في لبنان، هذا البلد المسكون بالقلق الوجودي لكيانه وطوائفه وأحزابه وفئاته منذ ولادته قبل مئة عام، قلما يمر حدث - مهما كان صغيراً - من دون أن يستثمر في الصراع السياسي المتفجر بين مكوناته، كما بين القوى الخارجية المتصارعة على اللعب فيه وبأمنه وبرسم مستقبله، فكيف إذا كان هذا الحدث هائلاً إلى درجة انفجار حوالى 2750 طناً من مادة نيترات الأمونيوم في قلب عاصمته، وفي الميناء الأساس فيه.
الاستثمار السياسي للأحداث في لبنان
شهدت البلاد استغلالاً سياسياً للأحداث الأمنية في محطاتٍ كثيرة بعد الحرب الأهليَّة التي انتهت مع بداية التسعينيات من القرن الماضي. الأطراف السياسيّة كانت تستغلّ اغتيالاً ما، أو انفجاراً ما، أو عملاً إرهابياً ما، لحشر خصومهم وإحراجهم وتحقيق نتائج سياسية معينة.
وفي المرحلة التي تلت اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري في شباط/فبراير 2005، ازدهرت عادة تسييس الأحداث الأمنية، وتم الاستثمار في كلّ حدثٍ جرى بعد ذلك، وتأسَّست عليه نتائج سياسية غيَّرت كثيراً في المسارات السياسية التي اتخذتها البلاد في وقتٍ لاحق، بدايةً من استقالة حكومة الرئيس عمر كرامي يومها، وتالياً من خلال الصراع السياسي الهستيري الذي شهدته البلاد، حتى التوصّل إلى "اتفاق الدوحة" الذي انتخب بعده ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وشُكّلت بعده حكومة الرئيس سعد الحريري الجامعة.
لكن هذا الاستثمار السياسي في الدم والمصائب لم يتوقف على أحداثٍ أمنية من هذا النوع، بل امتد ليشمل استغلال الحرب الإسرائيلية على لبنان في صيف العام 2006 وتسييسها. وبدلاً من الاتحاد خلف عوامل القوة الوطنية وزيادتها وتحصينها بالوحدة الوطنية، ذهبت قوى لبنانية خلال الحرب وبعدها إلى اتهام المقاومة اللبنانية بافتعال الحرب، والتسبب بالخسائر الناجمة عنها، وأخذ لبنان إلى الدمار، متناسين التاريخ الإجرامي لـ"إسرائيل"، والتصريحات الاستفزازية والتهديدات والخروقات الإسرائيلية اليومية للبنان، بل أكثر من ذلك، تغاضت القوى السياسيّة المناهضة للمقاومة عن تحقيقات لجنة "فينوغراد" الإسرائيلية حول أسباب الحرب وهوية المقرر فيها، وتابعت حملة الاستثمار السياسي ضد المقاومة.
واليوم، ليست جديدةً محاولة الاستغلال السياسي للانفجار المهول الّذي شهده مرفأ بيروت في الرابع من آب/أغسطس الحالي، لكن هول الحدث وحجمه ووصول شهدائه وجرحاه وخسائره وآثاره المادية والنفسية إلى كل بيت في لبنان، كلها معطياتٌ تجعل من الاستثمار السياسي للحدث سلوكاً غريباً يتطلّب استعادة بعض الحقائق، لوضع التفجير الكبير في السياق المنطقي للأحداث، بغية البحث عن حقيقة الأمر واستشراف مسار الغد القريب.
السياق السياسيّ السابق للتفجير
تترابط الأحداث في لبنان بصورةٍ أكثر تعقيداً نسبة إلى دول أخرى في المنطقة. ويعود ذلك إلى طبيعة التركيبتين السياسية والمجتمعية له، وتداخل العوامل الداخلية والخارجية المؤثرة فيه. لذلك، إن البحث في السياق السابق للحدث يمكن أن يعود بالباحث إلى سنوات خلت، كما أسلفنا، لكن انهيار التسوية الرئاسية بين التيار الوطني الحر وتيار المستقبل قبل حوالى سنة من الآن، واندلاع حراك شعبي بعد ذلك في 17 تشرين الأول/أكتوبر من العام الماضي، يمكن أن يكون بداية مسارٍ خاص مرتبط بالتفاعلات السياسية التي تجري اليوم بصورةٍ عضوية مباشرة.وبعد ارتفاع منسوب التوتر السياسي بين التيارين، تداعت التسوية بينهما، بالتزامن مع تصاعد قوة الضغوط التي فرضتها الولايات المتحدة على إيران وحلفائها في المنطقة ضمن استراتيجية "الضغوط القصوى" التي أعلنها الرئيس الأميركي دونالد ترامب. وسريعاً، بدأ الانهيار الاقتصادي في لبنان، بداية من تحرك سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار في أيلول/سبتمبر 2019 لأول مرة منذ 26 عاماً، بخسارة الليرة يومياً قدراً من قيمتها من 1500 ليرة مقابل الدولار الواحد، وصولاً إلى ما يقارب 10000 ليرة مقابل كل دولار، في أقصى نقطة وصل إليها (حتى الآن).
وبين تشرين الأول/أكتوبر 2019 واللحظة السابقة للانفجار، شهدت البلاد أحداثاً عديدة مهمة. استقالت حكومة سعد الحريري "استجابةً لمطالب الثوار"، كما قال رئيسها، وتشكلت حكومة مستوحاة من مطالب المتظاهرين، من وزراء غير سياسيين لم يسبق لهم أن شغلوا مواقع وزارية (باستثناء رئيس الحكومة ووزير البيئة)؛ حكومة كفاءات من غير الحزبيين، نالت ثقة المقاومة وحلفائها في مجلس النواب، من دون ثقة الفريق الآخر الذي تبرأ من مشاركته في السلطة لـ27 عاماً، ولبس خطاب الثورة، ونزل مناصروه بين الثوار، بل كانوا الوقود الدافع في معظم الأيام الحامية في مسار التظاهرات، من قطع الطرقات، ومهاجمة المقرات الرسمية، ومحاولات متكررة لاقتحام مجلس النواب. وفي كل مرة من هذه المرات، كان البعض يجد من بين الأحداث منفذاً لاستهداف حزب الله، على أنه الراعي للسلطة القائمة، برئاساتها ومؤسساتها الرسمية.
لقد تصرف فريق 14 آذار على أنه لم يمارس السلطة يوماً، وأنه كان على الدوام معارضاً، وأن فريق المقاومة هو الذي تسلم السلطة خلال العقود الثلاثة الأخيرة، ووضع عبء ما يقارب 100 مليار دولار من الديون على البلاد على كاهل المقاومة وحلفائها، علماً أن السياستين المالية والاقتصادية أديرتا من قبل الأحزاب الأساسية في فريق 14 آذار طوال الفترة الماضية، بينما لم يسمح للفريق الآخر بالمشاركة فيهما إلا في السنوات الخمس الأخيرة، وبصورةٍ جزئية.
لكن مساراً موازياً آخر كان يسير إلى جانب المسار السياسي الذي يحاول إسقاط النظام السياسي، وهو مسار صدور القرار الابتدائي في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري. لقد سارت الأحداث بعنايةٍ ما، في نسقٍ تصاعدي من 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019 وباتجاه شباط/فبراير 2020، وهو الموعد الذي كان مقرراً لصدور الحكم، علماً أن المتهمين الأربعة الأساسيين هم من عناصر حزب الله، وقد تمت معاملتهم منذ الإعلان عن اتهامهم معاملة المدان في وسائل الإعلام التابعة لفريق 14 آذار. لقد تعاملت القنوات التلفزيونية التابعة لأحزاب هذا الفريق على قاعدة وضع العربة أمام الحصان، وأن الحقيقة معروفة، ولا حاجة سوى إلى صدور ورقة القرار من المحكمة لمتابعة الاستثمار فيها.
لقد كان لافتاً جداً توقف تلفزيون المستقبل عن البث في أيلول/سبتمبر 2019 (يملكه سعد الحريري نجل رفيق الحريري)، والاستعاضة عن بث البرامج وإنتاجها بإعادة عرض أرشيفه من مرحلة اغتيال الحريري الأب، بما يتضمنه من مآسٍ وتحشيد وتعبئة واستعادة للحظات العاطفية والسياق السياسي والاتهامات القديمة التي أعيد إحياؤها بصورةٍ غير مباشرة، عبر عرضها على أنها أرشيف يعرض ببراءة، بسبب إفلاس القناة وعدم قدرتها على الإنتاج. لقد استعيدت بذلك مشاعر مرحلة اغتيال الحريري، من دون أن يتحمل الحريري الابن وزر حملة سياسية جديدة ضد المقاومة وحلفائها.
ومع دخول (أو إدخال) البلاد في نفق الأزمات الاقتصادية والمالية والنقدية المتسارعة، وخسارة الليرة اللبنانية - وبالتالي القدرة الشرائية للمواطنين - جزءاً كبيراً من قيمتها، وانتشار وباء كورونا في لبنان، وانشغال العالم بمواجهته، تباطأ النشاط "الثوري" محلياً، وتم تأجيل صدور قرار المحكمة إلى 7 آب/أغسطس 2020، وأعطيت الحكومة فرصة الانطلاق بعملها، مع تراجع ملموس وحاد في عدد التظاهرات ونوعها وطبيعتها.
ومع تصعيد استراتيجيّة الضغوط القصوى لنسق ضغوطها على إيران والعراق وسوريا ولبنان، وبالتزامن مع أحداث أمنية غامضة تضرب مرافق أساسية في إيران (مواقع نووية، محطات طاقة، موانئ، مزارع مواشٍ...)، واغتيالات في العراق وسوريا، تم تصعيد النسق الضاغط على الحكومة اللبنانية مع اقتراب السابع من آب/أغسطس؛ موعد صدور قرار المحكمة.
لكن اللافت في هذه الأحداث أنها تسير على سكةٍ واحدة، وباتجاه واحد، وهو محاولة حصار قوى المقاومة في لبنان، بأحزابها ومواقعها الدستورية ووجودها في المواقع الرسمية، حكومةً وبرلماناً، وصولاً إلى المواقع الإدارية والبلديات، وذلك من خلال حملةٍ إعلامية وسياسية ودبلوماسية لحصار كل جهدٍ يمكن أن ينجح عمل الحكومة التي تشكلت. واستمرت هذه الحملة إلى لحظة الانفجار الكبير الذي حصل في مرفأ بيروت، ليتخذ اتجاهاً هجومياً أكثر تصعيداً ووضوحاً مباشرة ضد المقاومة.
إعادة رسم مستقبل لبنان
لا يمكن إعفاء السلطات اللبنانية من مسؤوليتها عن انفجار مرفأ بيروت، لأن تخزين هذه الشحنة من المواد الخطيرة في المرفأ لسنوات عديدة، ومخالفة إجراءات السلامة العامة، وإهمال خطورة ما يترتب على هذه الوقائع، أمور تفرض نفسها في تحميل المسؤولين المباشرين وغير المباشرين في الدولة اللبنانية مسؤولية إصابة ما يقارب 6000 لبناني (والعديد من العرب والأجانب) بين شهيد وجريح.
ومهما كان المسبّب الحقيقي لهذا الحدث الكبير، فإن تقصير السلطات اللبنانية واضح المعالم، لناحية إبقاء هذه المواد الخطرة في قلب العاصمة، وفي قلب مينائها الذي يعدّ أكبر موانئ البلاد، والذي تتم من خلاله الغالبية الساحقة من عمليات التبادل التجاري مع الخارج، ثم إنَّ اندلاع الحريق في عنبر تخزين نيترات الأمونيوم لمدة تقارب الساعة قبل الانفجار الكبير، كان يمكن التعامل معه بصورةٍ مختلفة، من خلال إخلاء الميناء والمناطق المحيطة، لكن كل ذلك لم يتم، بل شهدت تلك الساعة غياباً تاماً لأي دورٍ وقائي حقيقي، باستثناء التضحية البطولية التي قام بها فريق فوج الإطفاء، الذي اقتحم مكان الحدث ودفع حياته في محاولة إخماد الحريق.
لكن لا يبدو أن الأحداث ستقتصر على المطالبة بتبيان التقصير وتحديد المسؤوليات من خلال التحقيقات، بل إن العدالة المطلوبة من قبل جميع اللبنانيين في ملف انفجار المرفأ، تتحول تدريجياً، وبسرعة فائقة، إلى عنوانٍ عريض تستتر خلفه الإرادات السياسية الداخلية والخارجية، التي ترى أن اللحظة الراهنة ملائمة لزيادة الحصار على الفريق الآخر ضمن المسار الذي ذكرناه سابقاً.
ومباشرةً بعد التفجير، تم تأجيل صدور حكم المحكمة الدولية 11 يوماً، من السابع من آب/أغسطس الحالي إلى 18 منه. أحد عشر يوماً يقوم خلالها الفريق المعادي لقوى المقاومة برسم مسار إلباسها ثوب انفجار المرفأ، حتى وإن تم ذلك من خلال اتهاماتٍ متناقضة، فالاتهام بوجود مخزن سلاح للمقاومة في المرفأ، واستخدام الأخيرة لمرفأ بيروت لتهريب السلاح، يتناقض مع الاتهامات الأخرى بتهريب السلاح عبر معابر أخرى غير شرعية، ثم إن الاتهام الآخر للمقاومة بمعرفة وجود هذه المواد في المرفأ مسبقاً، يتناقض مع الاتهام الأول بوجود مخزن لسلاح المقاومة، فهل يمكن لهذه الأخيرة أن تخزن وتنقل أسلحتها فوق ما يشبه القنبلة النووية؟
كما أن الاتهامين يناقضان الاتهام الثالث، وهو سيطرة حزب الله على المرفأ، فلو كان حزب الله مسيطراً على المرفأ، سيكون بإمكانه إخراج أي شيء منه، وإدخال أي شيء إليه، فهل كان سيترك هذه المواد في المرفأ حوالى 6 سنوات، مخاطراً بإمكانية اكتشافها من قبل الأطراف المحليين والعدو الإسرائيلي، أو من قبل قوات اليونيفيل التي تتواجد في المرفأ دخولاً وخروجاً وتنقلاً؟
أما الأهم فهو السؤال عن الصدفة الكبرى التي يمكن أن تتسق مع كل ما جرى، فلماذا خرجت وسائل الإعلام المعادية للمقاومة، محلياً وعربياً ودولياً، لتتحدث عن نظرية تعرض المرفأ لهجوم معادٍ منذ اللحظات الأولى التي تلته؟ ولماذا سارعت القوى السياسية المناهضة للمقاومة إلى المطالبة بتحقيق دولي ومحكمة دولية؟ ولماذا أعطي قرار محكمة الحريري 10 أيام أخرى ليصدر؟ من غير المنطقي أن تكون مهلة هذه الأيام القليلة بهدف تبريد الساحة اللبنانية، لأن الأيام التالية للانفجار تشهد توتراً جنونياً على المستويين الشعبي والسياسي.
وبالتالي، فإن الأقرب إلى المنطق أن تأتي هذه المهلة بهدف تجهيز السياق لدمج المسارين، لتحميلهما لطرف واحد هو المقاومة، وإلا، لماذا خرج ترامب شخصياً ليعزز نظرية الاعتداء أو الهجوم على المرفأ؟
ثمّ إنّ تحرك القوى السياسية اللبنانية المناهضة للمقاومة مع وسائل إعلامها، يشير إلى تصعيد خطير وهستيري في هذا السياق. لقد امتنعت قنوات تنتمي إلى الأحزاب المناهضة للمقاومة عن نقل كلمة السيد حسن نصرالله تلفزيونياً. ورغم أن إحداها بررت فعلها بأنها توقفت عن نقل خطابات كل السياسيين وأنشطتهم، فقد قامت في اليوم التالي بتغطية مشاركة رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع في تظاهرة، كان يفترض أنها تحمل شعار "كلن يعني كلن"، وتشمل باتهاماتها ومطالبها تنحي كل قادة الأحزاب.
لقد خرج الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ليقول في المؤتمر الافتراضي لدعم لبنان: الآن، يتم تحديد مستقبل لبنان. وخلال زيارته إلى بيروت لتفقد مكان الانفجار ولقاء قادة البلاد والأحزاب، دعا إلى عقد سياسي جديد، وزل لسانه بعبارة "نظام جديد"، كما أن ترامب عاد في اليوم نفسه لمشاركته في المؤتمر الافتراضي، ليتساءل ما إذا كان حادث بيروت تفجيراً مفتعلاً!
كل ذلك يترافق مع مؤشرات خطيرة أخرى، ومطالبات بتدخل دولي لفرض شروط حكم جديدة في لبنان، ولتقوية فريق ضد فريق، وكلام كثير تتصاعد وتيرته حول تغيير قواعد عمل قوات الطوارئ الدولية في جنوب لبنان "اليونيفيل"، لتمتد إلى مراقبة الحدود، وتعزيز آليات المراقبة، وإضافة إمكانية استخدامها للطائرات المسيرة فوق الجنوب، وانتشارها على الحدود البرية مع سوريا.
إنَّ الضغط الإعلامي الهائل الذي يتمّ توجيهه ضد المقاومة، تمَّ تزخيمه ورفعه إلى حده الأقصى بعد التفجير، وذلك بموازاة استقالات متتالية من الحكومة ومن مجلس النواب، في سياق حملة مقاطعة للمؤسسات الرسمية، وترك الأمور لتفاعلات الشارع والمنابر الإعلامية والإلكترونية، مع ما يحمله ذلك من مخاطر كبيرة على أمن البلاد.
لقد دخل الغرب بماكينته الشرسة إلى الشارع اللبناني من الكوَّة التي أحدثها التفجير، ليحاول إعادة رسم مستقبل البلاد، وإعادة توجيهه بالقوة نحو الغرب، بعد أن بدا أنَّ خيار التوجه شرقاً ممكنٌ ومجدٍ.
قبل مئة عام، رسم كلّ من سايكس وبيكو مستقبل لبنان. واليوم، هناك ترامب وماكرون، مع فارق أننا لسنا في العام 1920 بل في زمن تغيرت فيه المعادلات محلياً وإقليمياً ودولياً لصالح محور المقاومة.