كتب الصحافي الصهيوني ميرون رابوبورت تحليلاً مطوّلاً في موقع "ميدل إيست أي" البريطاني قال فيه إنه كما كان متوقعاً، لم يمدد الكنيست الإسرائيلي الموعد النهائي لاعتماد الحكومة لميزانيتها المقبلة، مما أدى إلى حلها التلقائي، وفي نهاية آذار / مارس 2021، سيصوت الإسرائيليون مجدداً في الانتخابات العامة الرابعة في أقل من عامين.
وقال الكاتب إن هذا الافتقار إلى الاستقرار السياسي ناتج عن عوامل عدة، أبرزها "العجز الديمقراطي" الإسرائيلي - حقيقة أن دولة "إسرائيل" غير قادرة على قبول الأقلية الفلسطينية من مواطنيها كجزء شرعي من كيانها السياسي، ونظامها السياسي. وأضاف أن النظام السياسي الإسرائيلي مبني على أساس عرقي (يهودي)، وليس أساس على جميع مواطنيها.
وهذا هو السبب الرئيسي وراء فشل المعسكر اليميني بقيادة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في تحقيق الأغلبية في الجولات الثلاث للانتخابات بين نيسان / أبريل 2019 وآذار / مارس 2020، ولم يتمكن المعسكر المعارض من تشكيل حكومة.
لكن السبب المباشر للانتخابات المبكرة هو حقيقة أن أجزاء كبيرة من الجمهور الإسرائيلي لم تعد ترى أن قيادة نتنياهو شرعية. وتعد لوائح الاتهام الموجهة إليه أحد العوامل الرئيسية، إلى جانب هجماته الشاملة على المؤسسات الحكومية وإدارته الإشكالية لأزمة فيروس كورونا.
وبدأت قبل ستة أشهر سلسلة طويلة من التظاهرات ضد نتنياهو، ولا تزال مستمرة، التي عززت عدم شرعيته. ولو لم تكن هناك مثل هذه التظاهرات، لكان من المحتمل أن يكون حزب "أزرق أبيض" بقيادة بيني غانتس قد تمكن بطريقة ما من مواصلة دعم نتنياهو على الرغم من الإذلال المتكرر للحزب من قبل رئيس الوزراء. فقد قلصت التظاهرات المتسلسلة من مساحة وزير الدفاع للمناورة وأدت في النهاية إلى سقوط الحكومة.
وقال الكاتب إنه إذا تم تصديق استطلاعات الرأي الأخيرة، فلن يكسب يسار الوسط شيئاً من فشل نتنياهو في الحفاظ على حكومته سليمة. وبدلاً من ذلك، من المتوقع أن تحصل الأحزاب المنتمية إلى اليمين أو المنتسبة إليه على 75 إلى 80 مقعداً من أصل 120 مقعدًا في البرلمان الإسرائيلي - وهو إنجاز غير مسبوق.
وأوضح أن المستفيد الرئيسي من هذه السلسلة من الأحداث هو جدعون ساعر، النائب عن حزب الليكود الذي استقال قبل أسبوعين وأعلن تشكيل حزبه "الأمل الجديد".
وعلى الرغم من أن الخلاف بين ساعر ونتنياهو معروف، إلا أن خروجه من الليكود والتزامه العلني بعدم الجلوس في حكومة برئاسة رئيس الوزراء كان غير متوقع. وتمنح الاستطلاعات الأخيرة حزبه 19 مقعداً محتملاً، مما يعني أنه إذا أوفى ساعر بوعده بعدم العمل مع نتنياهو، فإن فرص الأخير في تشكيل حكومة جديدة ضئيلة للغاية.
وعلى الرغم من كونه غير معروف إلى حد ما دولياً، إلا أن ساعر شخصية مألوفة جداً في السياسة الإسرائيلية، على الرغم من أنه شاب نسبياً في سن 54.
وبلغ ساعر سن الرشد في حركة "تهيا" (النهضة)، وهو حزب يميني متطرف انبثق عن معارضة الانسحاب الإسرائيلي من شبه جزيرة سيناء بموجب اتفاق السلام الذي وقعته حكومة مناحيم بيغن مع الرئيس المصري أنور السادات في عام 1979.
وأصبح ساعر لاحقاً مراسلاً سياسياً، وكان الصحافي اليميني الوحيد تقريباً في الصحف ذات الميول اليساعرية، وتم تعيينه لاحقاً كمساعد للمدعي العام قبل دخوله في السياسة مباشرة. وعيّنه نتنياهو، خلال فترة ولايته الأولى كرئيس للوزراء في عام 1999، سكرتيراً لمجلس وزرائه، وهو منصب له تأثير كبير على الأعمال اليومية للإدارة.
كما عيّنه أرييل شارون في نفس المنصب عندما عاد الليكود إلى السلطة في عام 2001. وانتُخب ساعر لأول مرة عضواً في البرلمان الإسرائيلي، الكنيست، في عام 2003. وبعد عودة نتنياهو إلى السلطة في عام 2009، عيّن ساعر في منصبين رئيسيين في إداراته اللاحقة، وزيراً للتعليم ووزيراً الداخلية.
ارتبط ساعر طوال حياته السياسية بالجناح اليميني في الليكود. وعندما أعلن شارون عن خطة الانسحاب التي تعني إخلاء المستوطنات الإسرائيلية من قطاع غزة عام 2005، كان ساعر صوتاً بارزًا في المعارضة وصوت ضد الخطة في الكنيست.
وبعد أن أقر نتنياهو لأول مرة بإمكانية قيام دولة فلسطينية في "خطابه في بار إيلان" عام 2009، كان ساعر صريحًا في انتقاده. كما عارض ساعر "صفقة القرن" التي طرحها الرئيس الأميركي دونالد ترامب لأنها تضمنت إقامة دولة فلسطينية، وإن كان ذلك في ظل ظروف مقيّدة للغاية ومن دون تواصل إقليمي للدولة أو سيطرة على حدودها الخارجية.
وعندما كان وزيراً للتعليم، أطلق ساعر مبادرة لإرسال طلاب المدارس الثانوية في مدارس عامة علمانية في جولات في مدينة الخليل بالضفة الغربية، حيث استقر الإسرائيليون بشكل غير قانوني تحت حماية عسكرية شرسة.
كما قاد الاعتراف بكلية آرييل كجامعة، على الرغم من موقعها في مستوطنة في قلب الضفة الغربية. وظل ثابتاً عندما عارض مجلس التعليم العالي في "إسرائيل" الخطوة خوفاً من التداعيات السياسية لمنح شرعية رسمية على جامعة في الأراضي المحتلة، وأخرى ذات مؤهلات أكاديمية أقل من المؤثرات.
وعندما كان وزيراً للداخلية، وضع ساعر سياسة متشددة تجاه طالبي اللجوء من إفريقيا، وتم إرسال الآلاف منهم إلى معسكر اعتقال منعزل تم تشييده حديثًا في جنوب فلسطين المحتلة. وبعد أن ألغت المحكمة العليا مرتين القانون الذي يسمح بسجن طالبي اللجوء من دون محاكمة، باعتباره انتهاكاً لحقوق الإنسان الأساسية، ضغط ساعر من أجل تشريع جديد يسمح للبرلمان الإسرائيلي بالالتفاف على الأحكام.
وقال الكاتب إن مطالبة ساعر بـ"إصلاحات" في القضاء، وهي تعبير ملطف لإضعاف سلطة القضاة وتعزيز قوة السياسيين، هي من بين المبادئ الأساسية للحزب الجديد الذي أسسه - إلى جانب "تحقيق الحقوق الطبيعية والتاريخية للشعب اليهودي في إسرائيل" وتشجيع الاستيطان في الضفة الغربية. بمعنى آخر، بينما تغيرت مواقف نتنياهو مراراً، كان ساعر ولا يزال يمينياً نموذجياً.
وعلى الرغم من صلابته الآيديولوجية، يتمتع ساعر بدعم ناخبي الوسط وحتى اليسار اليهودي، حيث أصبح نتنياهو منبوذاً.
وتكشف استطلاعات الرأي أن نصف ناخبي ساعر على الأقل دعموا في السابق أحزاب "أزرق وأبيض" أو أحزاب يساعر الوسط. إضافة إلى ذلك، فهو يعيش في تل أبيب، معقل يسار الوسط منذ فترة طويلة، بينما يعيش نتنياهو في القدس ذات الاتجاه اليميني. ولدى ساعر علاقات ممتازة مع صحافيين من المستويات العليا، في حين أن علاقات نتنياهو مع وسائل الإعلام كانت دائماً شائكة.
لكن هذه ليست القصة الكاملة. بينما هاجم نتنياهو بشدة في السنوات الأخيرة "الدولة العميقة" على طريقة ترامب، حافظ ساعر دائماً على كرامة المؤسسات الحكومية وانتقد هجمات نتنياهو على القضاء. يقدم ساعر نفسه على أنه ديموقراطي محافظ.
حتى عند مهاجمته اليسار، تبقى لغة ساعر أكثر اعتدالاً بكثير من تحريض نتنياهو. لن تسمع ساعر يسمّي المتظاهرين في القدس بـ"ناشري الأمراض" أو يحذر "جحافل" المواطنين الفلسطينيين من "إغراق صناديق الاقتراع بالحافلات". بعد جنون نتنياهو، يمثل ساعر نوعاً من العودة إلى الحياة الطبيعية.
لكن ثمة تحذيرات كثيرين من اليسار الراديكالي تحض على توخي الحذر فيما يتعلق بصورة ساعر المعتدلة. يزعمون أن ذلك وهمي وأنه بمجرد وصوله إلى السلطة سيكون أسوأ بكثير من نتنياهو، ليس فقط فيما يتعلق بالاحتلال والضم، ولكن أيضاً من حيث سيادة القانون. يقولون إنه حيثما تردد نتنياهو خوفاً من شن أي مواجهات عسكرية كبيرة، فإن سياسات ساعر ستكون أكثر عنفاً. ويحذر من هم في أقصى اليسار بأننا قد نجد أنفسنا نفتقد نتنياهو.
فقط إذا تمكن ساعر بالفعل من تشكيل حكومة، سنتعرف على مدى دقة تلك التحذيرات. لكن الأمور يمكن أن تسير بشكل مختلف. فإذا أوفى بوعده بعدم الانضمام إلى حكومة برئاسة نتنياهو (وحتى الآن أظهر أنه موثوق نسبياً بالنسبة لسياسي)، فإن المسار الوحيد المتبقي له لتشكيل حكومة هو التحالف مع أحزاب يسار الوسط، وربما حتى يشمل حزب "ميرتس" من اليساعر الأكثر راديكالية. وستكون حريته في التصرف محدودة، على عكس الحكومة التي قادها نتنياهو قبل انتخابات 2019، والتي شملت الأحزاب اليمينية فقط واعتمدت قانون الدولة القومية والتشريعات الأخرى التي تميّز بوضوح تجاه الفلسطينيين داخل "إسرائيل" والأراضي المحتلة.
ولكن حتى لو تمسك ساعر بمواقفه اليمينية القوية، فقد يكون هناك تغيير إيجابي واحد مقارنة بنتنياهو. فنتنياهو أكثر مراوغة من الناحية الآيديولوجية، فهو اليوم يروّج للضم، وغداً سوف يتبنى السلام مع الشرق الأوسط بأكمله؛ اليوم يلقي خطاباً في بار إيلان، وغدا سيكون واعداً بأنه خلال فترة ولايته لن تقوم دولة فلسطينية. اليوم هو يحرض ضد القطاع العام "الشره" وغداً سيوزع هدايا من أموال الحكومة في ظل تفشي فيروس كورونا.
كل ذلك يجعل من الصعب إجراء مناقشة آيديولوجية مع نتنياهو. يجعل أي سجال معه شخصياً. إذا اختلفت معه فأنت عدو وإذا اتفقت معه فأنت قديس. إن إجراء مثل هذا النقاش سيكون أسهل بكثير مع ساعر، خاصة فيما يتعلق بمستقبل علاقات "إسرائيل" مع الفلسطينيين. بما أن معارضته لدولة فلسطينية واضحة تماماً، فمن الممكن العودة لمناقشة المسائل "الكبيرة" للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وهي أسئلة كانت مكتومة في عهد نتنياهو على وجه التحديد لأنه جعل كل شيء شخصياً.
قد يصبح هذا التغيير ذا صلة بالنظر إلى أنه مع دخول بايدن البيت الأبيض، فإن إمكانية العودة إلى مفاوضات حقيقية مع الفلسطينيين قد تجعلها مطروحة على الطاولة.
وهناك أيضاً أشياء أخرى، لا تتعلق مباشرة بنتائج الانتخابات. فقد تسببت الاحتجاجات المناهضة لنتنياهو في نزول عشرات الآلاف إلى الشوارع بشكل متكرر لعدة أشهر. وقد أدى ذلك إلى خلق وعي سياسي جديد بين أقسام كبيرة من يساعر الوسط اليهودي، بما في ذلك الرغبة في تحدي النظام الإسرائيلي من الداخل، وربما لم يسبق له مثيل من حيث النطاق.
وختم الكاتب بالقول إنه حتى إذا فاز اليمين في انتخابات آذار / مارس المقبل، والتي يبدو أنها النتيجة الأكثر ترجيحاً في هذه المرحلة، فقد لا يظل الشارع الإسرائيلي غير مبالٍ كما كان خلال فترة حكم نتنياهو الطويلة. فبعد 12 عاماً متتالية من حكم نتنياهو، ستكون "إسرائيل" من دونه مختلفة تماماً عما كانت عليه معه. كانت الأمور سيئة مع نتنياهو. هناك بالتأكيد فرصة أنه من دونه، ستكون الأمور أفضل.