لا يكاد يمر يومٌ دون أن يقرأ المتابع، أو يشاهد المشاهد خبراً، أو تحليلاً، أو تصريحاً من الكيان ضد إيران، يليه ردٌ من إيران على الكيان. كل يتوعد الآخر بالويل والثبور وعظائم الأمور، فمن تصريح كوخافي الذي توعد بأن جيش كيانه يعد العدة، ويُحدّث الخطط، ويجمع الموارد تجهيزاً لضرب خمسمئة هدف داخل إيران، راهناً الأمر بقرار سياسي ينتظر صدوره من جهات الاختصاص، فيقابله الناطق باسم القوات المسلحة الإيرانية العميد أبو الفضل شكارجي بتسوية تل أبيب بالأرض إن هي أقدمت على عدوان ضد أراضي الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
أمام هذه التصريحات والتصريحات المضادة يظن المرء أن المنطقة مقبلة على حرب أو هي موشكة عليها، فتكثر التحليلات وتتوالى التقديرات، كل يرى المسألة من زاوية نظر مختلفة عن الآخر؛ إلا أننا في هذا المقال نود أن مناقشة الموقف الإيراني من حيث ما تملكه إيران من نقاط قوة في مقابل غطرسة الكيان الغاصب لفلسطين، مذكرين بأصلين مهمين مرتبطين بمسألة مسار بناء القوات ومراكمة القدرات:
الأول: أنه ليس المهم ــ على أهمية المسألة طبعاً ــ القدرة على مراكمة القدرات أو تعظيمها، وإنما الأهم القدرة على تشغيل هذه القدرات وتفعيلها عند الحاجة لها، وبما يتناسب مع تحقيق الأهداف السياسية التي من أجلها شُغلت هذه القدرات.
الثاني: ليس المهم أيضاً ما تملكه من قدرات، إنما الأهم ما تستطيع تشغيله أو تفعيله عند الحاجة له، فالقدرة لها ما يقيدها، وليس كل ما تملك الدول من قدرات؛ قادرة على تفعيله لتنفيذ المهمات. هذان أصلان مهمان يجب أن لا يغيبا عن ذهن القارئ، أو المتابع أو صاحب الاختصاص الممارس لفعل بناء ومراكمة القدرات وتطويرها والمحافظة عليها من أن تُعطب قبل تشغيلها.
بعد هذه المقدمة السريعة والأصلين السالفين، نناقش أصل عنوان هذه المقالة والمرتبط بعناصر قوة الجمهورية الإسلامية الإيرانية، راجين أن يساعد ما سيرد في القدرة على فهم وتقدير الموقف لمن يهمه الأمر.
سنعتمد على أربعة عناصر رئيسة هي عماد القوة وأصلها والجذر الذي منه تشتق، غير مغفلين أن قياس قدرات الدول يدخل فيه مركبات سياسية، ثقافية، علمية … أكثر بكثير مما سنورد كأصول، الحائل دون ذكرها ــ عناصر قوة الدول ــ كثرتها واختلاف الرأي فيما هو أصل منها وما هو فرع، ولعدم قدرة مقال سريع على الإتيان عليها مجتمعة. العناصر الرئيسة التي سنناقش من خلالها الموقف الإيراني من حيث القوة والضعف مقارنة بالموقف الإسرائيلي هي:
أولاً: البعد الديموغرافي:
لقد جعلنا العنصر الديموغرافي في مقدمة هذه العناصر كون الإنسان هو رأس المال الحقيقي الذي تراهن عليه الدول وتبني به وله ومن أجله الخطط ، وبه ومعه تنجح أو تفشل، إنه العنصر الذي يحوّل باقي العناصر الأخرى إلى قيمة مضافة مخرجٌ خير ما فيها ، مستثمراً النافع منها ومحيداً ما يمكن أن يجلب ضرراً؛ فإيران بلغ عدد سكانها وفقاً لأرقام الإحصائيات العام 2018 81 مليون نسمة، يبلغ معدل الذكور فيهم 51 في المئة ومعدل الإناث 49 في المئة ، كما تعد إيران من المجتمعات الشابة ؛حيث تبلغ نسبة الفئة العمرية ما دون 24 سنة والمتضمنة الشريحة العمرية من 0 إلى 14 سنة ما يقارب 49 في المئة من التعداد السكاني . كما تبلغ الفئة العمرية بين 15 ــ 64 سنة ما يقارب من 70 في المئة من التعداد البشري في هذه البلد موزعين على مجموعة من العرقيات المختلفة ما بين فرس يشكلون 61 في المئة من السكان إلى أذريين تقرب نسبتهم في المجتمع من 16 في المئة إلى أكراد يمثلون 10 في المئة من شعب إيران، فعرب وبلوش كل منهم يحوز نسبة 2 في المئة من السكان، فقبائل تركية لا تزيد نسبتها عن 2 في المئة من السكان.
ولقد نظم الدين الإسلامي هذه الفسيفساء في لوحدة فنية جامعة مانعة، فنسبة 99.4 من السكان يدينون بالدين الإسلامي موزعين على المذهبين الشيعي والسني؛ إلا أن اللافت في هذه التنوع أن هذا الخليط من الأعراق يُجمع على أنه إيراني أولاً، ومن ثم أبن عرقه ثانياً؛ فالقومية الإيرانية مقدمة عندهم على العرقية؛ الأمر الذي جعل من هذا الخليط جسمًا متماسكًا صعب على الخرق، وإن كان كسائر بني البشر لا يحوز الكمال وفيه الغث والسمين.
ثانياً: البعد الجغرافي:
أما عند البعد الجغرافي والتنوع الطبوغرافي الذي يعد من عناصر القوة التي تراهن عليها الدول ، ويحكم مسار بناء قواتها استعداداً وأسلحةً وصنوفاً وانتشاراً فحدث ولا حرج ؛ فمساحة إيران تبلغ 1648195 كم مربع من اليابسة، تلحقها مساحة مائية تصل إلى حدود 116600 كم مربع؛ فإيران تجلس في المرتبة التاسعة عشرة في ترتيب الدول من حيث المساحة كما أنها تعد من الدول الجبلية حيث سلسلة جبال البرز التي تشمل قمة دماوند التي تعد أعلى قمة في منطقة غرب آسيا بارتفاع يبلغ 5671 متر عن سطح البحر ، وتحتضن العاصمة الإيرانية طهران ،وتفصل شمال إيران عن وسطها والجنوب ، وهي ــ سلسلة جبال البرز ــ جزء من سلسلة جبال تمتد على طول شرق إيران حتى تتصل بسلسلة جبال الهندكوش في أفغانستان .
أما السلسلة الأخرى فهي سلسلة جبال زاغروس التي تشطر إيران من شمالها الغربي إلى جنوبها الشرقي، ثم تأتي الهضبة الداخلية التي فيها من الصحاري والسهول التي تحدها شمالاً وشرقاً سلسلة جبال البرز، ومن الشمال الغربي حتى الجنوب الشرقي سلسلة جبال زاغروس، مكونة ــ سلسلة جبال زاغروس ـــ سداً منيعاً أمام أي محاولة اعتداء على إيران من الغرب انطلاقاً من منطقة الخليج العربي.
هذا باختصار شديد توصيف سريع لجغرافية إيران. ولا ننسى أن الشكل الهندسي لإيران يعد من أفضل أشكال الدول، فهي دائرية الشكل مما يوفر لها عمقاً استراتيجيًا مناسباً تنشر فيه مراكز ثقلها البشرية والسياسية والصناعية والعسكرية، فيصعب استهدافها وإلحاق أضرار مميتة فيها.
ثالثاً: البعد الاقتصادي:
إن كانت الدولة مترامية الأطراف، كثيرة السكان، فلا بد لها من موارد اقتصادية تعمر بها الأنسان والبنيان، وإيران في هذا المجال لديها كعب عالٍ في كثير من الركائز الاقتصادية التي تبنى اقتصاداً حقيقياً مستداماً يشكل موردًا رئيسًا لتطوير البلاد والعباد؛ فهي تملك 10 في المئة من احتياط النفط العالمي، حاجزة لنفسها المرتبة الرابعة عالمياً بعد السعودية وفنزويلا وكندا بذخائر نفطية مثبتة تبلغ قرابة 547 مليار برميل.
أما عن الغاز فهي بعد روسيا في ذخائرها التي تبلغ 18 في المئة من الغاز العالمي، وعن المعادن التي تُشغّل المصانع، وتبني البنى التحتية، وترفد خزينة الدولة بالعملات الأجنبية ففي إيران 57 مليار طن من الاحتياطات المعدنية تشمل 21 مليون طن نحاس، و1.2مليار طن فحم حجري، و2.7 مليار طن حديد، و2.6 مليار طن رصاص.
فإذا أضفنا إلى ذلك طريقة العمل التي تنتهجها إيران في ما يخص الإنتاج والتصنيع، وأنها تعتمد على الإنتاج المحلي والتصنيع الذاتي حتى لو قلت كفاءته في سبيل تطوير القدرات والمهارات، وأنها تقوم بعمليات الهندسة العكسية لكثير من المنتجات الصناعية، وأن ما يمارس عليها من حصار منذ انتصار الثورة الإسلامية عام 1979 فرض عليها الانكفاء إلى الداخل والاعتماد على الذات ، فإننا سنرى تجربة محترمة يستفاد منها من دون أن نغفل أنه كما فيها نقاط قوة ففيها نقاط ضعف ، لكن أهم ما فيها أنها محلية، أو كما يقال باللغة الفارسية أنها ( بومى ) أي وطني .
رابعاً: البعد العسكري:
إن هذه الديموغرافية المتعددة الأعراق والأجناس ، وتلك الجغرافيات المترامية الأطراف ، والموارد الاقتصادية التي تُسيل اللعاب ، لابد لها من أيدٍ تدافع عنها، ومؤسسة عسكرية تحميها، ودرع يصد عنها عدو العادين وطمع الطامعين ؛ فكانت المؤسسة العسكرية الإيرانية المركبة من طبقتين : حرس الثورة والجيش النظامي، يعضد بعضها بعضاً، ويكمل أحدهما نقص الآخر ضمن توصيف وظيفي دقيق يعرّف لكل منهما مجال عمله ومنطقة مسؤوليته ، وفيهما من الأسلحة البرية والبحرية والجوية وصنوف الإسناد النارية والإدارية الجوية والبرية ما يؤمن المصالح المادية منها والسياسية ، وما يردع العادين ويردهم؛ فهذه الدولة لديها من اللائقين للخدمة العسكرية ما يقارب 1.4 مليون شخص سنوياً ، ولديها في عديد القوات العاملة ما يقارب 545 ألف جندي يردفهم في الاحتياط ما يقارب 1.8 مليون شخص، بميزانية سنوية لا تقل قدرتها عن 6.3 مليار دولار حسب أرقام 2015 . فلا تعوز هذه المؤسسة الموارد المادية أو البشرية مترافقة مع الإرادة السياسية للبناء في وقت السلم، وقرار التشغيل عند الحرب.
فأين من هذه الدولة المترامية الأطراف ذات التاريخ الذي يرجع إلى آلاف السنين الغابرة، أين منها دولة الكيان الصهيوني التي أنشئت في غفلة من زمن ، لا تكاد مساحتها تساوي مساحة بعض محافظات إيران، فاقدةً للعمق الإستراتيجي، محاصرةً من الخارج ، تحمل في أحشائها سبب موتها بما فيها من تناقضات عرقية ومذهبية ودينية ، يطاردها أبناء الجيل الثاني ممن احتلت أرضهم في كل حي وكل مخيم ، قال فيها وفي سكانها ربنا سبحانه " تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى"، ولولا حبل الله الذي يمدهم به لحكمة يعلمها سبحانه ثم حبل الناس الذي مُد لهم اتقاء شرهم ودفعاً لهم عن الأماكن التي خرجوا منها، فلا يعودوا إليها فيفسدونها كما أفسدها أجدادهم السابقين، لولا هذه وتلك لما بقيت إلى الآن ولما طال عليها الزمان .