يمضي السودان في التطبيع مع "إسرائيل" بعد قرار الإدارة الأميركية رفع اسمه من قائمتها للدول الراعية للإرهاب، وموافقة الكونغرس على قانون الحصانة السيادية للسودان، وهو الذي يحصنه من أي دعاوى قضائية تخص الإرهاب، باستثناء تلك المتعلقة بهجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001 على الولايات المتحدة؛ لتتجه الأنظار إلى مستقبل ملف التطبيع والتجاذبات حوله على الصعيد الأميركي، وداخليا بين المكونين العسكري والمدني في السلطة الانتقالية.
ومن وجهة نظر الخبير القانوني ووزير الخارجية السوداني السابق الدرديري محمد أحمد فإن إسقاط اسم السودان من قائمة الإرهاب كان مجرد مناورة استبدلت فيها الولايات المتحدة وسائل ضغط قديمة بأخرى جديدة أكثر مواكبة وأشد فتكا.
فالاحتفاظ باسم السودان في قائمة الدول راعية الإرهاب -حسب الخبير القانوني- "من دون مبررات وجيهة، ومن دون نجاح في ربط السودان بعملية إرهابية واحدة؛ ظل محرجا لأميركا طوال العقدين الماضيين، فكيف به بعد التغيير الذي حدث في الطبقة الحاكمة، وهكذا ضمنت أميركا أنه رغم خروج السودان من قائمة الإرهاب فإنه يظل خاضعا لإجراءاتها ويقاضى بموجب تلك الإجراءات، وربما لعقود قادمة".
صمت رسمي
رسميا، آثر مسؤولون في الحكومة السودانية الصوم عن الإدلاء بأي تصريحات في ملف التطبيع، حتى وصلت عملية رفع العقوبات الأميركية منتهاها بصدور قانون من الكونغرس يحصن الخرطوم من دعاوى الإرهاب عدا تلك المتعلقة بهجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001 على الولايات المتحدة.
وطبقا لمسؤول بالقصر الرئاسي، فإن مسؤولي الحكومة آثروا الصمت وهم ينتظرون قطف الثمار، نسبة لاحتشاد الأجندة في الكونغرس وما تفرضه مرحلة انتقال السلطة من دونالد ترامب لجو بايدن، حسب حديثه للجزيرة نت.
حالة ارتباط
وباءت محاولات مسؤولي الحكومة الانتقالية في السودان بالفشل في فك الارتباط بين مساري القائمة السوداء والتطبيع، بسبب الربط الصريح الذي أبداه الرئيس الأميركي دونالد ترامب بين المسارين.
واضطر رئيس مجلس السيادة الانتقالي عبد الفتاح البرهان لنقل اشتراطات لوزير الخارجية مايك بومبيو عبر محادثة هاتفية الشهر الماضي، مفادها أن الخرطوم ستعلق التطبيع مع "إسرائيل" في حال لم يصدر قانون الحصانة من الكونغرس.
ويبدو أن الاشتراطات السودانية حركت "اللوبي الإسرائيلي" (مجموعات ضغط)، الذي بدأ حملة ضغط من أجل مصادقة الكونغرس على الحصانة للسودان، رغم معارضة رئيس الأغلبية الديمقراطية السيناتور تشاك شومر، وزعيم الديمقراطيين بلجنة العلاقات الخارجية السيناتور روبرت مندينديز.
خدمة إسرائيلية
ويعتبر المسؤول الإعلامي السابق في السفارة السودانية بواشنطن مكي المغربي ما قامت به "إسرائيل" و"اللوبي" التابع لها بالولايات المتحدة من ضغوط "خدمة حقيقية" للسودان، ولها مردود.
ويقول المغربي للجزيرة نت إن الإشكالية في استفادة الحكومة من الخدمة الإسرائيلية، وعدم الوقوع في عقبات -تحاشى تحديدها- في الوقت الراهن.
وتوقع أن يقع السودان بعد خروجه من القائمة السوداء في بعض المشكلات، ربما كانت أولاها الحصانة القانونية التي لم تشمل هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001.
عقوبات جديدة
ويحاول المسؤول السابق بسفارة السودان في واشنطن إعطاء مقاربة لما ستكون عليه العلاقات بين الخرطوم وواشنطن في الفترة القادمة قائلا إن أميركا ستحدد وسائل أخرى للضغط غير قائمة الإرهاب، وهي تعرف ماذا تريد من السودان.
ويحذر من أن الولايات المتحدة غضت الطرف عن تمديد الفترة الانتقالية في السودان؛ مما يعني عدم إجراء الانتخابات في الموعد الذي حددته الوثيقة الدستورية.
ويشير إلى أن القانون الذي أصدره الكونغرس في مارس/آذار الفائت الخاص بدعم الحكم المدني في السودان حوى الفصل 12 الذي يتحدث عن عقوبات يمكن أن تطبق بسبب تأجيل الانتخابات.
وتوقع تعرض السودان لعقوبات بسبب الديمقراطية، لكنها لن تكون بالشدة نفسها التي مارستها واشنطن على رأس النظام السابق الذي كان أكثر عنادا.
بين العسكر والمدنيين
ويلقي ملف التطبيع بظلال أكثر قتامة على العلاقة المضطربة أصلا بين العسكر والمدنيين في الحكومة الانتقالية منذ أن زار رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان عنتيبي الأوغندية، والتقى سرا رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في فبراير/شباط الفائت.
وحينها نفت الحكومة التنفيذية برئاسة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك علمها المسبق باللقاء، الذي قسّم بدوره الحاضنة السياسية للحكومة "قوى الحرية والتغيير".
ومؤخرا، انتقد وزير الإعلام فيصل محمد صالح الجيش لتطويره علاقات مع "إسرائيل" من دون إخطار مسؤولي الحكومة، عقب زيارة وفد إسرائيلي لمنظومة الصناعات الدفاعية بالخرطوم قبل شهرين.
لكن الخبير الاستراتيجي والمحاضر بأكاديمية الأمن العليا اللواء أمين إسماعيل مجذوب يقول إن الجيش وجد نفسه أمام ملف التطبيع مع إسرائيل، من واقع مشاركته في الحكم، وكان لا بد من التعامل مع الملف.
ويحذر مكي المغربي من محاولة انفراد العسكريين أو المدنيين في السلطة بملفي التطبيع والخروج من القائمة السوداء، لأن ذلك من شأنه إضعاف موقف السودان.
تعامل مع فقه الضرورة
وتنظر القوى السياسية والسلطة الانتقالية من قبلها لمسألة التطبيع كخطوة تفرضها الضرورة أكثر من الرغبة في التطبيع في حد ذاته.
وهذه الحالة عبر عنها زعيم حركة العدل والمساواة جبريل إبراهيم قبل قرار الإزالة من القائمة السوداء بقوله "هي محاولة من الحكومة ربما تأتي بثمار وربما لا".
ويمضي الناطق باسم الحركة معتصم أحمد صالح في توضيح هذا الموقف للجزيرة نت بقوله إن العلاقات الخارجية تقودها المصالح العليا للبلاد، والمصلحة في ملف التطبيع مرتبطة بإزالة اسم السودان من قائمة الإرهاب؛ حتى يتحرر من عزلته، ويحصل على قروض واستثمارات تقيل عثرته الاقتصادية.
ويضيف أن التطبيع لم يكن غاية للحكومة في ذاته، لكنها مضطرة إليه بعد أن ربطت الإدارة الأميركية القائمة السوداء بالتطبيع صراحة، لكنه في الوقت ذاته ينصح بتحقيق هذه المصلحة بعيدا عن التنافس بين العسكر والمدنيين في إدارة الملف.