدد الآن نحو لبنان لاستهداف القرى الشيعية في محيط مدينة الهرمل في منطقة بعلبك الهرمل.
المثير للسخرية أن الحجج تتكرر أيضًا. ففي 1860، بررت الدولة العثمانية المجازر بأن الموارنة كانوا “متمردين” على السلطة. واليوم، تتذرع العصابات بأن القرى اللبنانية “هاجمت قوات أمنية” لتبرير عملياتها الإجرامية.
هذا النمط من التبرير ليس جديدًا؛ إنه امتداد لاستراتيجية تاريخية تحوّل الصراع السياسي إلى حرب طائفية، لإضعاف الخصوم وإعادة تشكيل الخريطة الديموغرافية والسياسية لصالح القوة الراعية، سواء كانت الإمبراطورية العثمانية في الماضي أو تركيا الحديثة اليوم.
إذا عدنا أعمق في التاريخ، نجد مثالًا آخر في الحملات الكسروانية (1305 - 1307)، التي شنها المماليك ضد المسيحيين والشيعة في جبل لبنان. شُنت تلك الحملات تحت غطاء ديني، بفتوى من ابن تيمية، الذي صوّر الطوائف غير السنية على أنها “خطر داخلي” يجب القضاء عليه.
كان الهدف من تلك الحملات ليس فقط القضاء على الأقليات، بل إعادة ضبط التوازن السياسي والاجتماعي في المنطقة بما يخدم سلطة المماليك. اليوم، يتكرر نفس المشهد من خلال الفتاوى المتطرفة التي تُوظف لخدمة مصالح إقليمية، تتجاوز البعد الديني إلى الطموحات الجيوسياسية.
وهنا يبرز سؤال لماذا يستمر التاريخ في تكرار نفسه؟
إن استمرار هذا النمط من المجازر الطائفية ينبع من عدة عوامل:
1.استغلال الدين لأهداف سياسية: سواء في 1860، أو في حملات المماليك، أو في جرائم العصر الحالي، يُستخدم الدين كغطاء لتصفية الخصوم السياسيين وإعادة رسم الخريطة السياسية.
2.الدعم الخارجي: الدول الكبرى، سواء الدولة العثمانية قديمًا أو تركيا حاليًا، لطالما رأت في الجماعات المتطرفة أداة لتحقيق نفوذها الإقليمي.
3.تغذية الانقسام الطائفي: تعتمد القوى الخارجية على تأجيج الخلافات الطائفية لضمان بقاء المنطقة ضعيفة ومجزأة، ما يسهل السيطرة عليها.
4.غياب رد فعل دولي حاسم: كما لم يتحرك العالم إلا بعد المجازر الكبرى في 1860، يكتفي اليوم بإصدار بيانات إدانة جوفاء، دون تحرك فعلي لوقف الكارثة.
بين الماضي والحاضر، يُظهر التاريخ أن الفاعلين يتغيرون، لكن الأدوات والأهداف تبقى كما هي. تكرار المجازر الطائفية ليس قدرًا محتومًا، بل هو نتيجة لصمت العالم وتخاذل القوى الإقليمية والدولية عن حماية الأقليات ووقف الجماعات المتطرفة.
المطلوب اليوم ليس فقط تدخلًا دوليًا لوقف هذه العصابات، بل أيضًا تحركًا عربيًا وإسلاميًا حاسمًا لرفض تحويل الدين إلى أداة لتبرير المذابح. على المجتمعات العربية أن تتصدى لتكرار هذا السيناريو الدموي، لأن تركه دون مواجهة يعني أن التاريخ سيستمر في إعادة نفسه، في كل جيل، وعلى حساب كل طائفة ودين.
وعليه نسأل هل يا ترى أن التاريخ سيتوقف عن تكرار نفسه يومًا ما، أم أن المصالح الكبرى ستبقيه دائرة لا تنتهي؟