في 8 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، قُبيل انطلاق المشاورات النيابية لتكليف رئيس وزراء بمهمة تشكيل حكومة جديدة، تلقّى سعد الحريري، الشخصية السياسية السنّية الأولى في لبنان، دعوة من الإعلامي البارز مارسيل غانم للإطلالة في برنامجه الحواري. وكان الهدف الأساسي الذي توخّاه غانم معرفة مدى استعداد الحريري للحلول مكان رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب.
كان التوقّع في البداية أن الحريري سيرفض، ولا سيما أن السعودية، الراعي الإقليمي الأساسي له، لا تريده على الأرجح أن يؤمّن غطاءً لما تعتبره المنظومة التي يهيمن عليها حزب الله. ولكن الحريري لم يكتفِ بالموافقة على تسميته رئيسًا لمجلس الوزراء، بل اعتبر، بوصفه الشخصية السياسية السنّية الأقوى في البلاد، أنه المرشح الطبيعي للمنصب الذي هو من حصّة السنّة في النظام الطائفي اللبناني.
لكن كلام الحريري ذاك المساء تضمّنَ أيضًا رسالة لم يجرِ التوقف عندها بالقدر الكافي. فقد سُئل عن حليفَيه السياسيَّين السابقَين، السياسي المسيحي الماروني سمير جعجع والزعيم الدرزي وليد جنبلاط، اللذين عارضا الحريري في الأشهر السابقة. وردّ الحريري بتوجيه تحذير مبطَّن إلى جعجع وجنبلاط اللذين ينتميان إلى طائفتَين أصغر عدديًا، مفاده أنه إذا توصّل هو، بوصفه سنّيًا، إلى اتفاق مع الحزبَين الشيعيين الأساسيين، حزب الله وحركة أمل، فبإمكان ممثّلي الطوائف الأخرى الانضمام إليهم إذا أرادوا، لكنه سيمضي قدمًا بالاتفاق حتى لو لم يفعلوا ذلك.
لذا، وفي خطوةٍ غير مفاجئة، بعد يومَين من إطلالة الحريري الإعلامية، اصطف جنبلاط الذي لطالما كانت ردود فعله مقياسًا جيدًا لاتجاهات السياسة اللبنانية، إلى جانب الحريري الذي كلّفه مجلس النواب تشكيل حكومة في 22 تشرين الأول/أكتوبر. فقد أدرك جنبلاط أن التوافق بين السنّة والشيعة قد يؤدّي إلى عزل الطوائف الأخرى ومنها الطائفتان الدرزية والمارونية.
ومع أن عملية تأليف الحكومة تُراوح مكانها منذ أشهر، لم يعدل الحريري عن رغبته في تشكيل حكومة جديدة قائمة على شراكته مع الثنائي الشيعي. وعندما سأله غانم عن إمكانية نجاح البرنامج الإصلاحي الحكومي الضروري لتلقّي أموال المساعدات الخارجية للبنان، أجاب الحريري بأن هذا هو السؤال الأساسي الذي يوجّهه إلى حزب الله. بعبارة أخرى، كان الحريري يناشد بوضوح الحزبَين الشيعيين دعم أجندته.
ترتكز مقاربة الحريري على الالتباس الذي يشوب علاقاته مع السعوديين. صحيحٌ أنه لن يُقدِم أبدًا على القطيعة مع الرياض، ولا يمكنه تحمّل تبعات ذلك، إلا أنه سعى إلى توسيع هامش المناورة المتاح له. ولا شك أنه يتذكّر الإذلال الذي تعرّض له على أيدي السعوديين في العام 2017 حين احتُجِز في المملكة رغمًا عنه بحسب ما أُشيع. ولكن موقفه اليوم يبدو نابعًا من شعوره بأن علاقته مع المملكة قد تعود على الطرفين بفائدة أكبر إذا ضغط أكثر، مثلما فعل والده في السابق. ويدرك الحريري أيضًا أنه إذا بقي خارج رئاسة مجلس الوزراء لفترة طويلة، فسيخسر قيمته كليًا في نظر السعوديين، ما يعني نهاية مسيرته السياسية.
ولم يُعطِه السعوديون سببًا يحول دون تجاهله لرغباتهم، بعد استبعاده سياسيًا في الأعوام الأخيرة. ولكنهم في الوقت نفسه لم يعربوا علنًا عن معارضتهم لحكومة برئاسته. فقد ردّد سفيرهم، في مجالسه الخاصة، أن على الحريري أن يضع برنامجًا محدّدًا إذا أراد ترؤس الحكومة. وبدا أن الحريري استوفى هذا الشرط حين قال لغانم إنه يرمي إلى تشكيل حكومة جديدة تعمل على تنفيذ خطة الإصلاح الاقتصادي التي وضعتها فرنسا للبنان وطرحَها الرئيس إيمانويل ماكرون في أيلول/سبتمبر الماضي.
إضافةً إلى ذلك، يبدو أن الحريري يتمتع راهنًا بدعم كبير في أوساط السنّة في الداخل اللبناني، ويُعزى ذلك جزئيًا إلى خلافاته مع رئيس الجمهورية ميشال عون وصهره جبران باسيل بشأن صلاحيات رئيس مجلس الوزراء في تشكيل الحكومة. فقد ساهم عون في تعزيز مكانة الحريري داخل طائفته، من خلال تشديده على أن رئيس الجمهورية شريكٌ لرئيس مجلس الوزراء بالتساوي في عملية تأليف الحكومة، ما يرفضه بشدّة عدد كبير من السنّة. المفارقة إذًا هي أن الحريري يعوِّل على الدعم السنّي لتيسير التقارب مع حزب الله وحركة أمل اللذين يعارضهما معظم السنّة.
ثم، ما معنى تطلّع الحريري إلى شراكة سنّية-شيعية، وعلامَ يمكن أن يستند ذلك؟ تكمن إحدى أولويات الحريري في عزل باسيل الذي يسعى، بوصفه أحد السياسيين الموارنة البارزين، إلى خلافة عون في رئاسة الجمهورية، وهو يتحمّل المسؤولية الأكبر في تقويض حكومة الحريري الأخيرة. يعتبر الحريري أنه إذا نجح في عزل باسيل، فسيصبح في موقعٍ يخوّله أن يوصل إلى سُدة الرئاسة مارونيًا آخر تجمعه به علاقات جيدة، مثل سليمان فرنجية الذي قد يمنح الحريري ربما هامشًا أكبر للتحرك كما يشاء.
ولكن هذا يستند إلى مغالطتَين محتملتين. الأولى هي افتراض أن فرنجية، في حال انتخابه رئيسًا، سيبقى كما كان قبل الرئاسة، أي صديقًا للحريري ومعاديًا لباسيل، لكن لا شيء يضمن ذلك. فعلى سبيل المثال، في حال سعى فرنجية إلى تحسين العلاقات اللبنانية مع النظام السوري الذي لطالما كان مقرّبًا منه، فقد يصبح الحريري عالقًا بين رغبة الرئيس من جهة وبين الناخبين السنّة الذين يعتبرون الرئيس السوري بشار الأسد رمزًا للشر من جهة أخرى. فماذا سيفعل الحريري عندئذٍ؟
قد تكون المغالطة الثانية افتراض أن الحريري يستطيع بناء علاقة مع فرنجية أقوى من تلك التي تجمع فرنجية مع حزب الله. حتى لو كان حزب الله يريد علاقة أفضل مع شخصية سياسية سنّية ذات تمثيل واسع، غالب الظن أن يختار دعم رئيس الجمهورية الأضعف دستوريًا في مواجهة رئيس مجلس الوزراء. لماذا؟ لأن مجلس الوزراء يمثّل السلطة التنفيذية في لبنان، لذا فالضغط على رئيسه يسمح بالتأثير في الأجندة الحكومية.
هل يعني ذلك أنه لا ينبغي على الحريري تعزيز علاقاته مع الحزبَين الشيعيين؟ لا، ليس هذا المقصود، بل ببساطة أنه يخطئ إذا افترض أن هذه الشراكة ستؤمّن له أكثر من هامش بسيط للمناورة في بعض المواقف. وقد يكون ذلك كافيًا للحريري. والسبب هو أن إحدى الرسائل الضمنية الأخرى التي مرّرها في مقابلته مع غانم هي أنه ليس ملتزمًا، في المبدأ، بتطبيق الإصلاح الاقتصادي بقدر ما هو مصمّمٌ على تطبيق إصلاحات لإنقاذ المنظومة ورهانات الطبقة السياسية ومصالحها فيها. وهذا بالضبط ما يريده حزب الله، ولهذا السبب عارض بشدّة الانتفاضة الشعبية التي انطلقت في تشرين الأول/أكتوبر 2019.
الوقت كفيل بمعرفة ما إذا سينجح رهان الحريري، أو ما إذا سيدفع به إلى المسار الأعمى نفسه الذي سلكه في العام 2016، حين خُيِّل إليه أنه يستطيع العمل مع عون وباسيل. فإذا مُني الحريري بفشل جديد سيصبح وحيدًا وستتبدّد صدقيته كليًا.
مايكل يونغ محرّر مدوّنة "ديوان" ومدير تحرير في مركز مالكوم كير– كارنيغي للشرق الأوسط.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الرابطة الدولية للخبراء والمحللين السياسيين وإنما تعبّر عن رأي الكاتب حصراً.