لم يكن مشهد حشود السوريين مفاجئا للمراقبين الخارجيين فحسب، بل وفي ندوة سياسية أقامتها الرابطة الدولية للمحللين السياسيين تحدث فيها أحد الزملاء من أهالي مدينة دوما مقرا بأنهم قد فوجئوا بأعداد المشاركين الذين فاقوا أضعاف توقعاتهم وقد اختار المرشح بشار الأسد تلك المدينة بالذات ليكون تصويته في أحد مراكزها الاقتراعية..
دوما كانت لسنوات خلت، إمارة اسلاموية يحكمها زهران علوش قبل مقتله أثر غارة جوية نهاية عام 2015، وهي مدينة كبيرة في الغوطة الشرقية والبناء فيها ممتد ليتصل بدمشق، وكان يتلقى على رأس قيادته لما عرف بجيش الإسلام، الدعم السعودي الهائل وكاد أن يحكم السيطرة على منطقة العتيبة التي كانت لتصله مع حوران والجبهة الجنوبية ما كان سيعني وصول قوات مدعومة من الغرب والسعودية لتحكم حصارها على دمشق وقد سبق أن نظم جيش الإسلام عرضا عسكريا شارك فيه خمسة عشر ألفا من المسلحين المدربين..
وعندما تخرج هذه المدينة نفسها دعما للرئيس الأسد فهذه صورة نتوقف عندها.
إذا فنحن لم نكن في السادس والعشرين من أيار 2021 على موعد انتخابي فحسب، بل لقد كنا على موعد مع إعلان سياسي سيادي يتم فيه إعادة انتخاب الرئيس بشار الأسد لولاية جديدة بينما وزير السياحة في حكومته يقوم بزيارة رسمية إلى العاصمة السعودية الرياض..
السؤال المهم هنا هو عن تراكب كل تلك الرموز التي لا تحتاج إلى حل ألغاز بقدر ما تتطلب عودة سريعة إلى تاريخ سورية و الصراع عليها كما يحلو للكاتب البريطاني باتريك سيل أن يعنون به كتابه الشهير، لكن و منذ اول انقلاب عسكري في دمشق بعد الاستقلال عن الانتداب الفرنسي قاده حسني الزعيم عام 1949 بدعم سعودي، و العلاقة الأمنية التي تحكم توازن المنطقة بين دمشق و الرياض تبقى هي الفالق السياسي العمودي الأول لزلازل المنطقة كلها ،و التي أمن لها الرئيس الراحل حافظ الأسد مع الملك فهد بن عبد العزيز و الرئيس المصري حسني مبارك شبكة أمان إقليمية صادت معظم الانواء التي كانت تحل على المنطقة لكل مرحلة ما بعد سقوط الاتحاد السوفيتي و لم تنهار تلك الشبكة التشاركية الا تحت ضربات الجيش الأمريكي على بغداد عام 2003 بقيادة جورج بوش الابن، رغم ان السعودية كما سورية قد تشاركا أيضا موقف رفض احتلال العراق علنا في البداية قبل أن يتراجع الملك السعودي عبدالله كما الرئيس الفرنسي آنذاك جاك شيراك عن موقفيهما تحت الضغط الامريكي و يعقدان التفاهم مع الرئيس جورج بوش أثناء حفل مرور 60 عاما على إنزال النورماندي في حزيران عام 2004 و الذي نجم عنه الاتفاق على القرار 1559 لإخراج القوات السورية من لبنان وهو ما أدى إلى تفكيك عناصر التوازن التي صنعها الثلاثي المستمر لثلاث سنوات مع بداية حكم الرئيس بشار الأسد فيما يسميه رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري (سين سين)اي الصيغة السورية السعودية، ثم اغتيال اهم عناصرها المشتركة في لبنان و هو رفيق الحريري..
إن رمزية اليوم الانتخابي في 26 أيار لا تقتصر على البعد الإقليمي و الدولي حتى و لو لم يبد الجميع كل ما ينتظر من حماسة ممارسة طقوس الإشارات و التحولات، لكنها و في بعدها الاعمق تذهب نحو الشعب الذي ابدي اتجاه شخص رئيسه أملا فعليا لم يبده اتجاه باقي مؤسسات الدولة و أهمها ما شاهده الجميع من الفارق الكبير في حجم المشاركة و التفاعل بين الانتخابات التشريعية لمجلس الشعب منذ حوالي عام و اعقبها ضغط اقتصادي و معاشي هائل و غير مسبوق على الناس بكل شرائحهم و ما اعتبره الكثيرون عجزا حكوميا كبيرا وصمتا وممالئة من النواب أو تلهي في أمور ثانوية دون وجود طروحات ذات فاعلية حقيقية تتعلق بحل أزمات الناس المتفاقمة حتى اعتبر الكثيرون بأن وجوده لا يخرج عن الإطار الشكلي بلا فعالية واضحة ، الا في القضايا التي يتضح فيها استمرار العدوان الاقتصادي على سورية من خلال الهجوم على بواخر النفط و تعمد سرقة نفط و قمح و قطن السوريين من خلال قانون قيصر و الإجراءات الأمريكية المباشرة في العدوان الاقتصادي على سورية و التي يدركها السوريون و يقدرون آثارها تماما ، و كل ذلك قد أصبح ادراكا و وعيا شعبيا دقيقا لكل ما يجري، فهو يعلم تماما أين يعتدى عليه من الخارج، و أين يعاني من أداء مسؤول في حكومته و كيف و أين و بأي مقدار يؤثر ذلك عليه و ما حجم الفساد الناجم عنه..
بعد الحرب نشأ انسان مجتمع سوري له من الوعي الحصيف ما يجعل كل متجاهل لإدراكه متخلفا عن الركب و ليس العكس، ولا مجال بعد اليوم لتجاهل هذا الوعي الجماهيري المسلح بالأمل الذي وعده به رئيسه الذي نزل لانتخابه كما قام بنفس الوقت بالاستفتاء على وحدة البلاد و مركزية قرارها و سيادة الشعب على أرضه بوجه كل الاحتلالات التي يجب أن تزول بفعل التراجع التركي الأمريكي قبل أن يكون للدولة مع حلفائها كلاما اخر...
لقد حدد الشعب السوري كل ملامح المرحلة المقبلة مع رئيسه و هي مرحلة تحرير و سيادة و إصلاح و حوار و عمل كثير من أجل ورشة الاعمار الكبرى التي لا بد أن تنطلق بسواعد ابناء الوطن الذين ضحوا و قدموا بدءا من عائلات الشهداء والجرحى إلى كل من فضل الوطن في أيام المحن و انقطاع المياه و الكهرباء عن الانتظار في محطات الخارج، ثم القدوم مع صفقات أموال الخارج ،فكل صناعي أو مزارع أو تاجر بقى في الوطن و اخلص له سيستحق المعاملة التفضيلية عن أي ممن ترك البلاد في وقت محنته، مع عدم قبولنا بالتخوين المجاني الذي يمارسه البعض بحق الآخرين ،و دوما قد يكون ثمة ظروف عديدة و لكن علينا وضع َمجموعة من المعايير التي تمثل الوفاء لمن قدم أكثر بالمبدأ و أما التفاصيل فعلى ورشة الإصلاح الفكري أن تناقشها بإسهاب صونا لحقوق شعب عاش 10 سنوات لم يعش مثلها شعب في التاريخ، و قد بلغت بعض ملاحمها ما يفوق حصار ستالينغراد.
إن المفاصل الكبيرة تعني تحولات كبيرة ،يتقدمها العقلاء ليستنبطو منها حكمة و قواعد عمل تعينهم على تحصين اعمالهم، و شعار العمل لا بد انه يستوجب كل حكمة و كل قاعدة تعين المتقاطرين في زحمة العمل المقبلة ليتصرفوا كمملكة النحل التي تطير وفق قواعد الحياة المقدرة لها فتنتج من رحيق كل وردة عسلا، و أما مشاهد الفوضى و عته الفساد و قصر رؤى البعض من المسؤولين و قلة حيلتهم اتجاه ما جرى و يجري، فهذا لعمري هو أنصع ما سنجده معدنا مصهورا لإعادة السكب بين كلمتي الأمل و العمل اللتان اطلقهما الرئيس الأسد و لاقاه الشعب عليهما في كل الميادين.