كتب الأستاذ الجامعي والباحث الكندي أندرو لاثام مقالة في مجلة "ذا ناشونال انترست" الأميركية تناول فيها الأزمة الأخيرة في قناة السويس عندما سدّت سفينة شحن الممر المائي العالمي وعطلت مرور السفن التجارية لنحو أسبوع، كاشفاً أن الصين تفكر بممر مائي بديل عبر القطب الشمالي أقصر مسافة وأكثر أمناً، لتجارتها مع أوروبا والأميركيتين.
وقال الكاتب إن الأحداث التي وقعت في قناة السويس خلال الأسبوع الماضي، ذكّرتنا بأن الممرات البحرية الكبرى في العالم - الشرايين التي يتدفق من خلالها شريان الحياة للاقتصاد العالمي - يتم تحديدها من خلال نقاط الاختناق بقدر ما يتم تحديدها من خلال المياه المفتوحة. وأضاف أن بعض هذه الممرات معروفة جيداً على غرار قناة بنما، ومضيق جبل طارق، ومضيق هرمز، وقناة السويس نفسها. بينما ثمة ممرات أخرى أقل بروزاً في خيالنا الجغرافي الجماعي مثل مضيق ملوكا والمضيق التركي وباب المندب أو بوابة الدموع ومضيق لومبوك.
وقال الكاتب إنه ينبغي ألا نخطئ سواء كانت هذه الممرات معروفة أم لا، فإن نقاط الاختناق تحدد ممر العالم البحري، والحفاظ على تلك النقاط الخانقة من دون عوائق هو مصلحة أساسية لأي دولة تعتمد على التجارة المنقولة بحراً من أجل ثروتها ورفاهيتها.
وأضاف أن أحداث الأسبوع الماضي جعلتنا ندرك جيداً أن الانسداد العرضي لإحدى نقاط الاختناق هذه يمثل خطراً دائماً. فهناك دائماً احتمال أن تتعطل سفينة أو ناقلة حاويات وتعيق إحدى نقاط الاختناق الأضيق. لكن الخطر الحقيقي، الذي يبقي شركات التأمين البحري والمخططين الاستراتيجيين البحريين مستيقظين في الليل، هو احتمال الإغلاق المتعمد لنقاط الاختناق هذه بالقوة العسكرية، إما أثناء الحرب أو في النزاعات من دون الحرب. إذ يمكن إغلاق نقاط الاختناق هذه في أوقات النزاع بواسطة الألغام أو الصواريخ أو الحصار. وهذا أسهل بكثير من السيطرة على أعالي البحار أو منع الوصول إلى تلك البحار. وحتى احتمال تصاعد التوترات في أماكن مثل مضيق هرمز يمكن أن يؤدي إلى ارتفاع شديد في أسعار التأمين البحري. وفي حالة إغلاق أي من هذه الممرات الحيوية بسبب عمل حربي متعمد، قد تكون العواقب الجيوسياسية والاقتصادية كارثية.
خلفيات اهتمام الصين بالقطب الشمالي
ورأى الباحث أنه في ظل هذه الخلفية، يجب على المرء أن ينظر إلى الاهتمام الأخير لجمهورية الصين الشعبية بالقطب الشمالي. ففي كانون الثاني / يناير، قدمت الصين سياسة القطب الشمالي، والتي أعلنت فيها أن الصين دولة "بالقرب من القطب الشمالي". وتدعو الوثيقة إلى مشاركة صينية أكبر في "استكشاف الموارد واستغلالها" في المنطقة، وإلى دور أكبر للصين في المنتديات الإقليمية الخاصة بالقطب. وإلى جانب تلك الوثيقة، أوضحت الصين كذلك أنها تتصور دورًا أكبر للجيش الصيني في تأمين المصالح القطبية للصين. وببساطة، ترى الصين نفسها الآن كمشارك نشط وصاحبة مصلحة رئيسية في شؤون القطب
الشمالي. كما تدرك أنها بحاجة إلى تطوير قدراتها العسكرية، والبنية التحتية الأساسية، وما إلى ذلك والتي من شأنها أن تمكنها من الوفاء بمهمتها القطبية.
الموارد النفطية والمعدنية في القطب الشمالي
وأضاف الكاتب أن المنطق الكامن وراء هذه السياسة الصينية الجديدة ذو شقين. فهناك، من جهة، قدر كبير من النفط والغاز الطبيعي والموارد الطبيعية الأخرى التي يمكن الوصول إليها بشكل متزايد مع ذوبان الجليد في القطب الشمالي. وتظهر دراسات مختلفة أن القطب الشمالي يحتوي على ما يقدر بنحو 22 في المائة من موارد الوقود الأحفوري غير المكتشفة في العالم، مع ربما 90 مليار برميل من النفط و1670 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي، تقع تحت المياه الدولية المتنازع عليها في المنطقة. كما تحتوي المنطقة على رواسب كبيرة من العناصر الأرضية النادرة، وهي معادن ضرورية للتكنولوجيات العسكرية والحاسوبية والصديقة للبيئة المتطورة، مثل المركبات الكهربائية وتوربينات طاقة الرياح والألواح الشمسية.
وترى الصين هذه الفرص التجارية والاستراتيجية في القطب الشمالي وهي تستعد لاستغلال تلك الفرص.
ومن جهة أخرى، وبنفس القدر من الأهمية على الأقل، تهتم بكين بالقطب الشمالي لأنه يقدم طريقاً أقل عرضة للخطر إلى السوق الأوروبية. في الوقت الحالي، يجب أن تمر الغالبية العظمى من تجارة الصين مع الشرق الأوسط وإفريقيا وأوروبا عبر اثنين على الأقل من الممرات البحرية في العالم. يشمل الطريق المؤدي إلى الخليج عبور كل من مضيق ملقا ومضيق هرمز.
وللإبحار من مدينة شنغهاي الصينية إلى البحر الأبيض المتوسط، يجب أن تمر السفينة عبر مضيق ملقا وبوابة الدموع وقناة السويس. وفي كل من هذه النقاط الخانقة، يمكن أن تمنع كل من الدول المعادية والجهات الفاعلة غير الحكومية العبور.
وقال الكاتب إنه إدراكاً منها لهذا الضعف الاستراتيجي الموجود في هذا الوضع، بدأت بكين البحث عن بدائل. وكان أحد الأساليب هو الاستثمار في طرق التجارة البرية البديلة من خلال "مبادرة الحزام والطريق". وكان الأسلوب الآخر هو بناء خطوط أنابيب وبنية تحتية للنقل تربط ميناء غوادر الباكستاني بغرب الصين.
كما دأبت بكين على التودد بقوة إلى الحكومة البنمية من أجل تأمين وصول الصين إلى القناة. واقترحت الصين حتى بناء قناة عبر كرا إيثموس في تايلاند بهدف تجاوز مضيق مولوكا.
وأخيراً، زادت بكين حجم بحرية جيش التحرير الشعبي الصيني وقدراتها ووصولها وطورت "سلسلة اللآلئ" - وهي شبكة من المنشآت العسكرية والتجارية الصينية التي تمتد من البر الرئيسي الصيني إلى بورتسودان (في السودان) في القرن الأفريقي - لدعم جهودها للحفاظ على تدفق التجارة البحرية الصينية عبر منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
البحث عن طريق أقصر وأضمن
وأضاف الباحث: قد يكون النهج الأكثر طموحاً هو البحث عن طريق إلى أوروبا وما بعدها يتجنب جميع نقاط الاختناق الرئيسية من شنغهاي إلى بيرايوس، وهو طريق أقل عرضة للاعتراض من قبل القوى المعادية. هذا الطريق، الذي يمتد عبر الجزء العلوي من العالم، هو طريق عبر القطب الشمالي. وعلى عكس طريق البحر الشمالي، وهو ممر قطبي بديل آخر، يمتد على طول ساحل القطب الشمالي لروسيا وداخل المياه الروسية، فإن الطريق العابر للقطب يقع بالكامل تقريباً في المياه الدولية. فهو يمتد من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادئ عبر وسط المحيط المتجمد الشمالي، ويمر بالقرب من القطب الشمالي. وفي حين أن الغطاء الجليدي القطبي لا يمكن ملاحته حاليًا إلا بواسطة كاسحات الجليد الثقيلة، وبالتالي فهو غير مناسب لحركة الملاحة البحرية التجارية، فإن تقلّص الغطاء الجليدي القطبي بحلول عام 2030 سيكون الطريق سالكاً للسفن التجارية.
وتابع أندرو لاثام يقول: مثل هذا الطريق له مزايا تجارية مقنعة. فيمكن أن يكون طريق بحر الشمال للرحلات بين أوروبا والصين، أسرع من قناة السويس بأسبوعين إلى ثلاثة أسابيع. ومن خلال قطع القطب الشمالي مباشرة، يمكن أن يوفر الطريق العابر للقطب يومين إضافيين. كما أن هذا الطريق يقدم شيئاً آخر بنفس الأهمية وهو الميزة الإستراتيجية المتمثلة في عدم المرور عبر أي من نقاط الاختناق الرئيسية في العالم.
وختم الكاتب قائلاً: إن الوقت فقط سيحدد ما إذا تغيّر المناخ وتقلّص الغطاء الجليدي القطبي سيجعلانه طريقاً بحرياً سريعاً قابلاً للتطبيق. لكن بكين تراهن على أنها ستفعل ذلك. وقد تؤدي الأحداث الأخيرة في السويس إلى أن تضاعف الصين رهانها هذا.
*أندرو لاثام أستاذ العلوم السياسية بكلية ماكالستر في سانت بول، مينيسوتا، وهو باحث مشارك في مركز دراسات الدفاع والأمن في كندا.