تشهد أوكرانيا منذ شباط العام 2014 تخبطا سياسيا قاسيا بعد الانقلاب الذي وقع في البلاد بإيعاز وتدخل أميركي أوروبي، وقد أوصلت الفوضى الأميركية الى خروج منطقة شبه جزيرة القرم عن الوصاية الأوكرانية، كما ومنطقة واسعة جدا في شرق البلاد هي الدونباس التي تعرضت لحرب إبادة شاملة وتكبدت فيها القوات الأوكرانية هزيمة نكراء على يد عمال المناجم الاشداء في تلك البقاع. الازمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية تتلاحق بوتيرة متصاعدة في هذه الدولة، التي تعيش فترات متقطعة من الفوضى العارمة.
بعد تفكك الاتحاد السوفياتي في العام 1991 أصبحت أوكرانيا دولة مستقلة وانتقلت لاتباع ما يعرف باقتصاد السوق، لكن الإدارات السياسية المتعاقبة غرقت بشكل كامل في الفساد السياسي ولم تستطع الاستفادة من إنجازات الاتحاد السوفياتي الكبيرة السابقة، فبددتها طيلة قرنين من الزمن، ولم تصنع دولة عصرية بديلة، فانخفض انتاجها المحلي بنسبة 20 بالمئة.
وقد ذكرت المجلة الشهرية الأميركية العريقة "هاربرز ماغازين" ان أوكرانيا أضحت واحدة من أفقر الدول الأوروبية، وبالتعبير الأدق فهي الأقرب بين هذه الدول لدول العالم الثالث النامية او كما ذكرت “failing state”، لقد اضاعت السلطات الأوكرانية بشكل كامل كل الفرص لفرض سيادتها واستقلالها على البلاد وأصبحت شبه مستعمرة أميركية يقرر فيها المسؤولون الاميركيون السياسيون والعسكريون مستقبلها، كما تحولت الى سوق للسلع الغربية الرخيصة بعد ان فتحت البلاد على مصراعيها امام دخول الشركات الغربية التي بدأت بنهب موادها الخام بأسعار بخسة ومقابل بعض الخدمات والبضائع غير المتعادلة بالقيمة والاهمية، وتخلت عن مصانعها العديدة الكبيرة والقت بعمالها في المجهول فتحولوا الى يد عاملة سوداء رخيصة تجوب الاصقاع الأوروبية في سبيل تحصيل لقمة العيش والعمل في الاعمال التي لا يقوم بها أصحاب البلاد الأصليين.
ومن القرارات السياسية التي اتخذتها السلطات: تسعير الحقد والكره لروسيا وللمواطنين من الاثنية الروسية (أكثر من 25 بالمئة من السكان) كما والعمل على تهميش اللغة الروسية واغلاق المدارس التي تعلم بها (مع العلم ان أكثر من 80 بالمئة من السكان يتحدثون باللغة الروسية) ومنع اصدار الصحف والكتب والمؤلفات باللغة الروسية. كل هذه الأمور خلقت تباعدا ومشاكل اجتماعية عميقة، كما وتحديد روسيا كدولة معادية جعل امر تنقل العديد من السكان من والى روسيا امرا صعبا ما خلق تفرقة وتباعدا بين الأقارب من الجهتين.
ودمرت كييف كل العلاقات الاجتماعية كما والاقتصادية والسياسية مع موسكو وجيرانها السابقين واختارت واشنطن ودول الناتو كحلفاء وثيقين، ولذلك راحت تواجه مصاعب وعقوبات لا تعد ولا تحصر. الارتهان الكلي للغرب والفساد وقلة الخبرة والتبعية العمياء للأميركي وعدم الكفاءة، كل هذا أوصل الى انهيار اقتصادي شبه تام في البلاد. فقد أصبحت أوكرانيا دولة يمكن للمرء ان يتوقع منها أي شيء وهذا امر خطير في العلاقات الدولية. فبأوامر مباشرة من المستشارين الاميركيين قضت السلطات الحالية في كييف على كل الصلات الاقتصادية مع روسيا كما وتسعى بإرشادات هؤلاء المستشارين الى تدمير العلاقات مع الصين وإيران، ما أثر بشكل كبير على الناتج المحلي الاوكراني الذي تراجع بشكل كبير، كما وعلى عائدات الميزانية ومستويات المعيشة ما جعل هذه السياسية اشبه بمن يطلق النار على ساقه.
فانسياق أوكرانيا بالكامل وراء الولايات المتحدة ولعبها دور المخرز في يد واشنطن ضد موسكو أضر بها بالدرجة الأولى. مع العلم ان روسيا تحتضن أكثر من 5 مليون مواطن اوكراني يعملون لديها. وللمناسبة فان السلطات المحلية الاوكرانية شردت أبنائها الى مختلف بقاع العالم بحثا عن العمل، ولذلك فمع هجرة الادمغة والعمال المهرة وأصحاب الخبرة خسرت البلاد ركنا أساسيا من اركان اقتصادها، وهو الصناعة، وأصبحت بحاجة لمعجزة اقتصادية حقيقية من اجل التعافي. كما ان معدل الخصوبة في البلاد تراجع بشكل مخيف، فالبلاد تخسر كل عام 400 ألف شخص هو الفارق بين الولادات والوفيات.
لقد أشار العديد من السياسيين الأوكران إلى المحنة التي يعيشها اقتصاد البلاد؛ ومنهم رئيسة الوزراء السابقة، وزعيمة حزب "باتكيفشينا" (الوطن) يوليا تيموشينكو الموالية للغرب والتي ذكرت ان المسار الذي تتبعه السلطات الحالية سيؤدي الى "الانهيار الكامل". بالإضافة إلى ذلك، يطفو على السطح قانون سوق الأراضي المثير للجدل، حيث باع السياسيون الحاليون في صفقات مشبوهة العديد من الأراضي الخصبة والاستراتيجية في البلاد للخارج وبأسعار زهيدة واستولوا على أموالها. كما وصف نائب رادا (البرلمان الاوكراني) من حزب "المنصة المعارضة - من أجل الحياة" فاديم رابينوفيتش، برامج قروض صندوق النقد الدولي لأوكرانيا بالاستسلام الكامل، ورأى زميله في حزبه فيكتور ميدفيدشوك في سياسة السلطات، تحركًا نحو الانهيار الاقتصادي والاجتماعي. في الوقت نفسه، توقع الاقتصاديان مكسيم أوريشاك وسيرغي فورسا سيناريو "أسوأ" للبلاد في شكل انهيار سعر صرف الغريفنيا (النقد الوطني) وصولا الى حد التخلف عن السداد بسبب تقليص التعاون مع صندوق النقد الدولي.
في الوقت نفسه، توقعت وكالة التصنيف الدولية Fitch Ratings انخفاضًا في نمو الناتج المحلي الإجمالي الاوكراني إلى 3.8٪ في العام 2022. ويرتبط هذا بإلغاء الحوافز السياسية في البلاد ووقف برنامج الاستعداد، الذي قدم صندوق النقد الدولي في إطاره الدعم المالي لأوكرانيا على شكل شرائح ائتمانية.
واستبعد رئيس مكتب صندوق النقد الدولي في أوكرانيا يوستا لونغمان في اخر تصريح أدلى به في مقابلة مع وكالة إنترفاكس الأوكرانية تقديم اية قروض جديدة لأوكرانيا في القريب المنظور، وأضاف، من المستحيل الحديث عن أي تنبؤات " الامر يعتمد على مدى سرعة إحراز تقدم في حل المشكلات".
وبعبارة أخرى، في المستقبل القريب لا ينبغي أن تتوقع كييف من الصندوق ليس فقط المال، ولكن حتى الوعود بتخصيص هذه الأموال. وبدلاً من ذلك، أوضح لونغمان، يمكن لكييف دائمًا الاعتماد على "الكلمة الطيبة" والتعاليم الذكية حول الاتجاه الذي يجب أن تتحرك فيه. فهل ستشبع الكلمة الطيبة المواطن الجائع في أوكرانيا ام ستدفئه في فترات الصقيع القوية، خاصة وان رئيس مكتب صندوق النقد الدولي في اوكرانيا دعا إلى التخلي عن دعم أسعار الغاز وأشار الى ان الدائن مطالب بالتقيد بـ "مبدأ نزاهة هيئات مكافحة الفساد والنظام القضائي".
كما ذكرت EADaily، كانت الحكومة الأوكرانية تأمل في أن يواصل صندوق النقد الدولي تخصيص الأموال في الربع الأول من العام 2021. ومع ذلك، قال الممثل الدائم لصندوق النقد الدولي في البلاد، يوستا لونغمان، في شباط الماضي، إن هذا لن يحدث، لأن مهمة الصندوق أكملت عملها في أوكرانيا دون نتيجة.
انفصال السلطات في أوكرانيا عن الواقع الجغرافي والديمغرافي وانتهاجها سياسية العداء لروسيا، سيلحق اضرارا إضافية بكييف قد تصل بعد إطلاق مشروع Nord Stream-2 إلى 3 مليارات دولار (مشروع نورد ستريم - 2 يتضمن بناء سلسلتين من خطوط أنابيب الغاز، بسعة إجمالية تصل الى 55 مليار متر مكعب من الغاز سنويًا ينطلق من الساحل الروسي عبر بحر البلطيق إلى ألمانيا، وقد اكتمل بناء خط الأنابيب هذا الذي تعارضه الولايات المتحدة حتى الآن بنسبة 90٪) وقد عبر عن هذا الرأي وزير الاقتصاد الاوكراني السابق، رئيس مركز إصلاحات السوق فولوديمير لانوفوي، فأشار إلى أن الناس سيصبحون أكثر فقرًا ، حيث تقوم السلطات برفع الرسوم الجمركية على التدفئة والكهرباء والغاز وموارد الطاقة الأخرى. وكشف سيرغي ماكوغون، المدير العام لمشغل GTS الأوكراني، ان حجم نقل الغاز الروسي عبر أوكرانيا إلى أوروبا انخفض بنسبة 38٪ العام 2020 ليبلغ 55.8 مليار متر مكعب، وهو أدني مستوى له خلال العقود القليلة الماضية. وأشار إلى أن خطي أنابيب الغاز نورد ستريم 2 وتركيش ستريم يشكلان تهديدًا لأوكرانيا.
يقود حلف الناتو أوكرانيا نحو مهالك من الصعب التنبؤ بنتائجها، اذ يدفع بالفريق السياسي الذي وضعه في السلطة الى المزيد من توتير الأجواء مع مناطق دونيتسك ولوغانسك حيث يجري الاعتداء العسكري اليومي على سكان هاتين المقاطعتين الاوكرانيتين المحاذيتين لروسيا. فمن جهة يسعى السياسيون الاوكران الى اثارة النزاعات العسكرية الداخلية للتغطية عن سرقاتهم وفسادهم بتشجيع من الاميركيين، كما ومن الجهة الأخرى فان الاميركيين وقادة الناتو ومن خلال هذا التوتير وعبر هذا الدخان والتوتير الذي يثيرونه يسعون الى ادخال صواريخهم الى المناطق الأقرب الى الحدود الروسية، وباختصار يحاولون الدفع بأوكرانيا الى انهيار سياسي واقتصادي وعسكري وامني كامل يسهل معه وضع كل أوكرانيا تحت الأوامر الأميركية المطلقة ويحولها الى قاعدة عسكرية يسهل من خلالها السيطرة الكاملة عليها واستغلالها لتحقيق مأرب الناتو المغرضة.