رفع الأميركيون والأوروبيون والاسرائيليون منذ فترة مستوى القلق من احتمال انتاج إيران قنبلة نووية. ولا يستبعد الخبراء ذلك، رغم النفي الايراني. لكن هذا فعلا هذا هو مكمن القلق من إيران، ام قدراتها المتنامية رغم الحصار والعقوبات، ودورها المستمر بالتوسع رغم محاولات التطويق. وما العمل اذاً حيال دولة تكيّفت مع كل التقلّبات؟
إيران ذات الـ 83 مليون مُستهلك، تخطّت أسوأ حصار وعقوبات فُرضت عليها منذ ثورتها، وأعادت رفع نموها الاقتصادي، رغم التراجع الكبير بسعر العُملة (التي فقدت 85% من قيمتها مقابل الدولار)، بينما انتهى عهدُ مُحاصِرها الرئيس الاميركي السابق دونالد ترامب بصورةٍ سوداء قاتمة.
يقول تقرير مُفصّل نشرته صحيفة "لوموند" الفرنسية أمس التالي:
لم تُثمر "العقوبات القصوى " التي فرضتها إدارة ترامب على إيران سوى جزئيا، فبعد تراجع الناتج القومي الخام من 6،5 % عام 2019 و5 % في العام التالي، هذا صندوق النقد الدولي يتوقع نموا بنسبة 3،2 بالمئة للعام الحالي، بالرغم من أن نسبة التضخم تخطت 30 % والبطالة 12،4 بالمئة.
حققت إيران آداء جيدا في إدارة الأزمة الصحية المرتبطة بكوفيد 19 (كورونا) وهو ما أكدته أرقام البنك الدولي.
صمود الاقتصاد تحقق من خلال إجراءات أعقبت عقوبات ترامب، فطهرن التي توقّعت انخفاض تصدير النفط، منعت منذ حزيران 2018 استيراد آلاف المواد الاستهلاكية وبينها الغذاء والملابس والسيارات ومواد التنظيف والتعقيم.
أوقف النظام تدخله في السوق السوداء ما ادى الى إرتفاع جنوني لأسعار العملات الأجنبية. وإذا كان هذا الأمر قد أفرع جيوب الطبقات المتوسطة والفقيرة، فانه سمح للانتاج المحلّي بأن يفرض نفسه في مواجهة منافسيه الأجانب، وصارت ماركة "صُنع في إيران" تحتل الأسواق لمواجهة الاسعار الباهظة للسلع الاجنبية.
تولى حرّاس الثورة الى جانب الشركة الوطنية للنفط " بيتروبارس" تطوير مشروع " جنوب بارس" الذي فرض نفسه بعد العملاق الفرنسي "توتال" والصيني " تشاينا ناشونال بتروليوم" اللذين توقفا عن العمل خشية العقوبات الاميركية.
ارتفعت قدرة تكرير النفط بنسبة 30 % تقريبا قياسا لما كانت عليه قبل 10 سنوات.
ارتفعت نسبة تصدير المواد الزراعية والغذائية الى 13% بين آذار وأيلول 2020، لتصل الى 2،6 مليار دولار، وكان في مقدمة الزبائن، الصين والامارات العربية، وتركيا والعراق وأفغانستان
رفعت إيران من تجارة المواد غير المشمولة بالعقوبات، فكانت مثلا تُنتج في العام 2018 ما بين 6 الى 7 ملايين طن من القريدس، بينما تخطّت اليوم 36 مليون طن
رغم الحصار على النفط، فان طهران تصدّر 1،5 مليون برميل يوميا وفق الشركة الاميركية TankerTrackers، أو أكثر من 514 ألف برميل وفق خبراء آخرين.
الاتفاق النووي في خطر؟
في 21 شباط الجاري، من المُفترض أن تمنع إيران المفتشين الدوليين من مراقبة منشآتها النووية وفق ما طلب منها البرلمان وترفع نسبة تخصيب اليورانيوم. هذا يعني خروجها من الاتفاق النووي، واستصدار موقف اميركي-أوروبي ضدها. لكن ثمة من يعتقد أن هذا الإجراء هو لتحسين شروط التفاوض وليس لخرق الاتفاق الذي يحتاجه الجميع.
بهذا المعنى يُمكن فهم تخفيف وزير الخارجية الايراني محمد جواد ظريف من أهمية هذه الخطوة الايرانية بقوله: "ان هذا لا يعني اغلاق الباب كليا، لأنه إذا ما عادت أميركا وشركاؤها الى الاتفاق واحترموه تماما، فان إيران تستطيع التراجع عن قراراتها".
كلٌّ من طهران وواشنطن ينتظر أن يخطو الآخر الخطوة الأولى: إيران تريد رفع العقوبات الأميركية أولا، وأميركا تطالبها بوقف التخصيب والعودة الى الاتفاق اولا. بين العاصمتين تنشطُ أكثر من وساطة أوروبية واقليمية. ويجاهد المبعوث الأميركي روبرت مالي، وهو أحد مهندسي الاتفاق النووي، لدفع الأمور نحو شيء من الايجابية. يتفاءل بعض الوسطاء بامكانية الحلحلة قبل الانتخابات الرئاسية الايرانية في الصيف، بينما يقول بعضها الآخر إن استمرار التشدد الايراني يخدم شعبية المحافظين في الانتخابات، ويسمح لإيران بتطوير برامجها النووية. ولذلك نرى من الجانبين الاميركي والايراني رفعاً لمستوى بازار الشروط وشد الحبال.
القنبلة وهم أم حقيقة؟
لا شيء يُشير "رسميا" حتى الساعة الى عزم إيران على تصنيع القنبلة. فلا الوكالة الدولية للطاقة وجدت ما يثير القلق، ولا السلطات الإيرانية تراجعت عن مقولتها الشهيرة بأن القنبلة تناقض الابعاد الانسانية والاخلاقية والدينية. لكن لا شيء يُشير كذلك الى عدم القدرة او الرغبة بالتنصيع.
قبل نحو اسبوع أعلنت الوكالة الدولية للطاقة الذرية أن إيران بدأت بتخصيب اليورانيوم الثقيل في خرق لالتزاماتها في الاتفاق النووي. وكشفت عن 3،6 غرام من هذا اليورانيوم في اصفهان.لكن هذا ما كانت السلطات الايرانية قالت انها ستفعله، وهو بعيد جدا عن القدرة على انتاج القنبلة.
مع ذلك فان صحيفة وول ستريت جورنال تقول ان هذا النوع من اليورانيوم قليل الفائدة خارج الاستخدام العسكري، ذلك انه عديم القيمة في مجال الطاقة. ولكن الخبراء يقولون انه مع 200 الى 250 كيلوغراما من اليورانيوم المخصب بنسبة 20 %، يمكن انتاج 25 كيلوغرام من اليورنايوم بنسبة تخصيب 90 بالمئة، وإيران تمتلك اليوم 2.443 كيلوغراما من المخصّب بنسبة تتراوح ما بين 3،67 و4،5 % لتصنيع قنبتلين نوويتين.
مع ذلك فان اليورانيوم لوحده لا يكفي، فهو باحجة لصواعق تفجير وانشطاروصواريخ قادرة على حمل رؤوس نووية. لذلك فان بعض الخبراء يقولون ان إيران بحاجة الى ما بين عامين و3 أعوام إذا ما كانت قد بدأت فعلا بالتصنيع، بينما يشير آخرون الى ان انتاج قنبلة نووية متواضعة يُمكن ان يتم في خلال عام واحد.
هذا بالضبط ما يُشير اليه المسؤولون الاميركيون والاسرائيليون منذ فترة. ففي مطلع هذا الشهر، قال انتوني بلينكن: "إذا ما واصلت طهران خرق الاتفاق النووي على الوتيرة الحالية، فقد تفصلها أسابيع معدودة عن امتلاك المواد اللازمة لصناعة قنبلة نووية".
كان هذا أول تصريح بهذه الخطورة من مسؤول أميركي رفيع، بينما كان وزير الخارجية الفرنسي جان ايف لودريان، قد استبعد ان تمتلك إيران اسلحة نووية قبل عام على الاقل.
ليس معروفا تماما بعد، ما إذا كانت التصريحات الاميركية والاوروبية حول القنبلة النووية الايرانية العتيدة مستندة الى تقارير استخباراتية موثوقة أم انها من نوع التهويل الذي سبق غزو العراق، او انها تلاقي الدعاية الاسرائيلية، لكن الجميع متفق، بلا أدنى شك، على ان العودة الى الاتفاق النووي هي الطريق الوحيد لمنع إيران من الحصول على قنبلة.
هل القنبلة هي المخيفة؟
لنفترض أن إيران صنّعت قنبلة نووية بمساعدة دول خارجية. فضد مّن ستسخدمها؟ ضد اسرائيل، فتقتل نصف الشعب الفلسطيني أيضا، أم ضد الخليج أم ضد أميركا؟ ولو استخدمتها، فكم قنبلة نووية ستنهار عليها؟
هذه الاسئلة ذات الاجابة الواضحة حول ضيق هامش المناورة بالقنبلة، تفتح المجال واسعا للتركيز على الهدف الأول: أي الاسلحة الاستراتيجية والصواريخ الباليستية والدور الايراني في المنطقة، والتقدم العلمي والتكنولوجي والسيبراني الكبير الذي حققته إيران. فالدولة التي انفقت في العام 2011 فقط أكثر من 6 مليارات دولار على البحث العلمي، وصارت الأكثر نموا في مجال انتاج العلوم وفق تقرير طومسون-رويترز، طوّرت في السنوات الماضية كثيرا مجالاتها الالكترونية، وقال بنيامين نتنياهو أكثر من مرة أنها الدولة الأكثر تهديدا لاسرائيل في هذا المجال وأنها هاجمت منشآت اسرائيلية مرارا، رغم انها هي أيضا تعرضت لهجمات خطيرة من قبل اسرائيل خصوصا في منشآتها النووية.
هذه المجالات الصاروخية الاستراتيجية والباليستية والدور الاقليمي لإيران، هي التي تُريد أميركا وأوروبا ودول خليجية واسرائيل أن يتناولها بايدن في اي عودة للاتفاق النووي. لكن طهران ترفض ذلك رفضا قاطعا على الاقل في العودة الأولى الى الاتفاق.
الخلاصة:
كل ما تقدّم يُشير الى ان الحصار والعقوبات لم تمنع إيران من تحقيق قفزات نوعية في مجالات عسكرية واقتصادية وتنموية، والى أن عدم اعادتها الى التفاوض يفاقم خطر التقدم نحو القنبلة النووية ولكن أيضا نحو تطوير مزيد من الاسلحة الاستراتيجية وتوسيع دورها، خصوصا ان دولا كبرى مثل الصين وروسيا بدأت بعقد تحالفات عميقة معها.
فالخياران المُتاحان بالتالي هما: اما نجاح الوساطات والعودة الى التفاوض بشروط مناسبة أميركياً وايرانياً، ثم تطوير أو عدم تطوير هذا التفاوض الى الأسلحة الاستراتيجية ودور إيران، أو اتخاذ قرار بالحرب تبدأها اسرائيل ويكملها الأطلسي.
لا شك أن خيار التفاوض هو الأسلم والأكثر عقلانية والأقل كوارثية على الجميع، وهذا بالضبط ما يُقلق إسرائيل ودولٌ حليفة لأميركا رغم كل التطمينات حول مستقبل التفاوض التي ينقلها موفدون أميركيون واوروبيون الى تل أبيب ودول الخليج.
فهل أن اسرائيل التي تهاجم سيبرانيا الأراضي الايرانية وعسكريا قواعد ايرانية أو لحزب الله في سوريا، وتقتل العلماء الايرانيين، ستقبل بالأمر الواقع لو ذهب بايدن الى التفاوض؟ أم تسعى لقلب الطاولة عسكريا كخيار لا بد منه؟
الجواب صعب. ذلك ان ثمة مصلحة كبرى أميركية وايرانية بالتفاوض لا بالحروب. أما عربيا فلم يظهر بعد أي مشروع جدّي يمنع إيران من توسيع دورها أو يعيدها الى الحوار الإقليمي الذي سيكون في نهاية الأمر مفيدا للجميع رغم عمق الشرخ حاليا. فالذين ينسّقون معها تحت الطاولات أكثر من الذين يواجهونها علنا.