تركيا، الدولة التي تقع على مفترق طرق بين الشرق والغرب، تشهد تحولات جذرية في بنيتها السياسية والاجتماعية منذ وصول حزب العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب أردوغان إلى السلطة عام 2002. ومع ذلك، فإن مفهوم “الدولة العميقة” لا يزال يلقي بظلاله على المشهد السياسي التركي، حيث تتنافس قوى قديمة وجديدة لتحديد مستقبل البلاد. في هذا المقال، سنحلل جذور الدولة العميقة في تركيا، وتأثيرها على السياسة الحالية، وكيف يمكن أن تتشكل الأحداث المستقبلية في ظل التحديات الداخلية والخارجية.
1.الدولة العميقة: الجذور والتأثير
الجذور التاريخية
مصطلح “الدولة العميقة” (Derin Devlet) في تركيا يعود إلى عقود طويلة، حيث تشكلت هذه الشبكة السرية من النخب العسكرية والسياسية والأمنية بعد تأسيس الجمهورية التركية عام 1923 على يد مصطفى كمال أتاتورك. كان الجيش يعتبر نفسه حاميًا لمبادئ أتاتورك، خاصة العلمانية والقومية، مما أدى إلى تدخله المتكرر في السياسة عبر انقلابات عسكرية في أعوام 1960، 1971، 1980، و1997.
فضائح وكشف الستار
أحد أبرز الأمثلة على تدخل الدولة العميقة كان فضيحة “سوسورلوك” عام 1996، التي كشفت عن تواطؤ بين مسؤولين أمنيين ومجرمين في عمليات اغتيال وأنشطة غير قانونية. هذه الفضيحة كشفت جزءًا من الشبكة السرية التي كانت تعمل تحت شعار “حماية الدولة من الأعداء الداخليين والخارجيين".
الصراع مع أردوغان
عندما وصل أردوغان إلى السلطة، بدأ مواجهة تدريجية مع الدولة العميقة. استخدم محاكمات “إرغينيكون” و”باليز” بين عامي 2008 و2013 لتفكيك شبكات داخل الجيش والقضاء، مما أدى إلى اعتقال مئات الضباط والمسؤولين. البعض رأى في هذه المحاكمات تحركًا ضد “دولة الظل”، بينما اعتبرها آخرون تصفية حسابات سياسية.
2.العثمانيون الجدد: أيديولوجيا جديدة أم مشروع توسعي؟
مفهوم العثمانية الجديدة
مصطلح “العثمانيون الجدد” يشير إلى توجه سياسي ظهر في عهد حزب العدالة والتنمية، يهدف إلى إعادة نفوذ تركيا في المناطق التي كانت خاضعة للإمبراطورية العثمانية، خاصة في الشرق الأوسط والبلقان. يعتمد هذا التوجه على مزيج من القوة الناعمة (الثقافة، الاقتصاد، المساعدات) والقوة الصلبة (التدخلات العسكرية).
أبرز ملامح العثمانية الجديدة
1.التدخلات العسكرية: تدخل تركيا في سوريا، ليبيا، وأذربيجان.
2.القوة الناعمة: استخدام المسلسلات التاريخية مثل “قيامة أرطغرل” و”المؤسس عثمان” لنشر الثقافة التركية.
3.البعد الإسلامي: ترويج تركيا كقائد للعالم الإسلامي السني، مع دعم جماعات مثل الإخوان المسلمين.
الانتقادات
بينما يرى البعض في العثمانية الجديدة إحياءً لمجد تركيا الإقليمي، يعتبرها آخرون مشروعًا توسعيًا يهدد الاستقرار الإقليمي ويخلق توترات مع الدول المجاورة وحلفاء تركيا التقليديين في الغرب.
العلاقة بين الدولة العميقة والعثمانيين الجدد: صدام أم تحالف؟
الصدام الأولي
عندما وصل أردوغان إلى السلطة، كان مشروعه يعتمد على تحييد الدولة العميقة التقليدية. تم تفكيك شبكات داخل الجيش والقضاء، مما أدى إلى إضعاف النخب القديمة.
ظهور دولة عميقة جديدة
مع مرور الوقت، يرى البعض أن أردوغان نفسه أنشأ نسخة جديدة من “الدولة العميقة”، تتكون من قادة موالين لحزبه، ورجال أعمال مقربين، وقيادات أمنية بديلة. أبرز مثال على ذلك هو شبكة فتح الله غولن، التي كانت حليفًا لأردوغان قبل أن تنقلب عليه في محاولة الانقلاب الفاشل عام 2016.
التقاطع في المصالح
بالرغم من الخلافات، يتفق الطرفان على قضايا محورية مثل:
-مواجهة الأكراد: الحفاظ على وحدة تركيا ومنع قيام دولة كردية.
-النفوذ الإقليمي: دعم التوسع التركي خارجيًا، رغم اختلاف الدوافع.
-معاداة الغرب: جزء من الدولة العميقة يعتبر الغرب تهديدًا للهوية القومية، بينما يتبنى أردوغان خطابًا معاديًا للغرب عندما يخدم مصالحه.
توقيف إمام أوغلو والأحداث الأخيرة
في السنوات الأخيرة، برزت شخصيات معارضة مثل أكرم إمام أوغلو، رئيس بلدية إسطنبول، كتحدٍ لنظام أردوغان. إمام أوغلو، الذي ينتمي إلى حزب الشعب الجمهوري (CHP)، يمثل تيارًا معارضًا للعثمانية الجديدة ويدعو إلى عودة العلمانية والعلاقات القوية مع الغرب.
توقيف إمام أوغلو
في عام 2023، تم توقيف إمام أوغلو لفترة وجيزة بتهم تتعلق بـ”إهانة المسؤولين”، وهي تهمة يعتبرها معارضوه ذات دوافع سياسية. هذا التوقيف أثار احتجاجات واسعة في إسطنبول وأنقرة، مما يعكس الانقسام الحاد في المجتمع التركي بين أنصار أردوغان والمعارضة.
الانعكاسات
-الشارع التركي: توقيف إمام أوغلو زاد من حدة الاستقطاب السياسي، حيث يعتبره أنصاره رمزًا للمعارضة الشعبية.
-العلاقات الدولية: هذه الأحداث أثارت قلقًا في أوروبا والولايات المتحدة، التي ترى في إمام أوغلو شخصية معتدلة يمكن أن تعيد تركيا إلى التحالف الغربي.
مستقبل تركيا: سيناريوهات محتملة
سيناريو 1: استمرار العثمانية الجديدة
إذا استمر أردوغان في الحكم، فقد نرى:
-تعزيز النفوذ الإقليمي لتركيا عبر التدخلات العسكرية والدبلوماسية.
-استمرار التوترات مع الغرب، خاصة حول قضايا مثل التنقيب عن الغاز في شرق المتوسط.
-تفاقم الأزمة الاقتصادية، مع احتمال حدوث اضطرابات شعبية.
سيناريو 2: عودة الدولة العميقة القديمة
إذا انهار نظام أردوغان، قد نرى:
-عودة الجيش إلى الواجهة، مع احتمال حدوث انقلاب ناعم.
-عودة العلمانية والقومية كأيديولوجيا مهيمنة.
-تقارب أكبر مع الغرب، خاصة إذا قاد التغيير شخصيات مقبولة دوليًا.
سيناريو 3: فوضى شاملة
إذا غاب أردوغان فجأة دون ترتيب لخليفة قوي، قد تنهار التحالفات التي بناها، مما يؤدي إلى:
-صراع داخلي بين أجنحة حزب العدالة والتنمية.
-انفجار في الشارع، خاصة إذا شعر أنصار أردوغان أن زعيمهم أُزيح قسرًا.
-تدخل دولي غير مباشر، مع احتمال تدخل أوروبا والولايات المتحدة أو روسيا.
تركيا على مفترق طرق
تركيا اليوم تقف على مفترق طرق خطير. إما أن تستكمل مشروع “العثمانية الجديدة” بشكل أكثر براغماتية، أو تتعرض لانهيار داخلي يعيد البلاد إلى صراعاتها القديمة. في كلتا الحالتين، فإن مفهوم “الدولة العميقة” سيظل حاضرًا، سواء في شكلها القديم أو الجديد.
السؤال الكبير الذي يطرح نفسه هو: هل أردوغان ظاهرة مؤقتة، أم أنه غيّر وجه تركيا بشكل لا يمكن التراجع عنه؟ الإجابة على هذا السؤال ستحدد مستقبل تركيا كدولة وكقوة إقليمية في السنوات القادمة.