• اخر تحديث : 2024-04-24 13:38
news-details
مقالات عربية

مع بزوغ فجر اليوم الأول من فبراير/شباط 2021 أُسدل الستار على حقبة التحول الديمقراطي القصيرة بجمهورية اتحاد ميانمار؛ فالبلاد التي حكمها جنرالات الجيش بصورة مباشرة لخمسة عقود متتالية منذ انقلاب 1962 حتى بداية التحول المدني عام 2011 لم تصمد أمام اختبار الحكم المدني طويلاً.

منذ فوز حزب 'الرابطة الوطنية للديمقراطية الساحق  NLD' بزعامة المستشارة أونغ سان سو تشي في الانتخابات البرلمانية نهاية العام 2015، وانتخابها لقيادة البلاد في عام 2016، والعلاقة بين الحكومة المدنية ومؤسسة الجيش في تذبذب واضطراب متتابع. فقد كان الجيش يشرف على العملية السياسية من خلال وكيل له هو الجنرال أونغ هيلينغ.

فشكل "التحول الديمقراطي" الذي أراده الجيش كان مغايراً لنوع التحول الديمقراطي الذي سعت إليه القوى السياسية المدنية الصاعدة. كان الجيش يطمح في أحسن الأحوال إلى بناء حالة هجينة يكون شكل الحكم فيها ديمقراطياً من الخارج، مما يقف الانتقادات الغربية لانتهاكات حقوق الإنسان في ميانمار، ويسمح بتدفق الاستثمارات الأجنبية، ويحسن علاقات البلاد الخارجية، لكن من دون الاضطرار الفعلي إلى تطبيق نظام حكم ديمقراطي تعددي حقيقي.

كيف وصلت البلاد إلى الانقلاب؟

من المهم الالتفات عند تتبُّع ما حصل في ميانمار إلى أن البلاد كانت تمتلك كل الظروف اللازمة لوقوع انقلاب عسكري: حكومة مدنية ضعيفة، وأزمات اقتصادية وسياسية فاقمتها جائحة كورونا فبات نصف السكان يقبع تحت خط الفقر، وأزمات أمنية عديدة، وصراعات مع الكثير من الاقليات المنتشرة عبر طول البلاد وعرضها، بالإضافة إلى وجود جيش كبير متماسك قوامه أزيد من نصف مليون عسكري في الخدمة يقوده جنرال طموح يخشى التقاعد بسبب تهم ارتكاب جرائم حرب. وصفة الانقلاب كانت جاهزة، والغريب أنه تأخر كل هذا الوقت.

دخلت سو تشي البرلمان عام 2012 ثم استلمت الحكومة عام 2016 وسادت حالة من التفاهم الضمني مع الجيش بحيث يستمر في الحفاظ على وزارات سيادية عديدة بينما تقود سو تشي الحكومة والسياسة الخارجية.

لكن شهر العسل لم يدم طويلاً، فقد أدار الطرفان حرباً باردة على مدى سنوات الحكم الأخيرة، ثم بدأ جدار التفاهمات بالتصدع مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية عام 2020. فشعبية قيادة الجيش وحزب تضامن وتنمية الاتحاد USDP المدعوم من الجيش استمرت في التراجع طوال فترة حكم سو تشي، بينما تصاعدت شعبية المستشارة حتى أضحت أشبه بالأم الروحية للغالبية البورمية التي تهيمن على البلاد.

فالمستشارة سو تشي هي ابنة مؤسس الجيش البورمي والأب الروحي للجمهورية الجنرال الراحل أونغ سان، وهي زعيمة المقاومة السلمية لحكم العسكر منذ نهاية الثمانينيات، وقد استطاع حزبها المحافظة على حضوره الشعبي على الرغم من قلة الإنجازات خلال سنوات الحكم الخمس.

على الطرف الآخر يقف خصمها اللدود الجنرال مين أونغ هيلينغ المُلاحق دولياً منذ 2019 بتهم ارتكاب جرائم تطهير عرقي في إقليم راخين، وقد مضى على قيادته للجيش عقد من الزمان وأصبح أمر تقاعده أو الإطاحة به مسألة وقت فحسب.

في ظل هذا المشهد دفع حزب سو تشي نحو إقامة الانتخابات في موعدها في نوفمبر/تشرين الثاني 2020، على الرغم من تفاقم انتشار فيروس كورونا. بينما طالب قيادات الجيش والأحزاب الموالية له بتأخير موعد الانتخابات لكن من دون جدوى، إذ أصرت لجنة الانتخابات المعينة من قبل الحكومة على عقد الانتخابات في موعدها المحدد وهو ما حصل.

ومع صدور النتائج واتضاح فوز حزب سو تشي بأغلبية أكبر من انتخابات 2015 وتراجع الحزب المدعوم من الجيش بدأ تشكيك الجيش في الانتخابات ورفضه لنتائجها تحت ذريعة وجود أكثر من 10 ملايين من أصوات وهمية مشكوك في صحتها.

وعلى مدى شهور ثلاثة تالية توالت المحادثات بين حزب سو تشي من جهة وقيادة الجيش من جهة أخرى لكن من دون جدوى، ففي ظل عدم رسوخ المؤسسات الديمقراطية ومحدودية استقلال القضاء كانت الغلبة للأقوى. وفي صبيحة اليوم الذي كان يفترض أن ينعقد فيه البرلمان لانتخاب حكومة جديدة تَحرك الجيش لحسم الصراع فأغلق العاصمة وقطع الاتصالات ثم أعلن تلفزيونه الرسمي حالة الطوارئ لمدة عام وتكليف نائب الرئيس (المعين من قبل الجيش) تولِّي الرئاسة مؤقتاً لحين عقد انتخابات جديدة. وفي الوقت ذاته اعتُقلت سو تشي والرئيس وقيادات الأحزاب الموالية لها، وجرى فرض حظر الطيران حتى منتصف العام. باختصار نجح الجيش في تحقيق انقلاب متكامل الأركان.

بين سياسة الأصوات وسياسة القوة

سعت سو تشي خلال سنوات حكمها الخمس لاكتساب مزيد من الشعبية المحلية، وكان ذلك على حساب صورتها الشخصية التي تراجعت دولياً من مناضلة ديمقراطية حازت جائزة نوبل للسلام عام 1991 إلى زعيمة سياسية انتهازية تدافع عن جرائم ضد الإنسانية.

ولم تتورع خلال الأعوام الاخيرة عن الدفاع عن انتهاكات جيش بلادها لحقوق الإنسان -خصوصاً بحق مسلمي الروهينغيا الذين كانت تسميهم "البنغاليين"- أمام محكمة العدل الدولية بلاهاي. فوقفت منكرة ارتكاب الجيش لعمليات تطهير عرقي على الرغم من ثبوت تلك الجرائم وفقاً لعشرات التقارير الرسمية الدولية، كما حاولت تسويق دعاية بروباغاندا مناهضة لمسلمي الروهينغيا واصفة إياهم بالإرهابيين الأجانب، من دون الالتفات إلى أن كثيراً من مسلمي ميانمار وقفوا إلى جانبها طيلة عقود النضال الماضية، ولا إلى حقيقة أن الجيش الذي أصبحت تعمل جاهدة لتحسين صورته هو المؤسسة التي اضطهدتها وحزبها على مدى عقود.

يبدو أن سو تشي وقعت في شرك وهم "تعزيز قبضة الحزب على السلطة عبر حيازة المزيد من الشعبية والأصوات الانتخابية"، بينما بقيت مفاصل الدولة في أيدي الخصوم. فعلى الرغم من الفوز الكبير لحزب الرابطة الوطنية للديمقراطية الذي تقوده سو تشي في انتخابات عام 2015 فإن الثقافة الديمقراطية لم تترسخ بعد لدى نخب البلاد، ولم يحصل أي تداول سلمي للسلطة بين حكومات منتخبة قط. فانتخابات 2015 كانت أول انتخابات ديمقراطية حقيقية يلتزم الجيش قبول نتيجتها منذ وصوله إلى السلطة عام 1962.

أما على الطرف الآخر فقد أدرك الجيش مبكراً أن السلطة الحقيقية تقبع في مفاصل الدولة العميقة ومؤسساتها الأمنية والعسكرية. فبينما ترك لحزب سو تشي الرئاسة والخارجية وإدارة المحافظات، حافظ الجيش على وزارتَي الداخلية والدفاع، ودافع عن دستور 2008 الذي خطه بيديه وفيه بنود يمكن استخدامها لتبرير أي انقلاب مستقبلي.

كما حافظ الجيش على نسبة تمثيل مباشرة له في البرلمان (ربع المقاعد يعينها رئيس الجيش)، واستمر في تحريك بعض الأحزاب مثل حزب تضامن وتنمية الاتحاد كواجهة حزبية لصالحه.

انقلاب أمام أعين الجميع

على الرغم من أن ملامح الانقلاب بدت واضحة خلال الأسبوع الفائت لتحرُّك الجيش، من قبيل تحذير سفارات أجنبية من وقوع انقلاب ثم تصريحات لقادة الجيش بإمكانية إلغاء الدستور ورفض المتحدث باسم الجيش -أثناء مؤتمر صحفي قبل أيام قليلة من وقوع الانقلاب- استبعاد احتمال انقلاب الجيش، بالإضافة إلى تحريك الجيش لمظاهرات مؤيدة له ورافضة لنتائج الانتخابات خلال الأيام الاخيرة -على الرغم من كل هذه الشواهد وغيرها- وقفت سو تشي وحزبها موقف المتفرج العاجز، من دون تحريك للجماهير التي تؤيدها أو للحلفاء الدوليين الخارجيين، في مشهد يذكِّر بفشل حكومات أخرى منتخبة في منع دهس صناديق الاقتراع تحت جنازير الدبابات.

ميانمار إلى أين؟

لن يكون من الصعب التنبؤ بالمنحدر الذي ستنزلق إليه البلاد بعد انقلاب الأول من فبراير/شباط. فعلى الرغم من أهمية المواقف الدولية تجاه الانقلاب فإن الواقع يقول أن تراجع الجنرال هيلينغ عن الانقلاب شبه مستحيل.

فالصين وهي الجار الأهم لميانمار والقوة العظمى الثانية قابلة للتعايش مع أي حكومة هناك بسبب كثرة مصالحها الاستراتيجية، وقد تعايشت مع سو تشي المدعوم غربياً من قبل فلن يكون من الصعب أن تتعامل مع الجيش الذي تمتلك نفوذاً واسعاً فيه.

أما الولايات المتحدة فليس لديها الكثير من أوراق التأثير داخل ميانمار سوى العقوبات والقيود، التي لم تمنع الجيش في الماضي من الاستمرار في حكم البلاد وعزلها عن العالم طيلة عقود.

كذلك فإن أزمة كورونا وانعكاساتها الاقتصادية والسياسية على العالم كله وخصوصاً منطقة جنوب شرق آسيا قد عززت من سلطات الدول عموماً وقيدت الديمقراطية والحريات في كل مكان.

ولعل جنرالات ميانمار الآن يصبون نحو جارتهم "الملهمة" تايلند التي استطاع قائد جيشها الجنرال برايوت تشان أو تشا أن يمسك بزمام السلطة عبر حكم مدني-عسكري هجين منذ انقلاب عام 2014. ولم يكن مستغرباً أن يكون أول تعليق للحكومة التايلندية على انقلاب ميانمار أشبه بالتهنئة. وكذلك كان رد الفعل مندول اتحاد آسيانالتي بدأت دولها تتجه منذ اندلاع أزمة كورونا نحو تقييد الحريات وزيادة هيمنة الدولة على سائر مرافق الحياة.

التخويف الأبرز هو أن تنزلق البلاد نحو دوامة حرب أهلية معقدة، إذ تنتشر عشرات آلاف المليشيات المسلحة التابعة لعشرات الأقليات الدينية والعرقية في سائر أنحاء البلاد. واستمرار أزمة كورونا وملحقاتها قد يزيد من فرص انفجار أزمات أمنية كبرى على غرار الصراع في إقليم أراكان، في المستقبل القريب.