تستشرف هذه الورقة تداعيات فوز جو بايدن وخسارة دونالد ترامب في انتخابات الرئاسة الأميركية التي جرت يوم 3/11/2020 على العلاقات مع إسرائيل في المرحلة المقبلة.
تنطلق الورقة من فرضية أن بايدن سيعيد رؤية الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما إلى حد ما في تعامله مع إسرائيل ومع الملفات الإقليمية المتعلقة بها. غير أن انشغال بايدن بهذا الملف قد يكون متأخرًا أو تدريجيًا بسبب انهماكه في القضايا الداخلية التي تم انتخابه من أجلها تحديدا.
وهذا يعني أيضا أن بايدن سوف يتعامل مع جزء من إرث الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، لاسيما ما تم تنفيذه في ولايته، بينما سوف يعيد النظر إلى حدّ إلغاء مركبات أخرى من هذا الإرث، وهذا سيكون في المسائل المتعلقة بإسرائيل مباشرة، أو بمسائل لها علاقة غير مباشرة بإسرائيل.
ترامب وإسرائيل
مثلت إدارة ترامب ما كان يحلم به اليمين الإسرائيلي، فقد تماهت إدارته مع كل مواقف الحكومة الإسرائيلية من دون قيد أو شرط. لا بل إن إدارة ترامب عملت كوكيلة تطبيع لإسرائيل في المنطقة. وكان الطرفان في علاقة خصام لدرجة العداء مع إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، حيث تماهى الحزب الجمهوري في سنوات ولايتي أوباما مع مواقف اليمين الإسرائيلي ورئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، واعتبر الحزب الجمهوري أن أوباما هو أسوأ رئيس بالنسبة للعلاقات مع إسرائيل، وهو موقف ينسجم معه ويؤيده اليمين في إسرائيل أيضا، يصرح فيه أحيانا ويخفيه أحيانا أخرى، إلا أن الكثير من التصريحات في السنوات السابقة لقيادات من اليمين تؤكد هذا التوجه. وقد اعتبر اليمين أن انتخاب ترامب فرصة تاريخية يمكن من خلالها إحداث قطيعة مع فترة أوباما، خاصة وأن ترامب نفسه سفّه أوباما واعتبره أسوأ رئيس في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية، مستندا، من بين ما استند عليه، على تعامله مع إسرائيل.
وقد اعتبر اليمين أن فوز ترامب جاء لصالح أيديولوجيته، خاصة وأن الطاقم المحيط بترامب يعتبر من المؤيدين لإسرائيل. ففي وثيقة حضرها مستشارا ترامب ديفيد فريدمان وجيسون غرينبلات حول الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وقدماها إلى ترامب خلال الانتخابات، أشير إلى أن هذا الأخير يريد الحفاظ على مصالح إسرائيل. وأكد دوري غولد، الذي شغل منصب المدير العام لوزارة الخارجية الإسرائيلية، أن توجهات الرئيس الجديد بالنسبة لإيران مختلفة عن إدارة أوباما، حيث أن الوثيقة المذكورة تشير، برأي غولد، إلى أن إيران تنتهك الاتفاقية الموقعة معها، وبيّن غولد أن الوثيقة تتحدث عن حدود آمنة وقابلة للدفاع لإسرائيل في أي تسوية، وهذا باعتقاده تراجع عن فكرة الانسحاب إلى حدود العام 1967.
ولم يكن خافيًا أن توترًا ساد العلاقات بين نتنياهو وبين أوباما خلال السنوات الثماني لولايتي هذا الأخير، حيث انتخب الرجلان في نفس الفترة تقريبا (أوباما عام 2008 ونتنياهو عام 2009)، وقد اضطرا للعمل معا، ولم يخفيا التوتر في المواقف بينهما، فقد فرض أوباما على نتنياهو قبول حل الدولتين، وساهم في تعطيل الكثير من المخططات الاستيطانية في الضفة الغربية، وكان معارضا لنهج نتنياهو بالنسبة للملف النووي الإيراني، ورؤيته للأزمة في الشرق الأوسط، وغيرها من القضايا والسلوكيات التي عبرت عن التوتر بين الرجلين في المنهج والسلوك في قضايا مختلفة، إلا أن أوباما لم يقلل من تعهده من حماية الأمن الإسرائيلي ودعم إسرائيل والتزامه بأمن وتفوق إسرائيل. ولكن تحولات حدثت في اليمين الإسرائيلي واليمين الأميركي جعلت اليمين في إسرائيل ينظر إلى الحزب الجمهوري كامتداد لليمين في إسرائيل والحزب الديمقراطي كامتداد لليسار في إسرائيل، وجعلته واثقا من أن فوز ترامب ستكون له انعكاسات إيجابية على مصالح اليمين في إسرائيل وأيديولوجيته.
تجدر الإشارة إلى أن نتنياهو لم يعمل أبداً أمام رئيس حزب جمهوري، ففي فترة ولايته الأولى (1996- 1999) عمل أمام الرئيس الأميركي بيل كلينتون، وفي الولايات الثلاث الأخيرة عمل أمام الرئيس أوباما، وكان ترامب أول رئيس من الحزب الجمهوري يعمل نتنياهو أمامه، وهو الحزب الذي يعتبر اليمين فوزه امتدادا لصعود اليمين في العالم، وتأكيدا على صدقية توجهات اليمين في القضايا الاقتصادية والسياسية والقيمية.
بايدن وإسرائيل
شغل بايدن منصب نائب الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، وكان من الشخصيات التي صاغت السياسة الأميركية الخارجية لإدارة أوباما. وفي يلي النقاط التي تتعلق بإسرائيل ضمن هذه السياسة:
أولا: دعمت إدارة أوباما الثورات العربية، لا سيما بعد أن اتضح لها أن الأنظمة العربية السلطوية سوف تسقط في هذه الدول، وتحديداً في تونس ومصر، في حين كانت إسرائيل تتعامل مع الثورات العربية بتحفظ في أحسن الأحوال وفي عداء لها، خاصة في مصر، في حقيقة الأمر. في المقابل دعم ترامب الأنظمة السلطوية، بالذات في مصر، رافضا أي تدخل في فرض إصلاحات سياسية على هذه الأنظمة أو ممارسة الضغط عليها في مسألة حقوق الإنسان، وهذا ما كان مع دول خليجية ايضا.
ثانيا: عرض أوباما رؤيته لتسوية الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني على أساس حل الدولتين، معارضا الاستيطان، ومراقبا له في أحسن الأحوال، ما لجم البناء الاستيطاني نسبيا، وفي أعقاب فشله في تسوية بين الطرفين أنهى أوباما ولايته بامتناع الولايات المتحدة عن التصويت في مجلس الأمن الدولي على قرار يدين الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية. في المقابل قام ترامب بتبني الرؤية الإسرائيلية للتسوية، فارضاً "صفقة القرن" وما سبقها من نقل السفارة إلى القدس، والاعتراف بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل وملاحقة المؤسسات الدولية الداعمة للفلسطينيين، مثل وكالة الأونروا، المحكمة الجنائية الدولية، مجلس حقوق الإنسان، وغيرها. كذلك أقر ترامب بالسيادة الإسرائيلية على هضبة الجولان، وأعلن وزير خارجيته مايك بومبيو أن المستوطنات في الأراضي المحتلة منذ 1967 شرعية ولا تنتهك القانون الدولي!
ثالثا: في موضوع الملف الإيراني، توصلت إدارة أوباما إلى اتفاق نووي مع إيران بالإضافة إلى الدول الخمس الكبرى، الأمر الذي عارضته إسرائيل بشدة، ما دفع نتنياهو إلى تجاوز البيت الأبيض وإلقاء خطاب ضد الاتفاق في الكونغرس الأمر الذي عمق من التوتر بين الجانبين. في المقابل عندما جاء ترامب قام بالتراجع عن الاتفاق والانسحاب منه، فارضا على إيران عقوبات اقتصادية غير مسبوقة كما كانت تطالب إسرائيل دائما.
رابعا: في ملف العلاقة مع السلطة الفلسطينية، دعمت إدارة أوباما والأدق استمرت في دعم السلطة الفلسطينية اقتصاديا، ولم تحاصرها سياسيا، في حين قطع ترامب الدعم الاقتصادي عن السلطة الفلسطينية وعن دعم المشاريع العمرانية فيها، فضلا عن حصارها سياسيا على المستوى الدبلوماسي، إضافة إلى إغلاق مكتب بعثة منظمة التحرير في واشنطن.
خامسا: فيما يتعلق بتسوية الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، انطلقت إدارة أوباما من أن تسوية هذا الصراع سوف يجلب الاستقرار إلى منطقة الشرق الأوسط، وقد عبر عن هذا الموقف وزير الخارجية الأميركي آنذاك، جون كيري، ففي تصريح له في مؤتمر ميونيخ للأمن في شباط 2014، قال: "هناك حملة متصاعدة لنزع الشرعية... والناس حساسة جدا لذلك... يتحدثون عن مقاطعة وأشياء من هذا القبيل... هل سيكون أفضل لنا إذا حدث ذلك". وقد أثار هذا التصريح موجة غضب من الحكومة الإسرائيلية وتصريحات مباشرة من وزراء إسرائيليين ضد كيري.
وكان وزير الدفاع السابق في الليكود موشيه يعلون أدلى بتصريحات قاسية ضد كيري بسبب مثابرة الأخير على التوصل إلى تسوية بين إسرائيل والفلسطينيين، فقد وصف يعلون كيري بأنه "مهووس ومسياني، ونرجو أن يحصل على جائزة نوبل ويتركننا وشأننا"، حيث يعتقد يعلون أن التوجه الأميركي لحل الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي حالا هو خطأ وأن عدم الاستقرار في المنطقة غير نابع من هذا الصراع.
كما ذكرنا سابقا كان بايدن شريكًا في كل هذا السياسات التي قام ترامب بإحداث قطيعة معها. ولا بد من الإشارة أيضاً إلى أنه في أعقاب الاتفاق النووي مع إيران، جددت الولايات المتحدة الاتفاق الاستراتيجي مع إسرائيل لمدة عشر سنوات، وهو الاتفاق الذي أعطى إسرائيل امتيازات في التسلح والدعم بصورة غير مسبوقة. غير أن هناك عوامل قد تساهم في تعكير الأجواء التي كانت بين إسرائيل وترامب في عهد بايدن، وهي على النحو التالي:
أولا: حالة التماهي غير المسبوقة بين اليمين الإسرائيلي والحزب الجمهوري الإسرائيلي، وهي ظاهرة غير مسبوقة في السياسة الإسرائيلية. حيث كان واضحا أن اليمين الإسرائيلي بات حليفا للحزب الجمهوري، وهذا ما عبرت عنه الصحافة اليمينية وكتابها وحتى سياسيون من اليمين، ورغم الحذر الذي يتبعه نتنياهو في هذا الشأن، إلا أن خطابه تجاه ترامب ومدحه الشديد له ونقده المبطن لإدارة أوباما جعل هذا التحالف واضحا، في الجانب الآخر كان الحزب الجمهوري يتحول أكثر فأكثر إلى حزب يمين متطرف وخاصة في عهد ترامب وموجها نقدا للحزب الديمقراطي تجاه مواقفه من إسرائيل واصفا إياها بالعداء لليهود ولإسرائيل. وهو طبعًا يجافي الحقيقة. وفي العام 2012 تدخل نتنياهو لدعم المرشح الجمهوري ميت رومني، حيث أقلق هذا التدخل كثيراً من الدبلوماسيين الإسرائيليين الذين لم يشهدوا مثيلا له في الماضي.
ثانيا: الترسبات السلبية التي حملها بايدن من فترة إدارة أوباما وما شابها من توتر مع إسرائيل عمومًا، ونتنياهو خصوصًا في كل ما يتعلق بالملف الإيراني، والتسوية مع الفلسطينيين، والاستيطان، وغيره من قضايا ذات طابع مبدئي بين الطرفين. وتحديدًا فيما يتعلق بالعلاقات الشخصية بين بايدن ونتنياهو، فقد شابها التوتر، أولا للدعم الواضح لليمين لترامب، وثانيا إهانة بايدن في إحدى زياراته لإسرائيل، حيث تعهد نتنياهو بعدم بناء وحدات استيطانية في القدس، وفي أثناء زيارته أعلنت إسرائيل عن البناء الاستيطاني في ذات المكان مما أغضب بايدن كثيرا وتسبب بشعوره بالإهانة الشخصية ناهيك عن السياسية من هذا السلوك.
ثالثا: تحولات في مواقف قواعد الحزب الديمقراطي من المسألة الفلسطينية وتسوية الصراع. ففي استطلاع نشره معهد الأبحاث الأميركي "غالوب"، أشار إلى أن أقل من نصف المؤيدين للحزب الديمقراطي عبروا عن تأييدهم لإسرائيل، بينما كانت نسبة الذين أيدوا الجانب الفلسطيني الأعلى منذ عشرين عاما، وهذا يعود إلى تغيرات فكرية وديموغرافية حدثت في قواعد الحزب الديمقراطي.
خلاصة: توجهات محتملة لبايدن
على ضوء كل ما ورد أعلاه، من المتوقع أن تنحو سياسة بايدن حيال إسرائيل على النحو التالي:
أولا: ركن "صفقة القرن" جانباً ما عدا ما تم تنفيذه منها، وتحديدا نقل السفارة الأميركية إلى القدس، فيما عدا ذلك فإن بايدن لن يعتبر هذه الخطة أساساً للتسوية بين الطرفين، بل سيعمل على تسوية من خلال المفاوضات بين الطرفين مبنية على أساس حل الدولتين.
ثانيا: لن يقبل بايدن بسياسة الضم الإسرائيلية لمناطق في الضفة الغربية، بل سيؤيد أي ضم ضمن تسوية نهائية بين الطرفين.
ثالثا: من المحتمل أن تلجم الإدارة الجديدة الاستيطان في الضفة الغربية من دون تجميده نهائيا، ولن تسمح بهذه الكثافة غير المحسوبة للاستيطان كما يحدث الآن.
رابعا: سوف يعيد بايدن التفكير في القطيعة التي حدثت بين الولايات المتحدة ومؤسسات دولية ناقدة لإسرائيل، كما يمكن أن يعيد الدعم الأميركي إلى وكالة الأونروا التابعة للأمم المتحدة.
خامسا: سيجدد بايدن العلاقات الاقتصادية والسياسية بين الإدارة الأميركية والسلطة الفلسطينية، حيث يعتبرها بايدن مركبا أساسيا في المنطقة وفي أي تسوية للصراع
سادسا: سوف يعيد بايدن التفكير في العلاقات مع إيران عبر التفاوض معها على اتفاق نووي جديد، ربما يكون من ناحية واشنطن أفضل من الاتفاق النووي السابق المُبرم في فيينا.