يتحدث الكاتب والمحلل السياسي الأمريكي بيتر بينارت عن مستقبل الإرث الترامبيّ في حال خسارة ترامب المحتملة في الانتخابات القادمة، ويشرح في مقاله المنشور في موقع مجلة "ذي أتلانتك" الاميركية وجود فريقين مختلفين على تعريفِ ماهية ما أسماه "الترامبيّة" وما يمثله منهج هذا الرئيس في تاريخ السياسة الأمريكية.
إرث ترامب
عندما يترك بعض الرؤساء الأمريكيين مناصبهم، يسارع الساسة والمفكرون السياسيون ليصبحوا ورثتهم الفكريين. يذكر الكاتب مثالًا على ذلك رونالد ريغان – وقد كان جمهوريًّا – الذي ادّعى اقتباسه إرث جون كينيدي. وكذلك حال باراك أوباما – ديمقراطيّ – الذي ادّعى إرث ريغان. فهل يجد دونالد ترامب من يسارع إلى المطالبة بإرثه إذا ما خسر في خريف هذا العام؟ يشكّك الكاتب في ذلك، بل إنه يتوقع أن يتنافس معلّقو اليسار والوسط – وحتى البعض التابعون للجناح السياسيّ اليمنيّ – على ربط الإرث الترامبيّ بخصومهم. لن تكون الترامبيّة منهجًا فلسفيًا سياسيًا جذابًا، بل أقرب إلى مصطلح مسيء بأعينِ الأشخاص بمختلفِ إيديولوجياتهم.
أشبه مثال على ما يتجه إليه مصطلح الترامبيّة هو «المكارثيّة» الذي أصبح مصطلحًا مرادفًا لمعنى التعصّب الهستيري (المكارثّية تُنسب إلى عضو بمجلس الشيوخ الأمريكي اسمه جوزيف مكارثي، وتشير إلى الممارسة التي انتهجها مكارثي في أربعينات القرن الماضي، وتقوم على اتهام الخصوم السياسيين بوجود صلة تربطهم بالمنظمات الشيوعية، دون إثباتات كافية تدعم الادعاء).
بنى جوزيف مكارثي حياته السياسية – مثل ترامب – على الديماجوجيّة والترهيب وعبادة الشخصيّة، بدلًا عن الإنجازات الملموسة أو الأفكار المتماسكة. من المهم هنا تذكر مقولة بروفسور علم النفس دان بي مك أدامز وملاحظته أنّه «عندما يبدأ النرجسيون بتخييب أمل من أبهروهم سابقًا، قد يكون انحدارهم شديدًا على نحوٍ خاص». فالآن وبعد أكثر من نصفِ قرنٍ على وفاة السيناتور الجمهوري مكارثي، يتهم التقدميّون المحافظين بالمكارثيّة، والعكس بالعكس. يندرُ أن يقبل أيّ منهم اعتناق التسمية بنفسه. ينوّه الكاتب أن خسارة ترامب المحتملة في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) سترجّح استخدام مصطلح الترامبيّة باعتباره نعتًا سيئًا.
جدلٌ حول معنى الترامبيّة
من سينُعت بالترامبيّة وما سيعنيه هذا الإرث أو المصطلح؟ من هذه الأسئلة تبدأ الاختلافات بين حزبين من الناس. فمن جانب نجد الأشخاص الذين يعرّفون الترامبيّة على أنها شكل من أشكال التعصب، بتعبير آخر: عدم احترام القواعد المشكّلة لأساس الديمقراطية الأمريكية. ومن جانبٍ آخر هناك الأشخاص الذين يعرّفون الترامبية على أنها شكل من أشكال القمع، وهو تعبير على حقيقة أن القواعد المؤسسة لبناء الديمقراطية الأمريكية مشبعة بالتحيّز العرقي والجندريّ والطبقي. سيشكل الجدل بين مؤيدي هذين الرأيين العلاقة ما بين اليسار الناشط والوسط السياسي لسنواتٍ قادمة وفقًا للكاتب.
يمكن ملاحظة الإرهاصات الأولى للموقف المعادي لترامب – الترامبيّة باعتبارها تعصبًا – في الرسالة التي نشرتها مجلة هاربر مؤخرًا تحت عنوان: «رسالة حول العدالة والنقاش المفتوح»، والتي خلّفت وراءها جدلًا كبيرًا وقد حملت توقيع 150 من الكاتبات والكتّاب في الولايات المتحدة وبريطانيا من بينهم المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي، والروائي سلمان رشدي، والكاتبة مارغريت آتوود وغيرهم من أسماء بارزة.
في هذه الرسالة يصف المؤلفون ترامب بأنه «تهديد حقيقي للديمقراطية»، وحليف «للقوى المعادية لليبرالية». ويعبرون فيها عن قلقهم من أن الميول المعادية لليبرالية غدت تنمو على اليسار أيضًا، والذي بات يخلق «نوعًا خاصًا به من المعتقد (الدوغما) أو القسريّة» والذي يهدّد الاحتواء الديمقراطي. لا يدّعي المؤلفون أن التعصب اليساري يشكل تهديدًا خطيرًا مثل شعبوية اليمين، لكن المعنى الضمني – وفقًا لتلخيص الكاتب – أن الترامبية ليست مجرد ظاهرة يمينيّة حصريًا.
الترامبيّة شكل من أشكال التعصب، والاستعدادية لانتهاك قواعد اللعب العادل الليبرالي الديمقراطي، وهو أمر يتجاوز الانقسامات الأيديولوجية. وينقل الكاتب ما قاله المنظّر السياسي ياشا مونك، أحد الموقعين على الرسالة، وكاتب مساهم في مجلة «ذا أتلانتيك»: «يأتي التهديد الأساسي للديمقراطية الليبرالية من اليمين الشعبوي»، ولكن «قيم المجتمع الحر» أيضًا «تفقد بريقها بين أجزاء كبيرة من اليسار».
يطرح مونك ومفكرون ذوو توجهات مشابهة نسخةً مشابهة مما أسماه المؤرخ الأمريكي آرثر ماير شليزنجر عام 1949 بالـ«المركز الحيوي» في كتابه المعنون بنفس الاسم. جادل شليزنجر بأن كلًا من اليمين الفاشي واليسار الشيوعي يشتركان في السمات التوتاليتارية الشائعة (الكليّاتية)، وبالتالي يتوجب على الليبراليين والمحافظين الذين يؤمنون بالمجتمع الحر إدراك أنهم مشتركون بمعسكرٍ إيديولوجيّ واسع هو «المركز الحيوي»، مهما كانت اختلافاتهم السياسية على أّيّة حال. يقترح الكاتب استبدال «التوتاليتارية» بالترامبيّة هنا، وستكتشف أن الدافع نفسه وراء عمل أولئك الكتّاب هو ما يعرّف الترامبية باعتباره نوعًا من التعصب المتمظهر في كلّ من اليسار واليمين.
في المقابل لا يعرّف التقدميون المؤثرون الترامبيّة على أنها تعصب، بل على أنها نوع من القمع، ويعني ذلك بالضرورة منطقة أولئك المتمتّعين بامتيازاتٍ عرقية، أو جندرية، أو طبقية. بعد نشر رسالة هاربر كتب معلّقون آخرون ردًّا تحت عنوان: «رسالة أكثر تحديدًا حول العدالة والنقاش المفتوح». يقدّم الأخيرون أنفسهم على أنهم «مجموعة من الصحافيين ذوي البشرة الملونة مع مساهمة من القطاع الأوسع من مجتمع النشر والصحافة والأكاديميا»، ويتهمون في هذه الرسالة موقّعي رسالة هاربر بالفشل في «التعامل مع مشكلة السلطة: من يملكها ومن لا يملكها».
لا تستخدم رسالة هاربر كلمات «أسود» أو «أبيض» أو «بني» أو «ترانس/متحولون جنسيًا»، فيما يتكرر استخدامها في رسالة الردّ بكثرة. تحاجج رسالة الردّ بأن موقّعي هاربر يستخدمون التعصب المفترض لأعضاء الجماعات المضطهدة تاريخيًا ذريعةً «لعدم استعدادهم لتفكيك الأنظمة التي تبقي الأشخاص أمثالهم في الداخل والبقية منا في الخارج» وفقًا لتعبير المؤلفين.
يذكّر الكاتب بما اعتبره المؤلّف والصحافي الأمريكي تا نيهيسي كوتس تجليًّا وتجسيدًا لفكرة تفوّق البيض بسبب انتخاب رئيسٍ أسود. وبالرغم من أن كاتبيّ الرسالة «الأكثر تحديدًا» لم يذكروا ترامب بالاسم، لكنهم يبنون على منوال ما بنيت عليه حجّة كوتس: «الترامبيّة هي التمظهر الوحشيّ للسلطة الموروثة».
وبالتالي فإن اعتبار مفهوم الترامبية داء يتجاوز حدود الطبقة الاجتماعية، والعرق، والجندر، والأيديولوجيا – وهو ما يُعبر عنه، ليس من السياسيين الجمهوريين فحسب، بل من الأشخاص ذوي البشرة الملونة أيضًا ضمن غرف الأخبار والجامعات – هو كلام فارغ. ويستدلّ الكاتب على ذلك الموقف بمحاججة المؤلف جيت هير التي تذهب إلى أن الترامبيّة هي تتويج لقرار الحزب الجمهوري بتطويع نفسه أداةً للرجل الأبيض الأمريكي التي يعارض بها المساواة العرقيّة. وفي النتيجة: لا يمكن أن توجد «ترامبيّة اليسار» وفقًا لأقواله.
مستقبل ما بعد ترامب
يدور النقاش حول معنى الترامبيّة في رسائل المثقفين والمفكّرين، لكن إذا ما خسر ترامب قد تنتقل هذه المناقشات إلى واشنطن. فوفقًا لتوقعات الكاتب، سيصطدم الديمقراطيون المصرّون على التغيير الجذري مع المحافظين القادرين على صدّه، ومن ثم سيطالب التقدميون بعد ذلك – وقد بدأوا بهذا بالفعل – بتغييرات هيكلية تسمح لهم بإلغاء أو تجاهل «فيتو» اليمين.
مثل هذه المطالب قد تتخذ شكل إجراءات تنفيذية جديدة وجارفة، وتعديلات على هيكل المحكمة العليا، وجهود إلغاء أساليب المماطلة «filibuster»، وتحركات لمنح صلاحيات الولاية للعاصمة واشنطن وبورتوريكو. سيرى البعض ممن يعرّفون الترامبية على أنها تعصّب هذه التحركات باعتبارها شكلًا تقدميًا من الترامبيّة، أي تهجّم على اللعب العادل المذكور آنفًا.
حذّر مستشار البيت الأبيض السابق بوب باور – في زمن ولاية أوباما – عام 2018 من أن الليبراليين بمحاولتهم توسيع حجم المحكمة العليا سيضاهون «ازدراء الرئيس ترامب للمؤسسات الديمقراطية وسيادة القانون». وحذّر المعلّق السياسي ديفيد فروم العام الماضي من أن خليفة ترامب الديمقراطي إذا فرض سياسات أقصى اليسار عبر الأوامر التنفيذية، فسيدلّ ذلك على امتناع الطرفين عن الالتزام بقواعد الديمقراطية.
سيرفض التقدّميون الذين يعرّفون الترامبية على أنها قمع تلك المزاعم باعتبارها سخيفة، وسيجادلون بأنّ جوانب معينة من نظام الحكم الأمريكي ترسّخ على نحوٍ غير ديمقراطيّ امتيازات الجماعات المهيمنة عبر التاريخ. بهذا المنطق، لا تشكل التغييرات الهيكليّة – التي قد تسمح للتقدميين بتجاوز معارضة المحافظين – أيّ هجوم على الديمقراطية، بل إزالة للحواجز التي تعترضها.
طرح ريان كوبر من مجلة «ذا ويك» حجته القائلة بأن تحويل العاصمة واشنطن إلى ويلاية من شأنه أن يمنح حق التصويت لـ700 ألف شخص – نصفهم تقريبًا من السود – الذين ما يزالون «يعاملون حاليًا كأنهم مواطنين لاستعمار شبه تقليدي»، ويؤكد كوبر أن إزالة المماطلة (الفيليباستر) سينهي ممارسة استخدمها العنصريون في المقام الأول ليوقفوا تاريخيًا تشريع الحقوق المدنية.
هيمنت رؤية شليزنجر المتمثلة بالمركز الحيوي – مركّب من الليبراليين والمحافظين الذين وحّدوا قضيتهم ضد كل من اليسار غير الديمقراطي واليمين غير الديمقراطي – على السياسة الأمريكية في السنوات التالية للحرب العالمية الثانية، لانعدام وجود حركة يسارية قوية بما يكفي لتحديها وفقًا للكاتب.
لكنها فقدت هيمنتها في أواخر ستينات القرن الماضي، تحت ضغط الحركة المناهضة للحرب والحركة النسويّة وحركة حريّة السود. يختتم الكاتب باعتباره أن مشكلة خلفاء شليزنجر اليوم تكمن في محاولتهم تشكيل مركزٍ حيويّ جديد في وقتٍ يمتلك فيه الناشطون اليساريون قوة كافية لتحدّ سيطرتهم على بنود النقاش. وستتجلى إحدى تمظهرات هذا التحدّي عبر جهد ربط الإدانة الإيدولوجية بطريقةٍ يتهم فيها كل طرف خصمه بأنه الوريث الشرعيّ للترامبيّة.