• اخر تحديث : 2025-11-04 02:24
news-details
قراءات

كُلِّف رئيس الوزراء الفرنسي، سيباستيان لوكورنو، بتشكيل حكومته الأولى في 9 سبتمبر 2025، بعد انهيار حكومة سلفه، فرانسوا بايرو، وحجب الثقة عنها في الجمعية الوطنية (البرلمان)، وذلك عقب تقديم مشروع ميزانية عام 2026، الذي تضمن تخفيضاً للنفقات بمقدار 44 مليار يورو، وخطوات تقشفية لتقليص عجز الموازنة والدين العام الفرنسي.
 
ولم تحظَ حكومة لوكورنو الأولى بثقة الجمعية الوطنية؛ إذ اعتبرتها المعارضة امتداداً لسياسات الحكومات السابقة. ليتجه لوكورنو إلى تشكيل حكومته الثانية، والتي نجت في 16 أكتوبر، من مذكرتين لحجب الثقة، تقدم بهما كل من حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف، واليسار الراديكالي "فرنسا الأبية". وحصلت هذه الحكومة على تأييد نواب الحزب الاشتراكي والوسط واليمين المحافظ، بعد أن قدمت وعوداً منها تعليق قانون التقاعد المُثير للجدل حتى الانتخابات الرئاسية لعام 2027.
 
وتظل الحكومة الحالية تواجه شبح عدم الاستقرار الذي يخيم على فرنسا منذ يونيو 2024 إثر حلّ الرئيس إيمانويل ماكرون للجمعية الوطنية، وهو ما يطرح العديد من التساؤلات حول السيناريوهات المُحتملة لهذه الحكومة خلال الفترة المقبلة.
 
جذور الأزمة:
 
تعود جذور الأزمة السياسية الراهنة في فرنسا إلى محاولات تطبيق البرنامج الإصلاحي النيوليبرالي للرئيس إيمانويل ماكرون، من خلال ترجمته إلى سياسات وتشريعات عملية عنوانها الأبرز التقشف وخفض الإنفاق العام. وقد بلغ الدين العام الفرنسي 3.345 تريليون يورو، فيما بلغت فوائده، وفقاً لتصريحات رئيس الوزراء السابق، نحو 67 مليار يورو هذا العام، ومن الممكن أن تصل إلى 107 مليارات يورو بحلول نهاية العقد الحالي.
 
ولم تلقَ هذه السياسات قبولاً شعبياً، بل واجهت رفضاً واسعاً واحتجاجات متواصلة. وأسهمت التعديلات المُقترحة لرفع سن التقاعد إلى 64 عاماً، في اتساع رقعة الاحتجاجات لتصل إلى حد الدعوة إلى "شلّ كل شيء"، مع إضرابات عمّت قطاعات عديدة من الاقتصاد الوطني.
 
هذه الأزمة، بجوانبها الاقتصادية والمالية والاجتماعية، جعلت المواطنين يدفعون ثمن الإصلاح من مكتسباتهم في العمل والتقاعد والحماية الاجتماعية والصحية؛ الأمر الذي أدى إلى الانهيار المتتالي لحكومات ماكرون، خصوصاً في ولايته الثانية، بعد أن فقد الأغلبية المطلقة والنسبية في الجمعية الوطنية.
 
فقد انهارت أربع حكومات في أقل من عامين، منذ يناير 2024 وحتى الآن، وهي: حكومة غابرييل أتال (يناير- سبتمبر 2024)، والتي استقالت عقب نتائج الانتخابات التشريعية لذلك العام، بعد تراجع تيار ماكرون إلى المركز الثاني في عدد مقاعد الجمعية الوطنية. ثم جاءت حكومة ميشيل بارنييه، في سبتمبر 2024، ولم تستمر أكثر من ثلاثة أشهر، تلتها حكومة فرانسوا بايرو في ديسمبر الماضي، وانهارت بسبب سياسات التقشف، وأخيراً حكومة لوكورنو الأولى في 9 سبتمبر الماضي، ولم تستمر أكثر من 24 ساعة، قبل أن يُعاد تكليف لوكورنو بتشكيل حكومته الثانية.
 
حكومتا لوكورنو: 
 
عند تكليفه بتشكيل الحكومة خلفاً لبايرو، وعد لوكورنو بتأسيس حكومة تُكرس القطيعة مع سياسات الحكومة السابقة، وتعهد بوقف لجوء الحكومة إلى المادة (49.3) من الدستور التي تتيح تمرير القوانين دون مناقشتها في الجمعية الوطنية. غير أن تشكيلة الحكومة الأولى التي أعلنها لوكورنو لم تعكس تلك القطيعة لا شكلاً ولا مضموناً؛ إذ ضمت عدداً كبيراً من وزراء الحكومات السابقة، وبلغ 18 وزيراً منهم 15 من حكومة بايرو السابقة. وقد خُصصت فيها حقائب عدة لمؤيدي "الماكرونية"، ومن بينهم برونو لومير، الذي تعتبره المعارضة مسؤولاً عن الخلل المالي خلال السنوات الأخيرة. ولذلك عُدت هذه الحكومة امتداداً لنظيراتها السابقة، واستندت إلى تحالف بين معسكري الوسط واليمين التقليدي.
 
وقد استقالت حكومة لوكورنو الأولى بعد 24 ساعة فقط من إعلان تشكيلها، وأرجع رئيس الوزراء هذا الانهيار السريع إلى أن القوى السياسية في الجمعية الوطنية لم ترَ القطيعة والجدّية اللتين وعد بهما. وأوضح أن المشكلة تكمن في رغبة كل كتلة برلمانية في فرض رؤيتها على الآخرين؛ مما يعوق نشوء تحالفات مستقرة تسمح بالنقاش وتقديم الحلول الوسط، ودعا إلى تغليب المصلحة الوطنية على الحسابات الحزبية الضيقة.
 
وعلى الرغم من استقالة لوكورنو؛ فإن الرئيس ماكرون أعاد تكليفه بتشكيل الحكومة مرة أخرى، وقد قبل المهمة "بدافع الواجب". ويرجع إصرار ماكرون على إعادة تكليف لوكورنو إلى كون الأخير من أكثر الشخصيات إخلاصاً للتيار "الماكروني"، ولا يملك طموحات رئاسية كتلك التي تراود بعض الوزراء الآخرين، وتربطه بماكرون علاقة صداقة وثيقة منذ أن كان لوكورنو وزيراً للدفاع. كما تتيح رئاسته للحكومة لماكرون التفرغ للسياسة الخارجية ودعم الاتحاد الأوروبي والدفاع عن أوكرانيا في مواجهة روسيا.
 
وتكونت حكومة لوكورنو الثانية من 34 وزيراً، بينهم 26 من الأحزاب السياسية المختلفة، من بينهم 11 وزيراً من حزب الرئيس ماكرون، و8 وزراء من المجتمع المدني وكبار الموظفين. واحتفظت الحكومة بالوزارات السيادية (الداخلية، والخارجية، والدفاع، والاقتصاد، والعدل) في أيدي موالين لماكرون. كما أن أكثر من نصف أعضائها شغلوا مناصب وزارية خلال الشهور الأربعة عشر الماضية. وربما يسعى ماكرون، من خلال هذه التشكيلة، إلى الإمساك بخيوط اللعبة السياسية والإبقاء على السيطرة حتى نهاية ولايته في عام 2027. 
 
وقد نجت حكومة لوكورنو الثانية من تصويتين لحجب الثقة في الجمعية الوطنية يوم 16 أكتوبر الماضي، بعد أن تراجعت عن جزء من برنامج ماكرون الإصلاحي، خصوصاً فيما يتعلق بنظام التقاعد؛ حيث تم تعليق العمل بالقانون حتى الانتخابات الرئاسية المقبلة، في خطوة هدفت إلى تسهيل تشكيل الحكومة وضمان دعم نواب الحزب الاشتراكي.
 
محددات البقاء:
 
يبقى مستقبل حكومة لوكورنو الثانية مرهوناً باستمرار تأييد الحزب الاشتراكي لسياساتها، وهو تأييد مشروط بقدرتها على تنفيذ وعودها بتعليق قانون التقاعد، ووقف العمل بالمادة (49.3) من الدستور، وتخفيف الضرائب عن الفئات والشركات الصغيرة والمتوسطة، وفرض ضرائب على أصحاب الثروات.
 
كما يتوقف ذلك على مدى قبول الحكومة مناقشة تعديلات الحزب الاشتراكي على ميزانية عام 2026، التي يتضمن مشروعها فرض ضريبة بنسبة 2% على الثروات التي تتجاوز 100 مليون يورو لتوفير 22 مليار يورو.
 
وسيكون على الحكومة السير في اتجاهين متناقضين؛ هما الحفاظ على التحالف الذي أنقذها، خصوصاً مع الاشتراكيين؛ وهو ما يتطلب تبني سياسات تُقلل من وتيرة الإصلاحات الاقتصادية السريعة. وفي المقابل، إقناع الرئيس ماكرون بضرورة ابتكار آليات جديدة لتحمّل تكلفة الإصلاح دون المساس بأوضاع الفئات الضعيفة. ويرتبط ذلك بقدرتها على الحوار مع اليمين المحافظ والوسط لتعديل السياسات وتجنب الانهيار وعدم الاستقرار.
 
سيناريوهات مفتوحة:
 
إن نجاة حكومة لوكورنو الثانية من حجب الثقة في الجمعية الوطنية، لا تعني بالضرورة استبعاد شبح الأزمة نهائياً؛ إذ إن جذورها أعمق من مجرد تصويت في البرلمان. ويمكن تلخيص السيناريوهات المُحتملة لمستقبل هذه الحكومة والأزمة السياسية عموماً في فرنسا، فيما يلي:
 
1- استمرار الحكومة حتى إقرار ميزانية 2026: وهي الأولوية في جدول أعمالها، إلا أنها قد تواجه ضغوطاً من المعارضة للتراجع عن مزيد من بنود برنامج ماكرون الإصلاحي، كما حدث في قضية التقاعد.
 
2- حلّ الجمعية الوطنية وإجراء انتخابات مبكرة: هذا هو مطلب بعض القوى السياسية؛ لكنه مرهون بأداء حكومة لوكورنو وقدرة ماكرون على تحقيق الاستقرار. ويرفض الرئيس الفرنسي تكرار تجربة عام 2024 التي اعتبرها خطأً، ويتمسك بإكمال ولايته حتى عام 2027. 
 
3- التعايش بين ماكرون وحكومة يسارية راديكالية: هو سيناريو مستبعد حالياً؛ نظراً للهوة العميقة بين نهج ماكرون النيوليبرالي، الذي يقلص دور الدولة، وبين اليسار الراديكالي المتمسك بمكتسبات الفرنسيين في مجالات التقاعد والضمان الاجتماعي والحماية الصحية، والمعارض لسياسات التقشف. كما أن العلاقة المتوترة بين ماكرون وزعامة اليسار؛ تجعل هذا الخيار غير واقعي.
 
4- تشكيل حكومة تكنوقراط: يأتي هذا السيناريو إذا ما استُبعد خيار حلّ الجمعية الوطنية أو تشكيل حكومة يسارية. غير أن مثل هذه الحكومة الجديدة ستكون محدودة الصلاحيات ومرتبطة بمهام انتقالية قصيرة، ولن تُمثل حلاً طويل الأمد للأزمة.
 
ختاماً، يظل مستقبل الأزمة السياسية في فرنسا مرتبطاً بظهور حزب كبير قادر على تحقيق أغلبية مطلقة في الانتخابات التشريعية؛ أي باستعادة بعض ملامح الجمهورية الخامسة في أوجها؛ وهو احتمال قد لا يتحقق قبل نهاية ولاية ماكرون في عام 2027. ولا شك أن استمرار حالة عدم الاستقرار الحكومي والمؤسسي سيؤثر سلباً في السياسة الخارجية الفرنسية، وخصوصاً ما يتعلق بتحقيق الاستقلال الاستراتيجي لأوروبا الذي دعا إليه ماكرون، وكذلك موقف باريس من الحرب الأوكرانية ومواجهتها مع روسيا. فمصداقية فرنسا وصورتها على الساحة الدولية تتعرّضان اليوم للاهتزاز والتآكل نتيجة تداعيات هذه الأزمة السياسية المستمرة.