أزمةُ لبنان تتفاقم وتتمدّد وتستولد انفجارات وانهيارات وتعقيدات على جميع المستويات . آخر مواليدها إستعصاء تأليف حكومة جديدة بعد استقالة حكومة حسان دياب منذ ثمانية أشهر. اللبنانيون يأملون اليوم خيراً من عودة التواصل بين رئيس الجمهورية العماد ميشال عون والرئيس المكلّف تأليف الحكومة الجديدة سعد الحريري. ثمة مؤشراتٌ قليلة الى قرب التفاهم بين الرئيسين على تركيبة الحكومة العتيدة. لكن ما من دليل الى قرب انتهاء الازمة المستعصية. لماذا؟
لأسباب عدّة أولها ان لبنان بلد تعددي. تعدديته متجذّرة ومتناسلة. اكثر من 18 طائفة يتنافس ويتصارع امراؤها على المناصب والمصالح والنفوذ ولا يتورعون عن فعل ايّ شيء يقرّبهم من نيلها والمحافظة عليها.
ثانيها إدمان مزمن لدى امراء الطوائف على الإستعانة بقوى الخارج لمساعدتهم على مقارعة خصومهم والتغلّب عليهم مع علمهم ان قوى الخارج لا تساعدهم مجاناً وان لها مطامع في بلادهم وتحرص دائماً على تحصيل "اجورها" بشتى الوسائل ودونما هوادة . هكذا اصبح لبنان على مرّ تاريخه ساحة صراعٍ بين لاعبين محليين ولاعبين أجانب.
ثالثها ان الكيان الصهيوني المدعوم من الغرب الأطلسي ، ولاسيما من الولايات المتحدة ، يعيش حالةً من الإضطراب السياسي لمناسبة قرب إجراء الإنتخابات النيابية والقلق الامني من تنامي قدرات ايران وحلفائها في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين المحتلة ، خصوصاً بعدما تأكّد قادة الكيان من ان عدوه اللدود ، حزب الله ، أصبح يمتلك من الصواريخ الدقيقة ما يهدد أمنه القومي في عمقه البشري والإقتصادي ويستوجب الضغط على الأم الرؤوم ، اميركا ، لمشاركته في مواجهة ايران وحزب الله او الإجازة لـِ "اسرائيل" منفردةً بمهاجمة مواقع صواريخ المقاومة الدقيقة التي تزعم ان حزب الله يُخزّنها بين منازل الناس في البلدات والقرى.
ازدادت الامور تعقيداً بتعاظم مخاض لبناني محلّي وآخر اقليمي بفعل تطورات هزّت العلاقات الدولية وأنجبت متغيرات عميقة في موازين القوى الإقتصادية والعسكرية في العالم عموماً ودول غرب آسيا خصوصاً وانعكست تالياً على الاوضاع الداخلية كما على الصراعات السياسية والإقتصادية فيما بينها.
إن نظرةً متأنية الى واقع الحال في منطقة غرب آسيا الممتدة من شواطيء البحر الابيض المتوسط غرباً الى شواطيء بحر قزوين شرقاً تكشف وجود ثلاث دول اقليمية قوية : ايران وتركيا و"اسرائيل" ، وان كلاًّ منها له مصالح ومطامح اقليمية ودولية.
ايران تتنامى بسرعة قياسية ارتقت معها الى مستويين تكنولوجي ونووي متقدمين الامر الذي اقلق "اسرائيل" كما الولايات المتحدة.
تركيا تقوّت عسكرياً وتسعى الى مضاعفة قدراتها الإقتصادية بالسيطرة على مكامن النفط والغاز في الحوض الشرقي للبحر المتوسط ما وضعها في حال صراع مع اليونان وقبرص اليونانية و"اسرائيل" ومصر، وربما مع سوريا ايضاً.
"اسرائيل" تمضي في التوسع بإستيطانها واحتلالها مناطق في محيطها الجغرافي الامر الذي يهدد فلسطين المحتلة في ما تبقّى من الضفة الغربية وقطاع غزة، ولبنان وسوريا والاردن ، وتهدد بالتصدي عسكرياً لإيران بقصد تقويض منشآتها النووية .
ثمة مخاضٌ إقليمي تخالطه تدخلات سياسية وعسكرية ضمنية حيناً وسافرة حيناً آخر من طرف الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا وبريطانيا، وتتهيأ الصين للمشاركة فيه إقتصادياً من خلال تنفيذ مخططها المعروف بإسم "الحزام والطريق".
هذه المخاضات والصراعات المحتدمة اقليمياً تنعكس على دول غرب آسيا ولاسيما على لبنان وسوريا والعراق وقطاع غزة.
لعل لبنان اكثر دول غرب آسيا تأثراً بالمخاضات والصراعات المحتدمة في هذه الآونة والمتجلّية في محاور خمسة:
نزوعُ "اسرائيل" ومن ورائها الولايات المتحدة الى إضعاف حزب الله بإستبعاده عن عضوية الحكومة الجديدة المراد تشكيلها في لبنان. ويبدو ان بعض دول الخليج يسعى ضمناً الى الغاية عينها.
حرصُ ايران على دعم حزب الله والحؤول دون تطويقه وعزله بقوى سياسية لبنانية موالية للولايات المتحدة .
حرصُ روسيا على عدم استيلاء حلفاء اميركا المحليين على السلطة في لبنان وعلى تعطيل مسار إستعداء سوريا ، كما حزب الله ، وحلفائهما المحليين.
احتدامُ الصراع بين القوى السياسية المحلية على السلطة والمصالح من جهة ، ومن جهة اخرى توافق معظمها على تعطيل الزخم الشعبي الداعي لتفعيل التحقيق الجنائي في قضايا تفجير مرفأ بيروت ، والاموال العامة المنهوبة كما الاموال الخاصة المحوّلة الى الخارج بوتيرةٍ مخالفة للقانون، ومنع الإصلاح السياسي والاداري والاقتصادي ، ولاسيما ما يتصل بركائز نظام الليبرالية الإقتصادية المتوحشة وقانون الإنتخابات.
الصراعُ على مواقع السلطة والنفوذ، ولاسيما رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس النواب ورئاسة مجلس الوزراء والحقائب الوزارية ذات الطابع السيادي.
وعليه ، لا مجال لتشكيل حكومة جديدة إلاّ بعد التوافق بين كبرى القوى الإقليمية المتصارعة ومن ورائها دول عظمى تدعم بعضها وتناوىء بعضها الآخر. حتى لو امكن التوصل الى تسوية في هذا الشأن ، فإن التركيبة الحكومية الجديدة لن تدوم طويلاً، ولا سيما بعد اقتراب موعد البت بإستحقاقين بالغي الأهمية : الإنتخابات النيابية في شهر ايار/مايو سنة 2022 وانتخاب رئيس الجمهورية الجديد في شهر تشرين الاول/ اكتوبر من السنة ذاتها.
الى ذلك كله ، يبقى سؤال بالغ الأهمية : كيف سينفذ حزب الله وحلفاؤه القرار بالتوجّه شرقاً تفادياً لمخاطر الجوع والضائقة المعيشية والفوضى في حال اخفق رئيس الجمهورية العماد ميشال عون والرئيس المكلف سعد الحريري في تشكيل الحكومة المرتجاة خلال ايام قليلة عصيبة؟